وأخيراً أتي الدستور، امتلأت أيام كتابته بنقاش وخلاف واختلاف ثم هدأت الكلمات لتشكل دستورا مقبولا من الجميع تقريبا. اقول تقريبا لأن هناك خوارج كنا نتمني أن يأتيهم قدر من العقل لكن البعض لا يعرف العقل طريقا إليه. والمصريون يكادون أن يجمعوا عليه رغم ان الاجماع صعب ومستحيل، ورغم أن لكل منا ملاحظات واعتراضات علي مادة أو جملة أو كلمة، ورغم الفارق الكبير بين "حكمها مدني" و"حكومتها مدنية". فكل منا يجد فيه بعضا من أحلامه لمصر المستقبل ديمقراطية – حرية – ليبرالية – تقدمية – عدالة اجتماعية ولو بقدر ما. هكذا تفرض نعم نفسها علي العقل المصري والمصلحة المصرية ولا يشذ عنها إلا هؤلاء الذين لا أجد لهم وصفا إلا "الخوارج". حتي حزب النور وقف في الصف بعد دوران مشئوم في الفلك الإخواني، حاول أن يجد لنفسه مسلكا معهم ثم تباعد.. وافق علي دستور 2012 ثم علي عكسه في 2013. ولا عيب في ذلك إذا كان عن عودة صادقة للحق والحقيقة وليس مناورة وقتية، وحبذا لو اصدر الحزب تقريرا عن تجربته السابقة في التحالف مع الاخوان فذلك واجب وطني وايضا واجب ديني فمن واجب المؤمن الحق أن ينتقد ما أخطأ فيه من عثار. وهو جانب من جوانب التوبة التي لا تكون فقط عودة إلي الحق وإنما هي درس له وللأخرين وله في ذلك أجران اجر التوبة وأجر حماية الآخرين من تكرار ما وقع فيه من خطأ. أما الآخرون فهم اخوان فشلوا في حكم البلاد وفي كسب رضاء مجمل الشعب ودخلوا موسوعة جينيس في سرعة كسب كراهية كل الناس. والمتأخونون وهم فصائل اخوانية الأصل وإن وقعت المخالفة فإنها أتت بسبب خلافات شخصية أو علي الموقع أو علي المغنم، وإذ يجدون أن التأسلم قد ينتهي موجه ويتراجع فتلاحموا مع الأصل أملا في استعادة الوصل عبر مصالحة لا يكف أحد أركان النظام عن التغني بها، وثمة واحد منهم أسس حزبا بقي به ذيلا للاخوان لا ينتمي تماما ولا يبتعد تماما ثم هو الآن ويعد نفي "النور" لامكانية ترشيح رئيس يستعد لأن يكون المرشح بأمل أن يلتف حوله كل ما تبقي من سلفيين ومتأخونين وخوارج فيغري آخرين من التيار المدني للترشح فتقسم الاصوات المدنية لعله يفلت بمركز الوصيف ويظل يزهو به أملا في أن يظل المحور الذي يتجمع حوله خفافيش التأسلم والخوارج فيحتل موقعا ما في ساحة سياسة لم ينجح في توظيفها لا في الانتخابات الرئاسية السابقة ولن ينجح بالقطع في الجولة القادمة. ونأتي إلي الخوارج وهم عدة اصعاف منهم شباب حركة أو حركات خاضوا بعضا من معارك الرفض أيام مبارك. ورفعوا شعارات شديدة الثورية وبرز بعضهم في يناير 2011 ثم امتد إليهم ملقاط يقظ يعرف كيف يخرب الحركات الثورية ويوظف بعض قادتها. سافروا كثيرا وامتلأت جيوبهم بثراء غير معلوم المصدر بما أدي الي انقسام من بعض يريد أن يقتسم أو يداه نظيفتان. والمثير للدهشة أن بيانات شبه رسمية قالت إن واحدة منهم حصلت علي مليونين ونصف دولار أي مائة وثمانين مليون جنيه ولم تتحرك ابدا للدفاع عن شرفها الثوري ولم ترفع دعوي ولم تقل ما ينفي، وكذلك واحد مثلها لم يحتج ولم ينطق نافيا.. فكيف ولماذا؟ ولهذا سألوني عن سر موقفهم الخادم للإخوان فقلت لا تسألهم لماذا؟ ولكن اسألهم بكم؟ ومثلهم هناك من أسموا انفسهم بالاشتراكيين الثوريين والاناركيين (وترجمتها الفوضويين) ومنهم كثيرون يضعون "الفاندتا" وهو القناع الأوروبي المنشأ والذي ربما يضعونه خوفا من الأمن أو خوفا من احتقار الجماهير لهم. وهم في جوهر الأمر يرفضون السلطة أي سلطة، فيرفضون سلطة الابوين وكل الأسرة- وسلطة المدرسة والوظيفة والدولة والدستور والقانون (مع ملاحظة أن بعضهم يعمل في وظائف مثل التدريس في الجامعة الأمريكية) هم يرفضون كل سلطة وكل نظام ولكنهم إذ تغيب قدرتهم علي استخدام العقل لرؤية دولة اللانظام يخضعون بولاء مستميت للقائد. وكلما رأيت تصرفاتهم غير العاقلة وغير المتبصرة اتذكر رواية "الأرض"La terre والتي تدور حول قرية تعيش قرب منجم للفحم، جميع سكانها يأكلون خبزهم إما بالعمل في المنجم أو للاتجار والتعامل مع عمال المنجم. ثم اضرب العمال تحت قيادة يسارية مطالبين بزيادة الأجر، والرأسماليون أصحاب المنجم رفضوا، استمر الإضراب وأوشك العمال علي الانتصار عبر اصرارهم الثوري ومساندة كل سكان القرية وفجأة تحرك الأناركي الوحيد في القرية وهو مهندس المنجم، كان يتجول دوما في القرية محتقرا كل البشر حاملا بين يديه أرنبا يربت عليه بحنان .. تحرك الأناركي ضد الجميع وفي مواجهة كل القرية وكل الناس ففجر المنجم بما جعله غير صالح للاستثمار. وهكذا هزم الرأسماليين وهزم البشر جميعا وهزم القرية وترك الناس جوعي وبلا أمل في خبز أو حياة. أما هو فقد أفلت باحثا عن قرية أخري والحقيقة هي أن جوهر الموقف الذي يهيمن عليهم هو رفض الآخرين كل الآخرين، لأنهم يؤمنون ايمانا غبيا برفض أي رفض لفكرتهم، ولا يؤمنون بامكانية تجاور النقائض التي يري عقلاء البشر أن تجاورها معا وتعايشها معا بل وتناقضها معا والتأثير المتبادل فيما بينها سلبا وايجابا هو سنة الحياة التي تتجدد عبر هذا التناقض وتعايشه بما يولد حالة جديدة تدفع الفكر الإنساني للامام. هم ضد النظام ومن ثم ضد كل من يبقي مع النظام حتي ولو مخاصما له دون سعي لإزالة أسسه، وهم يرون أنالعنف هو أداة مشروعة لإقرار اللانظام الذي ينشدونه وهذا العنف مشروع لأنه تدمير يتحول إلي قوة دافعه لبناء نظام اللانظام. ويا عزيزي القارئ هل فهمت ما يريدون؟ وسواء فهمت أم لم تفهم فهم لا يهتمون برأيك ولا بمستقبلك ولا بمستقبل الوطن (القرية التي تحدث عنها زولا) وتبقي خرافة نظام اللانظام مهيمنة علي عقول غير عاقلة. وهي ذات الخرافة التي يستخدمها حلفاؤهم أو سادتهم (سيان) من المتأسلمين فعندما وقف شيخ معلنا في رابعة ان جبريل أتاه في المنام.. ناسيا ان جبريل لم يأت لأحد سوي الرسول. وانه رأي في المنام مرسي يأتي لينام علي رجله ويأتي الرسول لينام علي الرجل الأخري ( في مساواة بينهما) وأن الرسول طلب إلي مرسي أن يؤمهم في الصلاة (ومن سنن الصلاة ان الامام فيها هو الاكبر سنا أو الاكثر علما في الدين.. وألف علامة تعجب لا تكفي) إن التعجب الافدح يأتي من ألوف المحتشدين هللوا مصدقين في غيبوبة تامة. وهكذا هم حلفاؤهم في خوارج اليسار ينسون عقولهم أو بالدقة يخلعونها عن عمد كما يخلع الانسان حذاءه ليصدقوا خرافة التحالف والولاء للعدو الإخواني والمتأخون والذي يقف ضد الوطن وضد الديمقراطية والحرية والليبرالية والعدل الاجتماعي ويسعي لفرص فاشية دينية ودون أن يفكروا في العواقب ألم يقل العرب القدامي إن الطيور علي أشكالها تقع؟ وهم يرفضون الدستور ويرفضون صانعيه ويرفضون النظام.. ولا يقومون للوطن بديلا ولا للشعب معينا سوي إما دولة الفاشية الاخوانية أو دولة اللانظام. والناس كل الناس يرفضون هذا وذاك. لكنهم ومع رفض الناس لهم ولسادتهم من الاخوان يسيرون وبلا عقل خلف قيادة نفوذهم إلي التهلكة. ولا نملك سوي أن ندعو لهم بالشفاء مما هم فيه. أو بشفاء الوطن منهم ومما يفعلون ومما يضمرون.