البناء الديمقراطي يقوم علي عدة آليات ووسائل؛ أهمها: الدستور، والبرلمان، وتعدد الأحزاب، والانتخابات الحرة، والرأي العام القوي، والمجتمع الأهلي (المدني النشيط). وكما يتطلب «تداول السلطة» الذي هو جوهر النظام الديمقراطي وجود «الدستور» الذي يُحدّد القيم والمبادئ الأساسية ومقومات المجتمع التي يتفق عليها الأغلبية ولا تهدر حقوق الأقليات الدينية والعرقية والجهوية، ينظم «الدستور» أيضاً سلطات الدولة الرئيسية ويحدد العلاقة بينها ويحقق التوازن المنشود حتي لا تطغي واحدة علي أخري، فإن هذا الهدف الرئيسي «تداول السلطة» يتطلب أيضاً «تعددية حزبية سياسية» لتطرح برامجها علي الشعب والأمة ويختار الناس من بينها لفترة محدودة حزباً قادراً علي تنفيذ برنامجه السياسي والتنموي، وفي نهاية تلك الفترة يتم العودة مرة أخري إلي «صناديق الانتخابات» ليحاسب الشعب الحزب الحاكم علي أدائه ويحكم علي قدراته فإما أن يجدد له مدة أخري أو يختار غيره لفشله أو في حالة نجاحه يخشي من طغيان حزب واحد وتحوله إلي ديكتاتورية باطشة كما حدث في «بريطانيا» مع حزب المحافظين بقيادة «تاتشر» في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك يتم إعادة انتخاب الرئيس في النظم الجمهورية لمدة أخري جديدة وليس لمدد متطاولة بسبب الخوف من حجم السلطات التي يتمتع بها أي رئيس في نظام جمهوري مهما كان التوازن بينه وبين «البرلمان» أو «القضاء»، ولو كان النظام رئاسياً برلمانياً فإن العرف الجاري في النظم الديمقراطية الغربية هو عدم التجديد للرئيس لأكثر من فترتين رئاسيتين لكي لا يتحول الرئيس إلي ديكتاتور. ويتطلب النظام الديمقراطي وجود «البرلمان» الذي يتم في جلساته الرقابة علي الحكومة وسن التشريعات الضرورية لتنظيم مرافق الدولة، ومناقشة خطة التنمية وإقرار الميزانية العامة للدولة. وبين يدي تناول قضية «الأحزاب» أودّ أن أبيّن أن النماذج الديمقراطية متعددة في العالم وليست علي نمط واحد، وأننا نريد أن نحقق نموذجاً ومثالاً للتطبيق الديمقراطي في البلاد الإسلامية يتمتع بشرطين أساسيين:- 1- الترسيخ الكامل للقيم والمبادئ والقواعد التي تشترك كل النظم الديمقراطية فيها وتحدد الثقافة الديمقراطية وترسيخ مبادئ الشوري وهي ما شرحناه في المجموعة الأولي التي نشرتها «الدستور» وعديد من المواقع الإلكترونية خريف عام 2007. 2- الاستفادة التامة بالآليات والوسائل التي أبدعتها شعوب العالم في تطبيقاتها المتعددة للديمقراطية مع الأخذ في الاعتبار بطبيعة مجتمعاتنا الإسلامية والثقافة السائدة فيها. وكذلك يهمنا أن نستفيد بكل نقد موضوعي وبحوث أكاديمية وتطبيقية جرت علي مسيرة الديمقراطية في الغرب والشرق، ولعل في تجارب دول مثل «الهند» و«روسيا» و«الصين» التي تطبق نماذج متنوعة آخذة في الاعتبار بأمرين - الأول: التطور التاريخي لتلك الأمم والشعوب - الثاني: صعوبة الانتقال من حال إلي حال، وما يصاحب ذلك من إشكاليات، وطبعاً سيقول لنا البعض مفتخراً بالانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية في بلاد مثل «أوكرانيا» و«رومانيا» وغيرها، إلا أن التجارب بعد سنين أثبتت صحة موقف دول كالهند والصين، في الانتقال الهادئ والتطور الطبيعي، بعيداً عن تدخلات خارجية لها مآرب أخري، ولنا في روسيا «يلتسن» ثم تصحيح «بوتين» العبرة في أهمية منع التدخلات الخارجية وترك التطور الطبيعي يأخذ مساره الهادئ. يقول الشيخ العلامة القرضاوي: «الأحزاب» في السياسة كالمذاهب في الفقه وهذه كلمة بليغة تلخص المسألة كلها. فإذا كان الاعتراف بالتعددية في الآراء، والحرية في الأفكار هو المبدأ الذي استندت إليه فكرة التعددية الحزبية السياسية، وإذا كان «التنوع في الخَلْق والخُلُق والرأي» هو القيمة الأساسية والدعامة الرئيسية التي يقوم عليها البناء الحزبي، وإذا كان «الحق في الاختلاف» والحق في طرح برامج عامة للإصلاح والنهضة في ظل القيم والمقومات الأساسية للمجتمع هو الأساس الذي يجعل من حرية الاختيار بين تلك الآراء والبرامج حقاً مشروعاً للجماهير، وإذا كان الأصل الذي لا يمكن الاستهانة به هو أن بشراً ما أو مجموعة ما من البشر لا يمكنها ادعاء امتلاك الصواب أو الحق المطلق كما يقول الشافعي رضي الله عنه «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» وكما قال أستاذه الإمام مالك - رضي الله عنه-: «كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا المقام» ويشير إلي قبر رسول الله - صلي الله عليه وسلم-، وكما أعلن من قبلهما الإمام أبي حنيفة النعمان - رضي الله عنه - «هذا ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأصوب منه قبلناه» فإن إغفال «التعددية السياسية والحزبية» والحط من قدرها والتهوين من شأنها والاكتفاء بذكر مساوئها وعيوبها يُعّد من الخطأ الشديد وعدم الإنصاف. لقد عرفت الأمة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري التعددية الفكرية والفقهية والمدارس السنّية التي عاش منها حتي الآن أربع مشهورة وغير المهجورة، واستقر في ضمير المجموع العام للمسلمين الحق في الاختلاف بين أئمة المذاهب «أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد» ومعهم «الأوزاعي وسفيان والليث وابن حزم» وغيرهم - رضي الله عنهم - جميعاً، ولكن علي الجانب الآخر كان التناحر السياسي والقتال بين المذاهب السياسية والعقائدية هو السمة السائدة في تاريخنا الإسلامي وهو ما لا ينكره أحد. ومع أن الرسول الكريم محمد - صلي الله عليه وسلم - أقر بالحق في الاختلاف السياسي وفي الرأي حتي في ميادين القتال كما أقر بالحق في الاختلاف الفقهي في ميادين العبادة المحضة، وكلها عبادة وعبودية لله، فإن المسلمين من بعده لم يستطيعوا أن ينظموا الحق في الاختلاف السياسي وتداول السلطة سلمياً، كما نظموا باقتدار الحق في الاختلاف الفقهي في جميع فروع الفقه بما فيها الجهاد والحدود والجنايات والمعاملات مما انعكس علي القضاء بين الناس لفترات طويلة حتي تم إلزام القضاة حديثاً بمدونة واحدة للأحكام، مما يستوجب من العلماء والمفكرين النظر بعناية إلي تلك المسألة وتداعياتها الخطيرة علي تاريخ المسلمين وضرورة التصدي لها بحسم حتي لا نعيد تكرار معاركنا ومشاكلنا التي عايشناها طوال 14 قرناً من الزمان. لقد كان لوجود الرسول - صلي الله عليه وسلم - أكبر الأثر في احترام الحق في الاختلاف واحترام طرح وجهات النظر المختلفة، رغم أنه نبي يوحي إليه من السماء، مما يعني أننا كنا الأقدر علي بناء البدايات الديمقراطية قبل أوروبا وأثينا وغيرها. في عصر النبوة الأولي واجه النبي العظيم قضايا سياسية تتعلق بالدفاع والعلاقات الدولية (إن صح التعبير) أو العلاقات الخارجية علي الأصح، واستمع إلي وجهات النظر المتعددة، واختار من بينها ما خالف رأيه الشخصي عندما علم المسلمون من الصحابة أن الأمر ليس وحياً من السماء وإنما هو الرأي والحرب والمكيدة. في غزوة بدر نزل الرسول - صلي الله عليه وسلم - علي رأي الحباب بن المنذر في ميدان المعركة واختار رأي أبي بكر في الأسري في بدر حتي عاتبه ربّه في القرآن، وفي غزوة أحد نزل علي رأي الشباب الذين لم يشهدوا بدراً، وفي غزوة الخندق نزل علي رأي السعدْين فيما طرحاه من رأي بتسليم ثلث ثمار المدينة للمشركين حتي يرجعوا عن المدينة بعد أن اشتّد الحصار، وكان يميل إلي ذلك... إلخ فما الذي حدث بعد وفاة الرسول وما الذي حوّل تاريخنا إلي تعددية في الفقه والقضاء ومعارك في السياسة والسلطان؟ الذي حدث هو أن غياب الرسول - صلي الله عليه وسلم - أدي إلي وجود أقران متساوين وبحكمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تم حسم مسألة الخلافة في سقيفة بني ساعدة بتولي أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أمر المسلمين وهو الذي عهد بعد وفاته إلي عمر - رضي الله عنه - وبدوره اختار ستة كمؤسسة شورية لاختيار خليفة له، وكان يمكن أن تكون تلك هي نقطة البداية. ولم تتطور المسألة بعد ذلك إلي قواعد واضحة محددة، ولم يجتهد المسلمون وكبار الصحابة في أمر من أخطر الأمور لعوامل عديدة، منها انتشار الفتوحات منذ عهد عمر وتوسعت في عصر عثمان - رضي الله عنهم جميعاً - فكان غالب الأئمة من الصحابة بعد وفاة عمر في الأمصار وكان في حياته يمنعهم من مغادرة المدينةالمنورة عاصمة الخلافة، ومنها قلة النصوص القرآنية والنبوية في المسألة مما كان يستدعي الاجتهاد الواسع علي خلاف بقية الأمور المتعلقة بالعبادات والبيوع والزواج والطلاق وبعض المعاملات التي رواها الصحابة لكثرة الحاجة إليها، ثم ازدحمت الصحائف بنصوصها، ومنها عدم الاحتكاك السريع بالأمم الأخري والقدرة علي النقل عنها كما حدث بعد استقرار الفتوحات، بل كان الأصل في النصف قرن الأول هو الصراع والصدام مع الفرس ثم الروم، فتأخرت الاستفادة بتجاربهم إلي أن استقرت الخلافة السياسية علي يد بني أمية علي ولاية العهد للأبناء والعائلة فقط وليس للأصلح، وتعطلت مؤسسة الشوري التي أرسي بداياتها عمر الفاروق - رضي الله عنه-. وسرعان ما نشب الصراع بعد مقتل ذي النورين - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ثم نشأ نزاع بين عليّ و«معاوية» - رضي الله عنهما - ثم مع الخوارج ثم احتدم الصراع بين آل البيت - رضي الله عنهم - وبين الخلفاء من بني أمية واستمر الصراع طويلاً، وساد منطق «خشية الفتنة» الذي أدي إلي الرضا بالأمر الواقع إلي يومنا هذا؛ لأن كم الدماء الذي سال لا يتحمله العقل الآن حيث أثرت الفتنة في نفوس المسلمين وفي عقول الفقهاء؛ فأغلقوا باب الاجتهاد في تلك المسألة وكان حكم الشريعة سائداً في بقية الأمور فاكتفوا بالإنكار الفردي وحمايته والنصح الفردي وشرعيته ولم يتطرقوا إلي تنظيم حق الاختلاف السياسي للمجموعات سلمياً. وكانت النتيجة أن الفقهاء العظام كالأئمة الأربعة الذين ملأوا الدنيا علماً واجتهدوا لم يتركوا لنا إلا أقل القليل في تراثهم حول ذلك الأمر، وهو الإقرار بالقواعد العامة كالشوري والرضا في عقد البيعة دون تفصيل، بل كان باب الخروج علي الحاكم هو الأغلب في كتبهم وتلاميذهم دون البحث عن أسباب الخروج وخاصة الاستبداد بالسلطة والتشبث بالحكم. وهذا ما يدعونا اليوم ونحن نستقبل النصف الثاني من القرن الخامس عشر الهجري بعد عقد ونيف أن نتداعي كمسلمين لبحث تلك المسألة وما يتعلق بها من إشكاليات لعلنا نجد حلاً يرضي به الله عنا ونحقق به مصالح المسلمين. وأحد أهم دعائم ذلك الحل الشوري أو الديمقراطي هو السماح بتعدد الأحزاب السياسية التي تتنافس سلمياً علي تداول السلطة برضا الجماهير في انتخابات دورية في ظل دولة القانون التي يحكمها دستور واضح، يحدد مقومات المجتمع الأساسية وأن يتم ذلك الحوار بين الأحزاب في برلمان ينتخبه المسلمون والشعب من جميع المواطنين وكون هناك رقابة سلمية علي الحاكم والحكومات حتي لا يلجأ المتمردون إلي حمل السلاح ضد سلطان غاشم ونعود لنكرر مقولة «سلطان غشوم ولا فتنة تدوم».