"اسرائيل في عام 2011 هي دولة يهودية وديمقراطية ومنارة مشرقة في قلب شرق أوسط يتسم بالاضطهاد والقسوة". هكذا قال متحدث الكنيست الإسرائيلي "روفين ريفلين" يوم 9 مايو الماضي في كلمة ألقاها بمناسبة إحياء الذكري الثالثة والستين لتأسيس إسرائيل. وقد حرصت إسرائيل منذ قيامها علي ترويج هذه الصورة، باعتبارها واحة الديمقراطية في بحر من الاستبداد والتخلف العربي، و"فيلا في قلب الغابة" كما وصفها وزير الدفاع الإسرائيلي يهود باراك. وقد ساعد علي ترسيخ هذه الصورة في عيون العالم انتشار النظم المستبدة وغير الديمقراطية علي امتداد العالم العربي واشتعال الصراعات الطائفية والحروب الأهلية في بلدان عربية من المفترض أنها تحتكم إلي نظم ديقراطية مثل لبنان. العنصرية المستترة وقد وظفت إسرائيل هذا الواقع العربي لإخفاء سياساتها الممنهجة والثابتة وغير المعلنة للتمييز ضد عرب 1948 الحاملين للجنسية الإسرائيلية طوال العقود الستة الماضية ناهيك عن ممارستها القمعية والوحشية تجاه فلسطينيي الأراضي المحتلة. وقد اقتصرت القوانين الصريحة في تمييزها وعنصريتها كما تشير "ميخال شفارتز" الناشطة الحقوقية الإسرائيلية في "قانون العودة" الذي يمنح المواطنة تلقائيا للمهاجرين اليهود لاسرائيل فقط، وقانون "المواطنة والدخول لاسرائيل" الذي يحرّم عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طُردوا من اراضيهم. كما أن هناك أيضا، "أوامر ساعة" او تعليمات مؤقتة موجهة ضد العرب بذرائع امنية، مثل منع لم شمل العائلات العربية، يجري تطبيقها منذ عام 2002، ويتم تمديدها، ولكنها لم تتحول بعد الي قانون ثابت بسبب طبيعتها العنصرية المكشوفة. بالإضافة هناك قوانين أخري تميز بشكل غير صريح ضد العرب مثل قانون الخدمة العسكرية وقانون استيعاب الجنود المسرحين اللذين يقدمون الامتيازات المالية والاجتماعية لليهودي (أو الدرزي) الإسرائيلي الذي يخدم في الجيش ولا تتوفر للعربي الذي لا يتم تجنيده. كذلك استغلت إسرائيل قوانين الأراضي العثمانية وقوانين فترة الانتداب لتجريد الفلسطينيين من أملاكهم وأراضيهم. العنصرية الصريحة ولكن المفارقة أن يتزامن كلام متحدث الكنيست مع صدور تقرير في شهر إبريل الماضي عن "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل"، وهي منظمة حقوقية غير حكومية إسرائيلية تأسست عام 1972، يتناول دورة الكنيست لشتاء 2010-2011 حيث أعربت فيه الجمعية عن انزعاجها الشديد بخصوص أتساع دائرة انتهاك الديمقراطية في إسرائيل وقلقها البالغ من أن هذه الانتهاكات تتم عبر الكنيست الإسرائيلي من خلال مجموعة واسعة من التشريعات التمييزية، وحذر التقرير من أن الاتجاهات الحالية داخل الكنيست سيكون لها عواقب وخيمة علي المجتمع المدني الإسرائيلي وعلي الحريات وحقوق الإنسان وستعمل علي تعميق الاتجاهات العنصرية وغير الديمقراطية. فمنذ الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في عام 2009 والتي أفرزت إحدي أكثر الائتلافات الحكومية يمينية في تاريخ إسرائيل، بدأ سيل عارم من التشريعات التمييزية التي طُرحت في الكنيست والتي تستهدف المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل. وقد أقر الكنيست الإسرائيلي خلال دورته الشتوية 2010-2011 مجموعة من القوانين سواء بشكل نهائي أو في قراءتها الأولي تستهدف بالدرجة الأولي المواطنين العرب في إسرائيل وتميز ضدهم وتنتهك حقوقهم كمواطنين في الدولة، بل أن بعضها يهدد استقلالية وحرية المؤسسات الأهلية الإسرائيلية يهودية كانت أم عربية وحرية التعبير والتنظيم بشكل عام . محاربة الذاكرة وتقييد حرية التعبير فقد أقر الكنيست في شهري فبراير ومارس 2011 الماضيين أربعة قوانين تمييزية: الأول هو "قانون النكبة" الذي يسمح للحكومة الإسرائيلية بمعاقبة أي مؤسسة تمولها الدولة تُحي ذكري "النكبة"، أو "تنفي وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية". وهذه المؤسسات لا تشمل البلديات فقط، بل كذلك المسارح والمدارس التي تؤدي مسرحيات أو تعرض أفلاماً عن النكبة، أو المنظمات الثقافية والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني الأخري التي تنظم أنشطة متعلقة بذكري النكبة. وإلي جانب ما يمثله هذا القانون من محاربة للذاكرة الفلسطينية، فهو يمثل انتهاكا صريحا لحرية التعبير والتنظيم، كما يهدد بقطع خدمات الصحة والتعليم والإسكان وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأساسية عن البلدات العربية التي تعتمد بشكل كبير علي تمويل الحكومة المركزية للحصول علي هذه الخدمات. العنصرية الجغرافية أما القانون الثاني فهو "قانون لجان القبول" وهو قانون يخوّل"لجان القبول" رسمياً وقانونا - وهي جهات تقوم باختيار المرشحين للسكن في البلدات التعاونية والزراعية في إسرائيل - في حوالي 300 من المجتمعات ذات الأغلبية اليهودية في منطقتي النقب والجليل أن ترفض المتقدمين للحصول علي الإقامة الذين لا يستوفون معايير "الملاءمة الاجتماعية" الغامضة، وهو تشريع يقنن الممارسات التي كانت تقوم بها هذه اللجان لغربلة المتقدمين العرب الفلسطينيين في إسرائيل الذين لا يجدون فرص السكن بسبب التضييق علي البلدات العربية ومنعها من التطور والتوسع، فضلا عن أعضاء الجماعات المهمشة اجتماعيا مثل اليهود من أصول غير أوروبية والأسر ذات الأم غير المتزوجة أو الأب غير المتزوج. و تشير البيانات البرلمانية إلي أن مُتبني القانون أرادوا أن يسمحوا للمجتمعات ذات الأغلبية اليهودية بالحفاظ علي تركيبتها الديموغرافية الحالية عن طريق استبعاد المواطنين العرب الفلسطينيين، وهو عمل من أعمال التمييز العُنصري علي أساس العرق والاثنية و الأصل القومي. و مما يذكر أن السياسة الإسرائيلية طويلة الأمد تسعي إلي تهويد الجليل، وكذلك تشجيع الهجرة اليهودية واسعة النطاق إلي النقب. إبطال المواطنة القانون الثالث هو "قانون بطلان المواطنة بدعوي نشاطات مُعرّفة كتجسس أو إرهاب" والذي يسمح بإبطال مواطنة شخص ما أدين بالتجسس أو مساعدة العدو أو ارتكاب نشاطات إرهابية أو عدم الولاء. ويأتي هذا القانون في أعقاب تعديل سابق أُدخل علي قانون المواطنة في العام 2008، ونصّ علي أنّه يمكن إبطال المواطنة لدعوي "خيانة الأمانة أو عدم الوفاء للدولة"، و كما يشير "مركز عدالة" وهو منظمة حقوقية معنية بحقوق عرب 1948، يأتي هذا القانون والتعديلات كجزء من سلسلة قوانين ومشاريع قوانين تستهدف المواطنين العرب بحيث يسعي إلي جعل مواطنتهم مشروطة وذلك تماشيا مع الشعار السياسي اليميني "لا مواطنة من دون ولاء" وهو الشعار الذي يرفعه" أفيجدور ليبرمان" وزير خارجية إسرائيل ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني العنصري المتطرف. انتهاك حرية التنظيم والتعبير أما القانون الرابع فهو قانون تمويل الجمعيات الأهلية والذي تم إقراره بشكل نهائي في شهر فبراير 2011 وهو يلزم جميع الجمعيات الأهلية الإسرائيلية بتقديم تقارير مفصلة عن مصادر تمويلها من كيانات أجنبية، وهذا القانون بالإضافة إلي مشروعات قوانين أخري مثل مشروع قانون يحظر تسجيل أي جمعية تنفي وجود الكيان كدولة يهودية لدي مسجل الجمعيات، ومشروع "قانون الجمعيات" الذي يسعي لتجريم المؤسسات التي توفر المعلومات للأجانب أو أنها ضالعة في دعوي قضائية في خارج البلاد ضد مسئولين رفيعين في الحكومة الإسرائيلية أو ضباط في الجيش متهمين بارتكاب جرائم حرب، جميعها تأتي في إطار محاولات الحكومة الإسرائيلية والاتجاهات اليمينية منذ عام 2009 لتقييد حرية ونطاق عمل المنظمات والجمعيات التي تدافع عن حقوق الإنسان عامة وعن حقوق المواطنين العرب في اسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة خاصة والمناهضة للاحتلال، سواء كانت هذه المنظمات يهودية أو عربية وتقليص حرية التنظيم والتعبير للمنظمات الأهلية الحقوقية ونزع شرعية أنشطتها. هناك قوانين غير ديمقراطية وتمييزية أخري تم تمرير القراءة الأولي أو التمهيدية لها مثل "مشروع قانون حظر ممارسة المقاطعة" والذي يحظر ويفرض غرامات علي الإسرائيليين أو المقيمين بها الذين يقومون بأي شكل من أشكال المقاطعة ضد مؤسسات أو أفراد أو منتجات إسرائيلية، وقانون أفضلية العمل في جهاز الدولة لمن أتم الخدمة العسكرية الذي يميز ضد العرب المعفيين من التجنيد، ذلك بالإضافة إلي قوانين أخري تم إقرارها علي مدار الأعوام الماضية ومشروعات قوانين جديدة لا تزال مطروحة علي طاولة الكنيست تضيق الحيز الديمقراطي وحرية التعبير في اسرائيل وتقنن العنصرية بشكل واضح وصريح. أزمة المشروع الصهيوني والثورات العربية رغم قسوة وخطورة هذه القوانين علي الشعب الفلسطيني داخل حدود 1948 أو خارجها في الأراضي المحتلة فإنها تعكس في جانب منها مخاوف المشروع الصهيوني وأزمته حيث أنه فشل بعد أكثر من ستين عاما من العنف والاستيلاء علي الأراضي وهدم المنازل والممارسات التمييزية في إقصاء الشعب الفلسطيني من أرضه أو مسح ذاكرته أو كسر إرادته، ومن ثم الفشل في تحقيق الحلم الصهيوني ببناء دولة يهودية خالصة واتضاح كذب وفساد مقولة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب". وهذا السيل من التشريعات العنصرية يجعل إسرائيل رسميا دولة فصل عنصري ويفضح التناقض الأخلاقي لديمقراطيتها المزعومة ويضعها موضع انتقاد شديد من قبل المنظمات الحقوقية الدولية. والمفارقة أن هذا يأتي في لحظة فارقة تشهد إنتفاضة الشعوب العربية لإقصاء حكامهم المستبدين سعيا لإرساء أسس حياة ديمقراطية ومدنية تعزز من قيم المواطنة والمشاركة والعدالة الاجتماعية. وفي حال نجاح هذه الثورات، وخاصة في مصر، في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي فسينفي ذلك إدعاءات إسرائيل بأنها "واحة الديمقراطية" وسط "الغابة العربية" وسيكون بالتأكيد في غير صالح إسرائيل التي حافظت علي وجودها ومصالحها طوال ثلاثة وستين عاما بفضل تواطؤ النظم الاستبدادية العربية. ومن المؤكد أن إسرائيل تنظر بعين القلق إلي احتمالات استعادة مصر لموقعها المؤثر عربيا وإقليميا أو نجاحها في تقديم نموذج للتحول الديمقراطي أو بناء قوتها الاقتصادية والحضارية بشكل يخرجها من دائرة التبعية ومن إملاءات المصالح الإسرائيلية والأمريكية، وهو الأمر الذي يتهدده صعود قوي التطرف والرجعية الدينية وشبح الفوضي والاقتتال الطائفي الذي تفرضه علي مصر، وهو ما يضع قوي "شرعنة التمييز" (سواء علي أساس الدين أو المذهب أو الجنس)" الدينية المتطرفة هذه في نفس الخندق مع مصالح إسرائيل ومع قوي "تقنين العنصرية" الصهيونية المتطرفة.