كان الشيخ يتهاوي بوقار في سوق المدينة متأملا لافتات المحلات المتجاورة في تآخ حميم بعضها ينطق بأن صاحب المحل مسلم وبعضها مسيحي، وفيما يستمتع بهذا التجاور الجميل، لمح الشيطان وهو يتأمل ذات اللافتات فتوجه إليه قائلا «يا شيطان ارحل من هذا المكان فالناس هنا طيبون ومتسامحون»، فأجابه الشيطان في دهاء «لكنني يا مولاي لا أدفع أحدا إلي الخطأ هم يفعلون الشر بأنفسهم وإرادتهم»، غضب الشيخ وقال ولكنك تغرس الشر وتفجر الفتنة فقال الشيطان: أبدا، ثم سحبه من يده قائلا سأريك، واقترب الشيطان من محل حلواني يصنع لقمة القاضي يداه تسرعان بقطع العجين إلي وعاء كبير مملوء زيتا يغلي علي موقد مشتعل ثم يأخذها إلي وعاء آخر مليء بالعسل. مد الشيطان طرف إصبعه في العسل ووضع قطرة صغيرة منه علي الحائط الملاصق، فجأة تجمع الذباب علي العسل وأتت قطة محمد الحلواني تتقافز مع حركة الذباب فرآها كلب عم وليم الصائغ فهجم عاويا علي القطة، الحلواني التقط عصا وضرب الكلب فشتمه عم وليم واشتعلت المشاجرة، وتجمع فريقان يتشاتمان ويتضاربان وفي هذا الزحام انسكب وعاء الزيت المغلي ووقع الموقد فاشتعلت النار، الجميع يتضاربون وسوق بأكمله يشتعل.. نظر الشيطان إلي الشيخ قائلا «ما ذنبي أنا يا مولاي إذا كان هنا وأشار إلي رأسه قائلا: لا يوجد عقل وهنا وأشار إلي قلبه وقال لا يوجد تسامح. واختفي الشيطان فقد أتم مهمته تاركا جمعا يتقاتل بلا عقل ولا تسامح. ولو تأملنا ما يجري حولنا بسبب مسببات تافهة تنتهي دوما بمعارك وصراعات وفتنة تشعل جسد الوطن وتمزقه لسألنا أنفسنا هل يمكن أن نلخص أسطورة الشيطان في صورة ثورة مضادة؟ أعتقد، لكن الأمر أكثر عمقا وتعقيدا، فلماذا يتصرف الناس في هذا الموضوع بلا عقل؟ ولماذا يتحدثون عن التسامح ويقبلون بعضهم البعض ربما بنفاق أو حتي بلا نفاق؟ ولماذا يبدو الكثيرون عقلاء وحكماء ثم وفجأة يخلعون ثياب العقل والحكمة وحتي ثياب الوطنية والإنسانية عندما يعوي كلب عم وليم في وجه قطة عم محمد الحلواني؟ بل أين يختفي العقل والتسامح؟ والإجابة ليست صعبة بل هي ماثلة أمام أعيننا لكننا نري ولا نبصر، نسمع ولا ننصت وفجأة ننساق نحو اللاعقل واللاحكمة. واللاعقل يأتينا ومنذ عقود عبر تعليم ردئ وطائفي يلقن المصريين جيلا بعد جيل عدم التسامح والتعصب ورفض الآخر، واللاتسامح يأتي عبر إعلام كارثي يتحدد عبر صحف قومية وتليفزيون حكومي وفضائيات تبث سموم تطرف منسوب إلي الإسلام وآخر منسوب إلي المسيحية، كما أنه يأتينا من إحساس البعض بالاستعلاء متصورين أن إسلامهم سيكتمل وسيضمنون الجنة لو أنهم اضطهدوا قبطيا أو سلبوه حقه، غير مدركين أنهم بذلك يؤكدون ذهابهم إلي جهنم وبئس القرار، ومن ثم يأتينا من الطرف الآخر عبر تراكم الإحساس بالظلم سواء فيما يتعلق ببناء دور العبادة أو حرية العقيدة أو حقوق التوظف المتكافئة أو عبر تجاهل القانون وعدم إعماله وفرض الأسلوب القبلي في التصالح، وما هو بتصالح فالتصالح يأتي عبر أن تنال بعضا من حقك وتتنازل عما تبقي برضائك، لكن التصالح العرفي والقبلات اللازجة والتي تخفي في طياتها عجزا ومذلة لطرف وانتصارا ومكافآت لطرف آخر، العجز والمذلة للمعتدي عليه الذي يرغم علي التنازل عن حقه تحت وطأة التهديد والإكراه والانتصار لمن ارتكب الجرم وخرج بلا عقاب، ولقد حذرنا وأنذرنا وكررنا من خطورة هذا المسلك المشين، وذات يوم سألت وماذا لو استسهل قبطي فعل ذات الشئ وقطع أذن مسلم أو قتل أو أصاب أو دمر أو أحرق.. هل سيكون التصالح؟ طبعا لا، ولو حدث سيكون جريمة أيضا. ولقد يكون الشيطان بل هو بالفعل لم يزل لا يكتفي بالتسكع في سوق المدينة وإنما هو يسرح ويمرح في رحاب تصرفات رسمية غير مسئولة وغير قانونية وغير مصرية تتعامل مع الأقباط بتمييز معلن أحيانا وغير معلن في أحيان أخري والتمييز الرسمي هو الأشد خطرا والأشد وطأة لأنه يشيع بين العامة أن التمييز مفروض ومفترض ومقبول ورسمي، فلماذا لا يفعلونه هم أيضا؟ ولعل هذا الشيطان يعيش أغلب أوقاته في مواقع التأسلم الذي تجلي في أيامنا الأخيرة في تيارات سلفية شديدة التطرف وكلما كان الفرد منهم أكثر تأسلما وتطرفا كلما كان مقبولا في ساحات الإعلام الرسمي وغير الرسمي ويلعب الشيطان لعبة شيطانية أخري عندما يقتاد كل قوي التأسلم إلي التلاعب بالفتنة فعندما تشتعل النيران في السوق يسكب البعض البنزين ليزيد النار التهابا فإن تأكد أنها التهبت بما يكفي، تسحب ليعلن إدانته لما يجري، ولكنه لا يملك إلا أن يعاود الخطأ بل والخطيئة فتجده يعقد مؤتمرات مشتركة معهم مرددا ذات مفرداتهم ومؤكدا تحالفه معهم. خلاصة الأمر هناك خصوم سياسيون للثورة؟ نعم محليون من بقايا النظام القديم؟ نعم، وأجانب من خصوم وأعداء؟ نعم، ولكن لو أن العقل موجود، والتسامح الحق موجود، والإرادة الرسمية موجودة لإقامة الحق والعدل والمواطنة الحقة، ولو ثمة رغبة في تفعيل ما يقول به الحكام تفعيلا حقا ولو أن المسيحيين استشعروا طرف خيط من المساواة في الحقوق، لما أمكن لقط الحلواني وكلب الصائغ أن يشعلا نارا، ولا أمكن للشيطان مهما كان مصدره مصريا كان أو أجنبيا أن يخترق جدار العقل. وعلي المسئولين أن يدركوا أنه وحتي بعد ما أصدروه من وعود بقانون موحد لدور العبادة ومحاسبة جنائية علي التمييز فإنهم لم يستطيعوا أن يكتسبوا ثقة المسيحيين، فهم يقولون سمعنا ذلك كثيرا بل وكثيرا جدا دون تنفيذ، وعلي الحكم أن يكتسب ثقتهم بالتنفيذ العاجل والفوري، وعليه أن يحقق إعمال القانون بحسم، وإنهاض الأمن بحيث يستطيع أن يحمي القانون وعليه أن يكون قدوة فيرفض ويدين ويحاسب رجاله علي كل تمييز في الإعلام الرسمي، وعلي كل تمييز في تولي الوظائف، وحجب بعضها تماما عن الأقباط. خلاصة الأمر أذكر أن الثورة المضادة موجودة وشيطانها يسرح ويمرح ويفعل ما يشاء ولكن: إنا بأيدينا جرحنا قلبنا وبنا إلينا جاءت الآلام