مازال حديثنا موصولا عن الفنون الصوفية التي استخلصناها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة فنقول وبالله التوفيق: الفن السادس عشر: اعتزال الناس يوجب السلامة منهم: قال تعالي: "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتي يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا" النساء .140 الفرقة فرقتان: فرقة الآراء والأديان وفرقة الأشخاص والأبدان والجماعة جماعتان: جماعة هي الأئمة والأمراء وجماعة هي العامة والدهماء. فأما الافتراق في الآراء والأديان فإنه محظور في العقول. محرم في قضايا الأصول وأما عزلة الأبدان فمحظور فإن عظم الفائدة في اجتماع الناس في المدن وتجاورهم في الأمصار. والاجتماع إنما هو أن يتظاهروا ويتعاونوا ويتزاورا إذا كانت مصالحهم لا تكمل إلا به ومعاشهم لا يزكو إلا عليه فبالإنسان أن يتأمل حال نفسه فينظر في أي طبقة يقع منهم فإن كانت أحواله تقتضي المقام بين ظهراني العامة لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية به عنها ولا يجد بدا من الاستعانة بهم فيها فلا وجه لمفارقتهم فإنه إذا فعل ذلك أضر بمن ورائه من أهله وأسرته. وإن كانت نفسه بكلها مستقلة وحاله في ذاته وذويه متماسكة فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس ومفارقة عوامهم فإن السلام في مجانبتهم والراحة في التباعد منهم ونحن نريد رحمة الله بهذه العزلة التي تختارها مفارقة الناس في الجماعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات وما جري مجراها من الحقوق الواجبة فإنها مستثناة بشرائطها. جارية علي سبلها ما يحل دونها حائل. إنما نريد العزلة: ترك فضول الصحبة ونبذ الزيادة منها فإن من جري في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم علي ما يدعو إليه شغف النفوس وألف العادات وترك الاقتصاد فيها علي القدر الذي تدعوه الحاجة إليه كان جديرا ألا يحمد غبته وأن يستوخم عاقبته وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه يأخذ منه فوق قدر حاجته فإن ذلك لا يلبثان في أمراض مدنفة واسقام متلفة. ومن باب ما جاء في العزلة: قال الله تعالي حكاية عن إبراهيم صلي الله عليه وسلم: "واعتزلكم وما تدعون من دون الله" مريم 48 وقال في قصة موسي صلي الله عليه وسلم: "وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون" الدخان 10 و21 وقال في قصة أصحاب الكهف: "ينشر لكم ربكم من رحمته ويهييء لكم من أمركم مرفقا" الكهف: .16 واعتزل النبي صلي الله عليه وسلم قومه قريشا إلي "حيره" فدخل الشعب وأمر أصحابه باعتزالهم والهجرة. فالعزلة عند الفتنة سنة الأنبياء وعصمة الأولياء وسيرة الحكماء ولا أعلم لمن عابها عذرا سيما في هذا الزمان. قال عبدالله بن عمرو بن العاص: بينما نحن حول رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة أو ذكرت عنده فقال: إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم. وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "الزم بيتك وامسك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة.