كان علماء هذه الأمة أشد الناس حرصاً علي فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.. كانوا يفهمون القرآن. بمراده. وبما رزقهم الله من موهبة العقل والتفكير. عالمين أن العقل هبة الله للإنسان ونعمة منه. لا يكون الشكر عليها والاعتراف بها. إلا من خلال إعماله والدأب علي تزكيته بالفهم الصحيح والتفكير المستمر وانصياعاً لقول الحق تبارك وتعالي حين حث البشر جميعاً في كتابه الكريم علي التدبر والتفكير مخاطباً البشرية بأنهم أولوا الألباب. فهموا الأحاديث النبوية في ضوء القرآن الكريم. وحلاً لكافة المشاكل والمسائل التي عرضت في المجتمع. واعين أن الرسول صلي الله عليه وسلم ترك المسلمين علي المحاجة البيضاء كتاب الله وسنته.. وسنته- كما سبق القول في مقال آخر- إما قولية أو فعلية أو تقريرية. وخاطب الناس كلاً في ظرفه وما يستقيم مع حالته.. كانت سنة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم إما توضيحاً للثوابت والفروض مثل طريقة الصلاة وهي ركن من أركان الإسلام أو تنظيماً لحياة الناس اليومية في معاملتهم مع بعضهم بعضاً من بيع وشراء أو علاقة جيران. ونصرة المظلوم. وحسن علاقة بين الأخوة والزوج والزوجة وبين المسلمين مع بعضهم أو المسلمين مع غير المسلمين في مجتمع يضمهم ووطن يجمعهم. وفي إدارة المعارك ومعاملة العدو والحليف والصديق. وكذا إلي أخر شئون الحياة. ترك الإسلام أموراً كثيراة جداً لظروف الناس وعاداتهم وأعرافهم. وما تمليه عليهم شئون حياتهم. ووضع قاعدة هامة حين قال صلي الله عليه وسلم "أنتم أعلم بشئون دنياكم". كان هؤلاء العلماء ولا سيما الأئمة الأربعة علي قدر عال من الفهم والعقل والعلم بقواعد اللغة العربية وأصول الاجتهاد والقدرة علي التأويل والقواعد الفقهية. ورغم ذلك لم يلزموا أحداً بما انتهوا إليه. ولم يتعصب أحد منهم برأيه ليسفه رأياً لغيره. وإنما قالوا: قولنا هذا رأي فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه. وقالوا رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب تاركين بذلك الباب مفتوحاً لكل مجتهد عاصرهم أو جاء بعدهم.. وخالفهم تلاميذهم في المذهب الواحد ذلك أن ما انتهوا إليه هو فقه نتاج اجتهاد حث عليه الإسلام. وبفهم وصلوا إليه وقد اختلف أبو يوسف ومحمد وزفر تلاميذ أبي حنيفة مع صاحب المذهب. ولم يقل أحد من العلماء أن ذلك مثل عداء أو كراهية لدي أحد منهم تجاه الآخر. ولأن أبا حنيفة كان تاجراً فقد أتي بمسائل كثيرة تتعلق بالتجارة والمعاملات. ولأن أبا يوسف قد ولي القضاء فقد عرضت عليه مسائل كثيرة لم تعرض علي أبي حنيفة. فأضاف أبو يوسف صوراً فقهية كثيرة في المذهب الحنفي. وهكذا فعل محمد وزفر. وقد تميز محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة بالكتابة في قواعد القانون الدولي حتي أعتبره بعض علماء الغرب مؤسس علم القانوني الدولي. وترك لنا كتابين مهمين هما "السير الكبير والسير الصغير" وقد روي عن الإمام مالك أنه كان يحفظ كل ما سمعه من أخبار عن النبي صلي الله عليه وسلم لكنه لم يلق علي تلاميذه إلا ما يستقيم مع مقاييس نقده في الفحص وبتمييز الصحيح من غير الصحيح حتي أنهم وجدوا بعد موته صندوقين من الكتب دونها ولم يعلمها لتلاميذه. ويري الشافعي أنه قيل لمالك "عند أبي عيينه أحاديث ليست عندك فقال إذا أحدث بكل ما سمعت إني إذا أحمق "مقالات للإمام محمد أبو زهرة مطبوعات العربي". هذا تراث يفخر به الإسلام وتفخر به الإنسانية. وقد تأثر الفرنسيون بفقه الإمام مالك حين استعمروا الشمال الافريقي حيث ينتشر هناك هذا المذهب.. ولقد استفاد العلامة عملاق القانون عبدالرزاق السنهوري فائدة عظيمة في الفقة الاسلامي حين وضع القانون المدني المصري سنة 1948 ووجد فيه مسائل لم يعرفها الغرب مثل مسألة الفضالة ومسألة الشفعة. وقد سبق علماء المسلمين الغرب فيهما. ولم يعرفهما القانون الروماني. وجاءت قواعد القانون المدني جميعها متفقة مع آراء فقهاء المسلمين وما انتهي إليه علماء المذاهب الأربعة فيما عدا مسألة الفوائد القانونية وهي مسألة اختلف فيها علماء العصر الحديث وفقاً للظروف الاقتصادية وما استجد في الحياة من أعمال البنوك وتعقد المعاملات الاقتصادية ومن ثم فإن الفقهاء الأربعة وغيرهم من علماء المذهب الظاهري قد بذلوا جهوداً جبارة في التفريعات والمسائل التي جدت في حياتهم. وضحوا لنا أساس الفهم ومنهج الاجتهاد فيما يجد في حياتنا من مسائل لم تعرض لهم في حياتهم. وهذا ولا شك جهد يستحقون الشكر عليه والاعتراف بفضلهم. نؤكد أن أحداً منهم لم يلزم الناس بفهمهم ولا بإجبارهم علي السير إلي ما انتهوا إليه. وكان أسلوبهم في الفهم والاجتهاد- كما سبق- هو المنهج الذي نستفيد منه في إثراء الفقه وإضافة الحلول التي تتفق مع كتاب الله وسنة رسوله في مستحدثات حياتنا.. لذلك لا مجال أن نتمسك بأرائنا متعصبين لها قادحين ومحقرين آراء غيرنا لأنه كما استقر علماؤنا القدامي قولنا صواب يحتمل الخطأ. وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب.. فهل لنا أن نهدم تراثنا. ونقطع الصلة بيننا وبينه.. الأفضل أن نستفيد من هذا التراب ونضيف إليه ونطرح ما يناسب عصرهم دوننا من غير تسفيه. ونحترم فكرهم. ونفهم منهجهم. مستخدمين منه دليلاً إلي الفهم الصحيح دون عبث أو افتراء. واضعين نصب أعيننا إضافات النساخ التي لا تتفق وعظمة جهد الأقدمين وأسلوب اجتهادهم.