عاجل - كم يسجل سعر الدولار اليوم السبت 18 مايو 2024 في مصر؟    خالد أبو بكر: مصر ترفض أي هيمنة غير فلسطينية على الجانب الفلسطيني من معبر رفح    تفاصيل قصف إسرائيلي غير عادي على مخيم جنين: شهيد و8 مصابين    أكسيوس: محاثات أمريكية إيرانية غير مباشرة لتجنب التصعيد بالمنطقة    تامر عبد الحميد: نهائي الكونفدرالية يحتاج 11 مقاتل في الملعب    رقص أحمد السقا مع العروس ريم سامي على غناء عمرو دياب «يا أنا يا لاء» (فيديو)    مفتي الجمهورية: يمكن دفع أموال الزكاة لمشروع حياة كريمة.. وبند الاستحقاق متوفر    شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة "اصليح" بخان يونس جنوب قطاع غزة    لبنان: غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الخيام جنوبي البلاد    مصطفى الفقي يفتح النار على «تكوين»: «العناصر الموجودة ليس عليها إجماع» (فيديو)    بعد 94 دقيقة.. نوران جوهر تحسم الكلاسيكو وتتأهل لنهائي العالم للإسكواش 2024    قبل مواجهة الترجي.. سيف زاهر يوجه رسالة إلى الأهلي    «مش عيب تقعد لشوبير».. رسائل نارية من إكرامي ل الشناوي قبل مواجهة الترجي    «لو هتخرج النهارده».. حالة الطقس اليوم في مصر وموعد انتهاء الموجة الحارة    مذكرة مراجعة كلمات اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي نظام جديد 2024    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 في محافظة البحيرة.. بدء التصحيح    إصابة 3 أشخاص إثر حادث تصادم بقنا (أسماء)    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب اليوم السبت 18 مايو بالصاغة بعد الارتفاع الكبير    عمرو أديب عن الزعيم: «مجاش ولا هيجي زي عادل إمام»    سعر العنب والموز والفاكهة بالأسواق في مطلع الأسبوع السبت 18 مايو 2024    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    هل مريضة الرفرفة الأذينية تستطيع الزواج؟ حسام موافي يجيب    مؤسس طب الحالات الحرجة: هجرة الأطباء للخارج أمر مقلق (فيديو)    تعرف على موعد اجازة عيد الاضحى المبارك 2024 وكم باقى على اول ايام العيد    منها سم النحل.. أفكار طلاب زراعة جامعة عين شمس في الملتقى التوظيفي    نحو دوري أبطال أوروبا؟ فوت ميركاتو: موناكو وجالاتا سراي يستهدفان محمد عبد المنعم    تعادل لا يفيد البارتينوبي للتأهل الأوروبي.. نابولي يحصل على نقطة من فيورنتينا    حضور مخالف ومياه غائبة وطائرة.. اعتراضات بيبو خلال مران الأهلي في رادس    طرق التخفيف من آلام الظهر الشديدة أثناء الحمل    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    «الغرب وفلسطين والعالم».. مؤتمر دولي في إسطنبول    محكمة الاستئناف في تونس تقر حكمًا بسجن الغنوشي وصهره 3 سنوات    وسط حصار جباليا.. أوضاع مأساوية في مدينة بيت حانون شمال غزة    إصابة 6 أشخاص بطلقات نارية في معركة خلال حفل زفاف بأسيوط    سعر اليورو اليوم مقابل الجنيه المصري في مختلف البنوك    أكثر من 1300 جنيه تراجعا في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 18 مايو 2024    حظك اليوم برج العقرب السبت 18-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هاني شاكر يستعد لطرح أغنية "يا ويل حالي"    «اللي مفطرش عند الجحش ميبقاش وحش».. حكاية أقدم محل فول وطعمية في السيدة زينب    "الدنيا دمها تقيل من غيرك".. لبلبة تهنئ الزعيم في عيد ميلاده ال 84    عايدة رياض تسترجع ذكرياتها باللعب مع الكبار وهذه رسالتها لعادل إمام    خبير اقتصادي: إعادة هيكلة الاقتصاد في 2016 لضمان وصول الدعم لمستحقيه    ماسك يزيل اسم نطاق تويتر دوت كوم من ملفات تعريف تطبيق إكس ويحوله إلى إكس دوت كوم    دار الإفتاء توضح حكم الرقية بالقرأن الكريم    "الذهب في الطالع".. خبير اقتصادي: يجب استغلال صعود المعدن الأصفر    إبراشية إرموبوليس بطنطا تحتفل بعيد القديس جيورجيوس    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    دراسة: استخدامك للهاتف أثناء القيادة يُشير إلى أنك قد تكون مريضًا نفسيًا (تفاصيل)    حدث بالفن| طلاق جوري بكر وحفل زفاف ريم سامي وفنانة تتعرض للتحرش    انطلاق قوافل دعوية للواعظات بمساجد الإسماعيلية    الأرصاد تكشف عن موعد انتهاء الموجة الحارة التي تضرب البلاد    "الصدفة خدمتهما".. مفارقة بين حارس الأهلي شوبير ونظيره في الترجي قبل نهائي أفريقيا    هل يمكن لفتاة مصابة ب"الذبذبة الأذينية" أن تتزوج؟.. حسام موافي يُجيب    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمثال شهدي عطية الشافعي رمز لشهداء التعذيب
نشر في الأهالي يوم 26 - 08 - 2010

قرأت في صحيفتنا «الأهالي» (الاربعاء 28 يوليو ) لأستاذي محمد حافظ دياب، مقالته الضافية " دروس شهدي عطية الشافعي"، والتي يتناول فيها بإسهاب محطات كفاح المناضل الشهيد، كما قرأت ما كتبه الصديق بهي الدين حسن، في صحيفة الدستور (21 / 7 ) والذي يرجع فيه ماجري بمصر من تعذيب واعتقال إلي ما حدث فجر 23 يوليو، كما كتبت أنا أكثر من مرة عن الاعتقالات السياسية بين عهدي الملكية والجمهورية، ولقد قرأت من قبل عشرات المذكرات التي كتبها ضحايا ذلك العهد من المعتقلين السياسيين، فقرأت مذكرات الراحلين: شيوعيون وناصريون لفتحي عبد الفتاح، ومذكرات معتقل سياسي للسيد يوسف، ومذكرات الفريد فرج، كما قرأت للأحياء منهم - أمد الله في أعمارهم جميعا -عمي سعد زهران، وفخري لبيب، ورفعت السعيد، وطاهر عبد الحكيم، وصليب ابراهيم، وعمي فوزي حبشي وزوجته ثريا شاكر.
المهم تؤكد تلك القراءات أن التيار اليساري الاشتراكي في مصر أصيل وقديم، قدم التيار الرأسمالي الليبرالي نفسه، فعندما كان يتجمع أنصار الليبرالية في أول حزب يدعو لليبرالية والاستقلال الوطني، وهو حزب الأمة بزعامة احمد لطفي السيد، سنة 1907، كان قد تأسست قبله بعقد كامل أول نقابة ذات توجهات اشتراكية لعمال السجائر سنة 1898،
وبينما تأسس حزب الوفد بزعامة سعد زغلول، سنة 1919، تأسس أول اتحاد لعمال مصر باسم الاتحاد العام للعمل، سنة 1921، والحزب الاشتراكي المصري سنة 1921، وسرعان ما غير اسمه إلي الحزب الشيوعي المصري، بزعامة محمود حسني العرابي، وقد واكب هذا التأسيس لتنظيم اليسار والوفد، تأسيس بنك مصر برعاية طلعت حرب، وهو أول مؤسسة وطنية لرؤوس الأموال المصرية.
وللنجاح الذي صادفه الحزب بين صفوف عشرات المثقفين والعمال، ولنجاحه في قيادة الحركات العمالية الاحتجاجية في العديد من المواقع المهمة، فإن سعد زغلول - رئيس الحكومة وقتها - ناصبه العداء حتي نجح في الغاء مؤتمر الحزب، والقبض علي زعمائه، والقضاء علي الحزب نفسه.
نضال مستمر
إلا أن نضال اليسار والاشتراكيين لم يتوقف،ففيما يتعلق بالاستقلال الوطني، قدموا أطروحات أكثر جذرية ووضوحا من رؤية الوفد، الذي لم يتخل أبدا عن سياسة التفاوض مع الانجليز، وهي السياسة التي انتهت بحريق القاهرة، وبقاء قوات الاحتلال البريطاني، مما مثل دافعا قويا لالتفاف الجماهير حول ثورة يوليو وضباطها الاحرار،
كما اختلفت رؤية القوي الاشتراكية بداهة، عن ذلك الفريق الديني والفاشي الذي تصور أنه بالإمكان الاستعانة بالألمان لحل المسألة الوطنية إبان احتدام معارك الحرب العالمية الثانية، وراح لسان حالهم يقول ب"الحاج محمد هتلر، وتقدم ياروميل" وكان علي رأس هذا الفريق الملك فاروق واحمد ماهر.
وفي القضية الديمقراطية كان واضحا أمام الاشتراكيين مأزق الديمقراطية المصرية، ديمقراطية كبار الملاك من حيث استكانة الأحزاب القائمة لسلطات الملك الواسعة في الانقلابات الدستورية،وتعطيل البرلمان التي حرم بسببها حزب الوفد من حقه الشرعي والديمقراطي في الحكم إلا ست سنوات من فترة تصل إلي ثمانية وعشرين سنة(1924- 1952 )، وحتي تلك السنوات الست كانت إرادة ورغبة الانجليز هي العنصر الحاكم فيها، ومن هنا فقد دارت اجتهاداتهم حول ديمقراطية تعتمد علي محورين أساسيين، وهما: إطلاق حرية تكوين الأحزاب، وضمان حريتها في التنظيم والتعبير والنشر والاتصال بالجماهير،وتقييد سلطة الملك بحيث تصبح الإرادة الشعبية هي صاحبة الكلمة الأولي والأخيرة في ولاية الحكم.
وفي القضية الاجتماعية، طرحت القوي الاشتراكية أفكارها حول تحديد الملكية الزراعية، وتمصير الشركات الأجنبية، واشتراك العمال في إدارة وملكية مؤسساتهم الاقتصادية.
ودارت اجتهاداتهم تلك في إطار سياسي ثوري وشعبي وديمقرطي، في نفس الوقت لم يطرحوا أبدا فكرة الثورة الدموية، أو قتل الملك والتخلص من الرأسماليين والإقطاعيين أوالانقلاب علي قيم المجتمع وتراثه وعقائده
لا للعنف
ورغم حفاوة الاشتراكيين المصريين بثورة أكتوبرالاشتراكية العظمي في روسيا، واشتراكهم في الأممية التي قادتها فإنهم لم يظهروا تعاطفا مع قتل القيصر نيقولا الثاني، ولا مذابح ستالين لأعداء الثورة - أرجو أن يلاحظ القارئ الكريم أن جمال عبد الناصر والسادات قد أكدا في مذاكراتهما، فلسفة الثورة والبحث عن الذات، اشتراكهما في محاولات اغتيال الرجل الطيب" مصطفي النحاس" 0ومن هنا فقد مثل الاشتراكيون تيارا شعبيا أصيلا، انتشر انتشارا واسعا في مختلف البلاد المصرية، وحصل علي أنصاره وقادته من بين مختلف فئات الشعب وطبقاته، فتجد منهم ابناء الباشوات والوزراء والأرستقراطيين، كما ستجد منهم ابناء المعلمين والحرفيين وشيوخ الأزهر وابناء الفلاحين والعمال وعمال التراحيل في نفس الوقت، ولعل تلك الشعبية التي حظي بها التيار الاشتراكي،ونجاحه في العمل في القري والمصانع ومختلف الأحياء،كانت هي سر العداء الذي بدا من تعامل كل القوي الرسمية بما فيها الوفد منهم.
طبعا كانت هناك العديد من القضايا الخلافية بين مختلف الفرق الاشتراكية، بعضها يتعلق بدور الأجانب في الحركة، رغم أنهم لم يكونوا أجانب كما نفهم الآن، وإنما كانوا متمصرين يعيشون بينهم ويدخل أولادهم مدارسنا ويستقبلونهم في بيوتهم ويملكون العقارات والشركات ويتعاملون مع الدولة والمواطنين بالبيع والشراء، ولم يكن وجودهم عائقا أمام نمو وانتشارالحركة الاشتراكية، لاقتناع الكثير منهم بدورالمواطنين المصريين الخالص من ناحية، ومن ناحية أخري نمو جيل جديد من القادة الاشتراكيين المصريين، كشهدي عطية الشافعي، واسماعيل صبري عبد الله وكمال عبد الحليم وبهيج نصار وعبد المعبود الجبيلي وفؤاد مرسي وفوزي حبشي وسعد زهران وفريد حداد وأنور عبد الملك،وغيرهم كثير.
الشيوعيون ويوليو
المهم كان لكل تلك العوامل التي ميزت الحركة الاشتراكية، ما دفع تنظيم الضباط الأحرار للتعاون معها، والاستفادة من جماهيريتها ومطابعها وقدرتها علي صياغة وطبع وتوزيع المنشورات، كما ضم إلي صفوفها الأولي أربعة منهم أصبحوا من كبار كوادره وهم: الضباط يوسف صديق، وخالد محيي الدين، واحمد حمروش، والأستاذ احمد فؤاد، وطبعا نعرف أن يوسف صديق وخالد محيي الدين كانا من أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة - ثورة يوليو - ولكن لرؤيتهما المبدأية وتمسكهما بالديمقراطية، ورفضهما لسياسة المحاور والمساومة والتآمر والإغراء أو التهديد بسيف المعز وذهبه، سرعان ما غادريوسف صديق مجلس قيادة الثورة إلي الاعتقال، وخالد محيي الدين إلي المنفي.
القصد، أن الثورة ومجلس قيادتها تبنوا بالكامل أفكار الاشتراكيين في المسألة الاجتماعية، فحددوا ملكية الارض، ووزعوا معظم مااقتطعوه علي الفلاحين المعدمين، كما راحوا يتفاوضون لتحقيق الجلاء، ويستعدون لتأميم القناة، غير أن البون كان شاسعا في رؤيتهم للقضية الديمقراطية، فقد آمن الاشتراكيون بحكم الدستور والبرلمان والشعب، وحرية تكوين المنظمات السياسية والجماهيرية، وحرية وحق العمال في تأسيس نقاباتهم المستقلة.
ولكن بمجرد ما بدت النوايا الاستبدادية لثوار يوليو، والعمل علي البقاء في الحكم بلا دستور ولا قانون ولا تنظيمات سياسية حرة، وبمجرد ما حلت الثورة كل أحزاب ما قبل يوليو بجرة قلم، وآثر قادتها الانزواء والصمت، اكتفاء بدورهم السابق قبل الثورة وخوفا من الاعتقال والتنكيل وبطش الثوار وأحذيتهم الثقيلة، بدأت القطيعة بين الاشتراكيين والثورة.
وهكذا كشر ثوار يوليو عن أنيابهم وقلبوا للاشتراكيين ظهر المجن، فبدأت محنهم المتصلة مع السجن والفصل التعسفي وقطع الأرزاق والحرمان من العمل والتشريد والمطاردة وتقديمهم لمحاكم استثنائية بلا ضمانات ولا قضاة طبيعيين، يحاكمون بقوانين شاذة تحاكم علي المعتقد والرأي والتعبير وحيازة الكتب والمنشورات والصور والأحبار وأدوات الطباعة
وتحمل الاشتراكيون المحنة بقدرة فذة علي الصمود والصبر والتنظيم والاحتماء بالناس، فيخرجون من السجون، ليشتركوا ببسالة منقطعة النظير في مقاومة العدوان الثلاثي سنة 1956، وليواصلوا نضالاتهم والدعوة لمبادئهم وحشد الأنصار وتجنيد الكوادر، ومناقشاتهم حول طبيعة السلطة الناصرية وتجربة الوحدة مع سوريا، ويواصلوا أيضا انشقاقاتهم وخلافاتهم الايديولوجية وسعيهم لوحدة الحركة الاشتراكية والحفاظ علي استقلالية تنظيمهم السياسي الثوري
تعذيب شرس
ومن ثم لم تجد سلطة يوليو بدا من اللجوء إلي سيف الاعتقال الرهيب،ثم التعذيب الشرس المسعور المنعتق من كل القوانين والأعراف والشرائع، يقوم به نماذج من البشر هم أحط وأخس النماذج البشرية التي تستمتع بسادية منقطعة النظير، بلا رجولة ولا شرف، بتجويع وجلد وتهشيم عظام، أسراهم المجردين من أي قدرة وأي غطاء قانوني سوي قوة عزيمتهم وإيمانهم بقضيتهم وقضية شعبهم، من أنبل النماذج البشرية: شعراء وفنانين وأدباء كتاب وصحفيين وأطباء ومعلمين وأساتذة جامعيين وغيرهم
في ظل هذه الظروف تم القبض علي المناضل شهدي عطية الشافعي، وقدم إلي المحكمة العسكرية في الاسكندرية، وتقرر ترحيله إلي سجن أوردي ليمان أبي زعبل، ليلة 15 يونيو 1960، مع39 من رفاقه،منهم الكاتب الكبير صنع الله ابراهيم وأحمد القصير، وبهيج نصار، ووصلوا فجرا وقبيل السجن بمسافة كبيرة يبدأ حفل الاستقبال الرهيب، عساكر وصولات بلا ضمير ولا قلب ولا معني، كالكلاب المسعورة، إذا أمرها صاحبها أن تنهش لحم ضحيتها وتهرس عظامه، يركبون الخيول ويحملون سياطا وشوما غليظا، يجردون المناضلين من ملابسهم، ويجلدونهم ويمرمغونهم في الوحل والتراب، حتي يصلوا إلي باب الليمان، بعد أن ارتفع الضحي، عراة، جلودهم ولحومهم ممزقه، أجسادهم دامية، أنفاسهم لاهثة، أبصارهم زائغة، لا تكاد تري تحت قدميها
هكذا وجد شهدي عطية الشافعي نفسه أمام جلاديه، منتصب القامة- كان عريض المنكبين وطويلا بائن الطول - رافع الرأس رغم الجراح الدامية
لم يكن شهدي عطية مجرد واحد من المناضلين، ولكنه كان الأب والزعيم والقائد، ولد بالاسكندرية سنة 1912، وحصل علي ليسانس الأدب الانجليزي ثم الماجستير من جامعة "أوكسفورد" ببريطانيا، وأصبح أول من يتولي من المصريين منصب مفتش أول اللغة الانجليزية بوزارة المعارف، انتمي للحركة الشيوعية منذ منتصف الثلاثينيات، وقدم أقصي ما يستطيع لقضية الشعب جهدا وعلما ومالا وتضحيات وسنوات الشباب التي تزوي خلف الجدران، فنال اعتراف الرفاق جميعا بأنه الزعيم والقائد والرمز
بادره الجلاد ( اسماعيل همت قائد المذبحة، ومعه: يونس مرعي وحسن منير، وصلاح طه وعبد اللطيف رشدي) الجالسون تحت شمسية تقيهم وهج ضحي شمس يونيو:
- انت بقي شهدي؟.. اسمك إيه ياله؟
فيرد البطل بثبات: شهدي
- شهدي مين يا ابن ال.........
- فاكر نفسك علم يابن ال ......
ويشير بحاجبيه وعينيه بهمجية إلي صف الكلاب الواقف في الخلف، فينهالون علي الجسد العاري الدامي بالشوم، لايهم أين يقع الشوم؟ علي الرأس، علي الكتف، علي الظهر، علي الضلوع، من يهتم؟
فيغمي علي البطل تحت وقع الشوم الغليظ، ثم ينتصب من جديد
- قول اسمك بالكامل وزعق يا ابن ال......
وينهال الشوم ويغمي علي البطل من جديد، وينتصب من جديد، مرات ومرات.
وأخيرا يلقي إليه الجلاد بالأمر الحاسم، والسؤال الفاصل، " بين ذل العيش أو عز المنية"
- يابن ال...... قول: أنا مرًة
وما كان شهدي ليقولها، وهو يعلم أن رفاقه يشهدون، والتاريخ كذلك يشهد، فتوالي الضرب بعنف وسرعة ووحشية، حتي سقط البطل ولم ينتصب من جديد أبدا
لابد أنه قد همس لنفسه مع أنفاسه الأخيرة: "ما أهون أن ينهار الجسد، وتنقطع الأنفاس، إذا كانت البطولة كاللواء المخضب بالدماء، ستنتصب عالية فوق رؤوس الجلادين؟ ما أهون أن يموت الجسد ويعيش الموقف والمبدأ والاختيار الحر النبيل"
هكذا استشهد البطل، ولان ماحدث كان علي مرأي ومسمع من الرفاق ولأن شهدي لم يكن قليل الشأن أو ضئيل المكانة، فلم يكن من السهل أن تحمله سيارة نصف نقل ليدفن تحت رمال الصحراء ويكتب في دفاتر المعتقل أمام اسمه: " هارب "، فوضع علي سرير ضيق داخل زنزانة قذرة كتبوا علي بابها: "المستشفي"
وكان لا بد من استدعاء الأب علي عجل مصحوبا بالإرهاب والرعب اللازمين، ليتسلم جثمان البطل مع التعليمات الصارمة: "الوفاة حدثت نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية والقلب"، هكذا ينص تقرير الطبيب الشرعي، ولقد تم إعداد الجثمان بتغسيله وتكفينه، وسوف يصاحب الجنود الجثمان حتي يتم دفنه في مقابر العائلة، وغير مسموح بتقبل العزاء في مضيفة أو سرادق، وإن كان لا بد، فقبول العزاء من أقارب الدرجة الأولي فحسب داخل جدران المنزل
لا أحد يعلم علي وجه اليقين، مالذي دار بعقل الرجل، وهو يري الجثمان المسجي أمامه: حصاد أيامه ومناط أحلامه، ومحتوي آماله وأمانيه، ابنه الشامخ فلذة كبده الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وكان ملء السمع والبصر، جسدا هامدا بلا حراك
المهم، قال الرجل لابد أن أري وجهه - ربما كان يريد أن يقرأ عليه السلام - فقيل: ممنوع، هذه هي الأوامر، قال الرجل الباسل: إذن فلن أتسلمه، ما الذي يمكن أن يخشاه الرجل أو يحرص عليه بعد رحيل شهدي، وبعد أن أدرك الجلاد أن عناد الرجل لن يتزحزح، أسقط في يده وكشف وجهه، ومال الرجل بوجهه علي الوجه المحبوب، وشهد نياشين الشرف التي تتزاحم فوق الوجه جراء الضرب الشرس، كما شهد أكليل الغار الذي يحيط بالجبين المتوهج، رغم برودة الموت، فانحني وطبع علي الجبين قبلة ملتاعة، اعقبتها بضع قطرات من الدموع الحارة، وغطي الوجه وصحبه وانصرف، وأتم الدفن، وفي اليوم التالي توجه لصحيفة الأهرام، لم تكن صفحة الوفيات قد خضعت لعين الرقيب بعد، فكتب فيها من رائعة أبي تمام:
"فتي مات بين الطعن والضرب ميتة / تقوم مقام النصر لو فاته النصر تردي ثياب الموت حمرا فما/ دجي له الليل إلا وهي من سندس خضر وقد كان فوت الموت سهلا/ فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر"، أستشهد المناضل شهدي عطية الشافعي
نهايته وختامه
أنا لا أريد أن أنكأ جراحا اندملت، أولم تندمل بعد، ولا أريد أن أصفي حسابا مع مرحلة أو مع أحد، وإنما أردت في هذا العرض الوافي لحادثة استشهاد شهدي، أن أنبه لخطورة الاعتقال والتعذيب، الذي يستهين بحقوق الإنسان وكرامته بل وبروحه، وهو للأسف ممارسة مازالت مستمرة منذ فجر الثالث والعشرين من يوليو حتي اليوم، ويقول أستاذنا الدكتور قدري حفني- أحد المعتقلين السابقين - أن خطا واحدا هو الذي يصل ما بين شهدي وخالد سعيد، الاستهانة بكرامة الإنسان وحياته، ويري أن الاعتقال في السابق كان يطال فقط المعارضين السياسيين، الذين يقبع الآلاف منهم خلف الجدران حتي الآن، أما اليوم فإنه يطال أي إنسان
وأخيرا لقد اكتتب الناس من قبل لإقامة تماثيل لعرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وطلعت حرب وسعد زغلول، وأنا لا أظن تضحية شهدي بحياته بأقل من تضحياتهم جميعا
ومن هنا فإنني أدعو إلي تشكيل لجنة قومية لإقامة تمثال صرحي لشهدي عطية الشافعي ليكون نصبا تذكاريا لضحايا الاعتقال والتعذيب
واقترح أن تساهم فيه جميع الأحزاب السياسية، وجمعيات المجتمع المدني، الحقوقية منها خاصة، وعدد من الشخصيات العامة، ورفاق وأصدقاء شهدي الذين مازالوا معنا، متعهم الله بالصحة والعمر
وبمجرد أن تعلن اللجنة عن رقم الحساب الخاص بتكاليف ذلك التمثال، أعلن من الآن عن تبرعي بألف جنيه لعلي بذلك أحوز قصب السبق في هذا العمل النبيل، ولعلي بذلك أكون أحد الباحثين لأولادنا عن مستقبل بلا تعذيب ولا معتقلات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.