في الساعات الاولي من فجر الخامس عشر من يونيو عام1960, وفي معتقل أبي زعبل قتل المناضل والكاتب الشيوعي شهدي عطية الشافعي أثناء تعذيبه, وبسبب انتمائه لحركة الديمقراطية للتحرر الوطني( حدتو) وبعد أربعة عشر عاما علي هذه الجريمة, انتصر القضاء المصري لشهدي عطية ميتا, وأصدر حكما تاريخيا بإدانة القتلة ووصفهم بأنهم تجردوا من القيم الانسانية والاخلاقية فهم وحوش آدمية انتهزت فرصة وقوع فريستهم بين أيديهم مجردا من الحول والقوة, وارتكبوا معه من صنوف التعذيب ماتقشعر منه النفس ويشيب من هوله البدن, وأكد القضاء المصري أن جريمة التعذيب لاتسقط بالتقادم, حيث صدر الحكم بعد أربعة عشر عاما من الجريمة البشعة: من جانب آخر يعرف المهتمون بتاريخنا المعاصر الدور الذي لعبه شهدي عطية الشافعي(1912 1960) في الحركة الوطنية المصرية سواءقبل ثورة23 يوليو أو بعدها, فقد كان في الاربعينيات من القرن الماضي مديرا لدار الابحاث العلمية وأسس مجلة الفجر الجديد وجريدة الجماهير, وتعرض للسجن مع الاشغال الشاقة سبع سنوات منذ عام1948, وكان آخر معتقل سياسي يلحق بالنظام الجائر والبائس الذي يقضي بربط قيد حديدي ثقيل في قدمي المسجون طبقا لعقوبة الأشغال الشاقة, وخرج من السجن ليؤسس مركز الترجمة والنشر كذلك أصدر عددا من الكتب السياسية والتاريخية المهمة من بينها ماذا تريد أمريكا للشرق الأوسط عام1956, وتاريخ الحركة الوطنية المصرية1882 1956 في العام التالي..وغيرهما من الكتب والمقالات. هذا الجانب السياسي والفكري, والنضال المتواصل خلال عقدي الاربعينيات والخمسينيات هو المعروف عن شهدي عطية الشافعي, لكن الصديق شعبان يوسف كشف عن خبيئة للشهيد الراحل لم تكن معروفة مطلقا, بل ان كاتب هذه السطور الذي قضي مايقرب من عامين في اعداد كتاب عن حدتو سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية وصدر عن دار الهلال عام2007 لم يصادف مايفيد أن شهدي الذي كان أحد أعمدة حدتوله انتاج أدبي. وإذا كان هناك بعض المشتغلين بالسياسة قد تعاطوا الي هذا الحد أو ذاك مع الشعر والرواية, إلا أن أغلبهم من مختلف التيارات والاتجاهات اتخذوا من الأدب مطية لأفكارهم السياسية, أما شهدي عطية الشافعي في روايته حارة أم الحسيني التي صدرت أخيرا عن المجلس الأعلي للثقافة فهي أمر مختلف لأن القاريء أمام عمل روائي حقيقي يؤكد أننا لم نخسر شهدي عطية في السياسة بقتله تحت ضربات الجلادين, بل خسرنا شهدي روائيا أيضا. حارة أم الحسيني عمل يمكنه بيسر أن يقف في صدارة الأعمال الصادرة في أوائل الخمسينيات, أي أعمال يوسف ادريس وفتحي غانم وعبد الرحمن الشرقاوي, كما أن بينه وبين واحده من فرائد عقد الرواية المصرية وشائج وصلات وثيقة, وهي رواية د. مصطفي مشرفة اليتيمة قنطرة الذي كفر والتي كتبها صاحبها بالعامية في تجربة ساحرة بحق. أبادر سريعا إلي القول بأنني لا أعني تأثر شهدي بمصطفي مشرفة بل إن كلاهما كشف عن معرفة نادرة بالحارة المصرية, واحساس أكثر ندرة بالمصريين, وقدرة فذة علي التعبير عن الحارة والناس دون الوقوع في فخ تمجيد الفقراء واعتبارهم ملائكة شرفاء! فعلي سبيل المثال استطاع الكاتب أن يحل واحدة من أعقد المشاكل التي تواجه الروائي بكل سهولة, وهي الضمير الذي يستخدمه ومايترتب علي هذا الاختيار من سلسلة من الحلول,اختار شهدي أن يري من خلال عيني الطفل سيد, وفي الوقت نفسه لم يحك الرواية علي لسانه بضمير الأنا, ومن خلال هذه الحيلة استطاع من ناحية أن يحقق الاحكام و الإنضباط من حيث الشكل, ومن ناحية أخري نجا من تقمص الطفل سيد, وماقد يترتب علي ذلك من مشاكل فنية. تدور أحداث حارة أم الحسيني في النصف الاول من القرن الماضي في الاسكندرية أي في أعقاب ثورة1919, وتبدأ الرواية بوصول أسرة الطفل سيد ليسكنوا في حارة أم الحسيني بعد أن نزحوا من ريف الزقازيق, وفي يسر شديد يري القاريء بل ويتلمس سكان هذه الحارة المصرية بخيرهم وشرهم,بشهامتهم وخبثهم, بضعفهم وقلة حيلتهم ومحاولتهم المضنية ليظلوا علي قيد الحياة. وتنشأ علاقة فاتنة بين الطفلين سيد وأطه ابنة أم الحسيني التي تسكن أسرة سيد في احدي شققها يدير شهدي عطية الاحداث باقتدار روائي كبير حقا من خلال عيني الطفل سيد الذي يفشل بسبب شيطنته وشقاوته في استكمال دراسته, خصوصا أن والده موظف غلبان يعتمد علي المجانية التي كانت تمنح للفقراء أيامها, وتقرر فصل سيد وذهب به أبوه الي نجار ليعمل صبيا في ورشة نجارة, وتفقد الأسرة حلمها بتعليم أحد أبنائها الفقراء. وهنا اختلف مع الصديق شعبان يوسف الذي أشار في مقدمته الضافية الي ان الرواية تتجه لتمجيد الطبقة العاملة التي يدافع عنها شهدي بوصفه شيوعيا والحقيقة فيما أتصور أن الاخلاص لمنطق الرواية والأحداث هو ماقاد شهدي لذلك الاختيار أي فشل أحلام الفقراء في التعليم, واضطرارهم للخروج الي سوق العمل منذ طفولتهم. بل ان ما اعتبره شعبان هتافا في السطور الأخيرة للرواية لم يكن أكثر من خاتمة فيها من الشجن الكثير يقول المعلم حموده الاسطي النجار لصبيه سيد الذي أجبره أبوه علي الالتحاق بورشة النجارة: شوف يا سيد..احنا الصنايعية, احنا كل حاجة, بص كده للبيوت دي مين اللي يبنيها, احنا الصنايعية, شوف الهدوم اللي كل الناس بتلبسها, بين اللي بينسجها ويغزلها برضه احنا الصنايعية..لاتقول لي بتوع مدارس ولا افندية ولاباشوات..احنا الصنايعية..احنا كل حاجة..احنا وبس. وحتي اذا كان هناك تمجيد للطبقة العاملة, فإن المهم بالطبع هو منطق الرواية والأحداث ومدي الاخلاص لهما وعدم اقحام الايديولوجيا وسيطرتها علي العمل الفني ان الصديق الفني الذي ابتذل كثيرا هو ماقاد الروائي لهذا الاختيار أوذاك,وحسبما كتب شعبان يوسف فإن شهدي آثر أن يلتزم التصوير الدقيق للعلاقات العميقة بين إبنائها وبعضهم( أبناء الطبقة العاملة) وجاءت اللغة في معظمها بالعامية, أي لغة الحوار, ونلحظ أن شهدي الذي تعلم في أوربا ويحمل الشهادات العليا ويكتب أعقد القضايا السياسية والوطنية والفكرية يقدر علي طرح الحياة الشعبية بعمق شديد, ويبدع في وصف هذه الحياة الشعبية بطريقة تفوق كل مجاليه بلا منازع وبالفعل كان شهدي الذي حصل علي ماجستير في اللغة الانجليزية من انجلترا وقرر العودة من أجل وطنه بدلا من الحصول علي الدكتوراه, وكان أول مفتشي أول مصري للغة الانجليزية في مصر كان شهدي في عمله الروائي الوحيد عارفا لأسرار وتفاصيل العالم الذي قدمه متحليا بأقصي درجة من درجات الصدق الفني والانساني معا. غير أن هناك مشكلة فيما يتعلق بنسبة الرواية لشهدي سوف أحاول أن أناقشها سريعا يشير شعبان في مقدمته الي أنه قام بتصوير الرواية عن النسخة المنشورة في صحيفة المساء علي خمس حلقات بين12 اكتوبر1956 و2 نوفمبر1956 وآثرت الجريدة أوشهدي اخفاء اسمه في النشر ويضيف: ولكن جميع المقربين كانوا يعرفون أنها رواية شهدي عطية وهو كلام مرسل في حقيقة الأمر, فمن هم هؤلاء المقربون؟ واذا كانوا موجودين فعلا لماذا لم يسألهم؟ خصوصا وأنه يذكر في موضع آخر من المقدمة أن الدكتور رفعت السعيد وصف شهدي في إحدي الندوات بأن روايته كانت ذات طابع سياسي محض ولايعتد بها أدبيا, فهل يقصد السعيد رواية حارة أم الحسيني أم رواية أخري ويضيف شعبان يوسف ان رؤوف مسعد كتب أن شهدي له رواية ونسختها الوحيدة في حوزة ابنته, ولا نعرف مرة أخري هل هي رواية حارة أم الحسيني أم رواية أخري, ويضيف أيضا أنه وردت اشارة عابرة في مقال لعبد المنعم الغزالي عن الرواية. وإذا أضفنا الي كل هذا ان المساء المصدر الوحيد حتي الآن لنشر الرواية بلا صاحب, فإن المسألة فيما أظن تحتاج الي التوثيق وتوجيه اسئلة محددة للمصادر المذكورة. ولعل مما ضاعف قلقي من نسبة الرواية إلي شهدي هو القصتان المنشورتان مع الرواية من الجامعة إلي الوظيفة وجمال رخيص لأنهما موعظتان أخلاقيتيان وتفتقران إلي أي ملامح فنية, وبل لا تنتميان للكتابه الأدبية أصلا. القصتان نشرتا عام1936 في مجلة مجلتي التي كان يرأس تحريرها ويملكها أحمد الصاوي محمد, فهل يعود سبب ضعف مستواهما الفني الي أن شهدي كان ما يزال في اوائل العشرينات من عمره ويفتقر الي النضخ الفني الانساني؟ والقصتان أيضا هما الموثقتان فقط ونشرهما شهدي باسمه, بينما المستوي الفني والانساني واللغة المكتوبة بها الرواية ودراية الكاتب تناقضات الشخصيات.. كل هذا نجده واضحا في حارة أم الحسيني التي نشرت في حياة شهدي مع اغفال اسمه علي مدي خمس حلقات في جريدة المساء عام1956. بطبيعة الحال لايقلل ما ذكرته الآن من حجم الجهد الذي يبذله شعبان يوسف سواء في المقدمة الاضافية التي كتبها, أو في عناء تصوير الرواية من الأصل المنشور في المساء, كما لا يقلل من المتعة الفنية التي منحتها لنا رواية حارة أم الحسيني أيا كان كاتبها!