كل تاريخ مصر الثقافى تجده فى الأزبكية من قلب القاهرة.. إلي العالم العربي خاصة.. يشع سور الأزبكية بنوره ودوره الثقافي.. منذ بدايته كضرورة البحث عن لقمة عيش بسيطة، عام 1907.. علي مدي 106 أعوام كاملة وتزيد.. حتي أصبح علامة من علامات القاهرة الثقافية.. غذي علي مدي تاريخه كبار الأدباء والمفكرين.. بكتب ودراسات ولوحات.. وكان حلا عبقريا.. لرقة أحوال كثير من الأدباء والمفكرين والصحفيين في توفير زاد ثقافي في بداياتهم الأولي.. وعشق دائم لاكتشاف مجاهل كتب قديمة، ضاعت في الزمن، احتفظت بها مكتبة هنا أو هناك.. وخرجت للنور لأسباب كثيرة منها أمنية بتعرض بعض أصحابها لمصادرات الشرطة.. التي تتخلص منها بعد سنوات.. أو ورثة.. لم يرثوا الموهبة ووجدوها لاتغني عنهم شيئا.. فوجدت طريقها للسور لأيدي موهوبين ومفكرين وكتاب وصحفيين جدد يجدون ضالتهم في كتب لها رائحة الزمن وألوان الماضي.. وثبات أفكار المستقبل. إنها دنيا سور الأزبكية.. قيلولة ظهيرة قاهرة 7091.. أجبرت الصعيدي الشاب.. علي أن يأوي إلي ظلال أشجار حديقة الأزبكية.. التي تحتل قلب ميدان العتبة.. يستريح قليلا.. ويأخذ تعسيلة نهار في هدوء لا يختلف كثيرا عن قريته البعيدة.. وقد جاء إلي أم الدنيا.. عله ينفلت من إهمال وفقر الصعيد.. يبحث عن لقمة عيش شريفة له ولأسرته هناك يحلم أن يكون قرشين بعد مدة.. ليعود إلي جذوره القديمة في البلدة بعد أن يضمن الستر.. لتأخذه نداهة القاهرة أو المدن الأخري في دوماتها.. حتي آخر العمر. وجد ضالته في بعض مكتبات الفجالة وغيرها.. وهي تتخلص من راكد كتبها بأسعار زهيدة أو حتي البيع بالجملة أو الوزن أو الشروة تخلصا من زحامها.. وتفتق ذهنه عن توفير هذه الخدمة للراغبين فيها من أفندية مقاهي الأزبكية وماحولها.. في قهوة متاتيا وزهرة البستان بل وريش.. يبيع الكتب التي يحملها علي ذراعه أو كتفه يعرضها أمام الراغبين، أو المتكاسلين أو من فاتهم اقتناء وقراءة كتاب.. بسعر لايزيد علي قرش صاغ بسعر ذلك الزمان. زبائن المقهي أما أن يتواجدوا صباحا حتي الظهيرة لشرب القهوة والشيشة.. ومعهم المترددون علي المصالح الحكومية المتمركزة حول هذه المنطقة، فيسترحوا قليلا علي المقاهي أو ينتظروا قواعد الروتين الحكومي التي قد تنهي مأموريتهم أو مصلحتهم في نهاية نهار العمل.. بعد الظهيرة. وتهجع القاهرة لنومة قيلولة.. تخلو بها المقاهي والشوارع.. أو أن يأتي الزبائن وهو يكاد يكون الأمر الدائم والمضمون بعد العصاري في الصيف.. وفي المساء شتاء حيث جلسات الأصدقاء ونقاشات المثقفين وتجمعاتها.. وإلي أين يذهب.. وإقامته بعيدة عن أطراف أحياء القاهرة أو بلا إقامة أصلا.. فنام تحت ظلال الزيزفون.
الكتب التي تناثرت حوله رصت.. لفتت انتباه بعض المارين وقاموا بالشراء.. مما شجعه علي الاستمرار في هذا الموقف المتوسط لطرق القاهرة، وعنوان ثابت يعرفه الجميع بدلا من صدفة لقائه متجولا أم لا.. فأضاف لها بعض المجلات الأجنبية التي كانت منتشرة آنذاك بحكم الاحتلال ووجود الأجانب.. واستقرت تجارته.. مابين الحركة أحيانا والاستقرار غالبا عند سور الأزبكية.. خاصة وهي ملاصقة لدار الأوبرا الخديوية، ومايرتادها في الليل من الأكابر والأفندية وجميعهم متعلمون يقبلون علي تجارته..
وكعادة المصريين في كل المجالات.. أغري نجاح هذا الرائد.. بعضا من أقرانه أو أقاربه أو من شباب المدينة أو محافظات أخري.. فاستقروا بجوار بعضهم البعض مكونين أول سور ثقافي في المنطقة العربية كلها.. وبدأوا الطريق. شهامة الصعايدة وأولاد البلد.. دفعت البعض منهم لعدم التنافس علي لقمة العيش.. فبدأ يختار بعض الكتب أو المجلات يتخصص فيها حتي لايضايق ولا يضايقه أحد.. فظهر المتخصصون في المجلات أو الكتب العربية والبعض في المجلات والكتب الأجنبية.. ثم ظهر المسرح وهلُم جرا..
لم ينظر لهم المسئولون علي مدي سنوات طويلة علي أنهم مركز ثقافي هام خاصة مع فقراء طلاب العلم بوجه عام.. وبؤس كثير من الأدباء واهتمام كثير من الأجانب والعرب بهذا الرافد الثقافي.. فتعاملت معهم أجهزة بلدية القاهرة علي أنهم »بياعين سريحة« يكدرون ويزحمون المكان القريب من الأوبرا الخديوية التي يرتادها مساء الأمراء والأميرات كثيرا.. والخديو في بعض الأحيان.. فواصلوا مطاردتهم كلما سمح لهم الأمر بذلك، خاصة إذا تعلق الأمر بتأمين الحفلات التي يحضرها الأكابر.. ولم يجدوا أجدي من خراطيم مياه المطافي لطرد هؤلاء البائعين الذين يهرعون ببضاعتهم الورقية خوفا عليها من البلل الذي يفسد ثروتهم الضئيلة، التي كانت لاتزيد علي جنيه واحد أو أكثر.. أضف إلي ذلك مع الزمن أنهم كانوا يوفرون الكتب المعارضة لنظام الحكم.. ومنها كتب تحرض علي الثورة والتطوير.. وطال بهم الزمن طويلا.. حتي عام 9491.. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات، وقبيل ثورة يوليو 25 بثلاث سنوات فقط.. وقد كانت تجارتهم قد استقرت بالقطع وأصبح لها رأس مال وزبائن متكاثرون فتوجهوا جميعا وكان عددهم 31 بائعا إلي مجلس الوزراء، حيث التقوا برئيس الوزراء مصطفي النحاس.. الذي تعاطف معهم وأصدر أمره إلي فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية.. ليصدر لهم تراخيص ثابتة لمزاولة المهنة وتمنع تعرض بلدية القاهرة لهم.. وتكون بذلك رسميا.. أول سور للكتب في الأزبكية.. والذي سيصبح بعد عدة سنوات أشهر من اسم صاحبها.. وكل معالمها الحكومية والأثرية والفنية.
أنشئت منطقة الأزبكية، أصلا، قبل سورها الثقافي الشهير بحوالي 005 سنة تقريبا.. وبالتحديد عام 8641م.. التي توافق 278ه عندما كان سلطان مصر هو السلطان الإشرف قايتباي الذي حكم مصر لمدة 92 عاما.. وكان أهدي بعد ثمانية أعوام من توليه.. منطقة كانت تتبع خزينة المسلمين.. في الجزء الواقع غرب الخليج المصري أحد أفرع نهر النيل (شارع بورسعيد حاليا).. وذلك إلي قائد جيوشه السلطانية المعز الأتابكي.. أزبك الظاهر.. وكان منزله قريبا من المنطقة.. والتي كان بها ضريحا سيدي عنتر وسيدي وزير.. وقام أزبك بحفر خليج للمنطقة سمي خليج الذكر.. لقيام رجاله الصوفية بإقامة الذكر بجوار المقامين.. وذلك عام 088ه.. وأصبحت بركة مائية كبيرة.. تم تنفيذ قنطرة منها علي النيل للواصل منها من ناحية شارع الأزهر.. وجعل علي رأسها دكة للمتفرجين عليها فسميت قنطرة الدكة.. ثم أقام بها مسجده الذي يقع حاليا عند تقاطع شارع الأزهر وبورسعيد.. مسجد أزبك. وأصبحت المنطقة أقرب إلي متنزه نيلي.. فأقيمت المساكن حولها.. وعمرت بالفلايك خاصة بعد اهتمام الأمير بدرالدين التركماني بتعميرها والإقامة حولها بعد ذلك.. وقد أقيم حولها حمامات وطواحين وأفران للعيش.. ثم أهملت بعد ذلك.. حتي عمرها عثمان كتخدا والكتخدا يعادل رئيس الوزراء عام 5411.. واستمرت متنزها للناس.. وإن شملها الإهمال حتي جاءت الحملة الفرنسية 8971 وخروجها 1081.. وإقامة اللواء محمد علي باشا قائد الجيوش السلطانية في مصر في بيت أيوب بك الكبير حولها.. فتم تعمير البحيرة من جديد.. وفي زمن الخديو اسماعيل 7681م.. تم ردم المنطقة وأحيطت بالأنوار وأقيمت حولها منازل خشبية.. ثم بدأ في بناء دار الأوبرا ومسرح الكوميدي فرانسيه وأقام أمامها تمثال إبراهيم باشا.. وبعد احتفالات افتتاح قناة السويس 9681.. أصبحت المنطقة موقع الاحتفالات الرسمية خاصة بعد جلوس الخديو علي العرش.. ونظمت لها الفرق الموسيقية وفرق السيرك..
قدر هذا السور.. أن يصبح منذ إنشائه منارة ثقافية مصرية وعربية يرتادها كل أقطاب الفكر والفن وطلاب العلم والمثقفين والصحفيين والممثلين وغيرهم.. ومحط أنظار طلاب الدول العربية والاسلامية في مصر والأزهر والدبلوماسيين.. ومايزال السور محل فخر كل المثقفين المصريين والعرب وليس في بداياتهم الثقافية فقط، ولكن حتي الآن.. لما به من نوادر الكتب القديمة.. ومكتبات كبار المثقفين التي تأتي إلي السوق من أصحابها أحيانا ومن الورثة كثيرا.. ومن مضبوطات أجهزة الأمن في بعض الفترات.
وقدره أيضا.. أن يصبح مصدر قلق السلطات والتنظيم.. ورجال الحكم..
في عام 9591.. بعد قيام ثورة يوليو بحوالي 7 سنوات.. استقرت أنظار مسئولي بلدية القاهرة الذين بدأوا عمليات تطوير شاملة بها.. للتخلص من السور لإعادة تجميل حديقة ومنطقة الأزبكية وتنظيم زحامها ومرورها وماكان من البائعين إلي أن لجأوا إلي الدكتور عبدالقادر حاتم، مدير مكتب الرئيس عبدالناصر، وشرحوا موقفهم الذي نقله للرئيس.. ولأن عبدالناصر كان من رواد السوق.. ومعه كثير من أعضاء مجلس قيادة الثورة.. أمر بتنفيذ أكشاك خشبية للبائعين لتنظيم كتبهم وإصدار تصاريح رسمية لهم بمزاولة المهنة.. بشرط ألا يغيروا نشاطهم.. و أهدي الأكشاك لهم.
وكان للسور.. نصيب الأسد.. في نهضة الستينات الثقافية..في مطابع تصدر كتابا كل 6 ساعات.. وتزايد الإقبال علي التعليم.. وظهور نشاط بعض السياسيين المثقفين وحركة أدبية زاهرة وإعلاء قيمة الثقافة.. فتنامت التجارة حتي وصلوا إلي 031 تاجر كتب.. أي تضاعفوا عشر مرات..
لكن الرياح لاتأتي دائما بما لاتشتهي الكتب.. ففي عام 3891 تم هدم السور ونقله إلي سور السيدة زينب.. بسبب أعمال وضع أساسات كوبري الأزهر.. وهو الأمر الذي استمر لمدة خمس سنوات عندما صدر حكم محكمة القاهرة، لصالح التجار ضد محافظ القاهرة للترخيص لهم بالعمل في السور.. وقد عادوا بالفعل.. ولكن للخلف قليلا فقد اقتطع الكوبري جزءا من أماكنهم..
ويتكرر الأمر عام 3991 ولمدة أربع سنوات، عندما بدأ في أعمال إنشاء محطة مترو الأنفاق في ميدان الأوبرا.. فتم نقل التجار إلي منطقة الحسين بجوار مستشفي الحسين الجامعي وعلي مقربة من مقابر القرافة.. فتواروا عن الأنظار.. حتي عادوا من جديد عام 8991.
لعل هذه الفترة الأخيرة.. كانت من أهم الفترات فائدة علي قراء القاهرة فقد بدأ بعض التجار يتحركون ببعض كتب قليلة علي أرصفة القاهرة، خاصة في تجمعات حركة المرور في الإسعاف ورمسيس وبعض شوارع نصف البلد فأصبح هناك سوق وسور أزبكية مصغر هنا وهناك.. وجد كثيرون فيه ضالتهم.. بل واستقروا بعد ذلك.. رغم عودة السور إلي موقعه القديم..
في السور الجديد.. تم تصميم أكشاك علي النظام الفاطمي.. وتم تمليكها لأصحابها.. ونظموا في صفوف.. واشترطوا عليهم عدم تغيير النشاط خاصة وأن تجار السوق في فترة من الفترات، انساقوا وراء متطلبات السوق من شرائط كاسيت وبعض بضائع أخري غير الكتب.. ضايقت حتي رواد السور..
تعود الدائرة من جديد.. في عمليات المرحلة الثالثة من المترو.. بضرورة تحريك موقعهم بحوالي كيلو متر من مكانه الحالي.. لدواعي العمل.. لكن الأيام والظروف تؤكد أنه مهما تحرك السور وانتقل فهو رافد أساسي للثقافة المصرية والعربية ومطلب رئيسي لكل المثقفين والدارسين. ومخزن أسرار الثقافة المصرية.. من كتب نادرة ومجلات وطرائف كتب بإهداء كبار الأدباء لأقرانهم.. ورافد لا يتوقف ولاينتهي مادام هناك عقل وثقافة ورغبة في التطوير.. وخدمة لكل من يريد بسعر قد يكون زهيدا..
ولعل أهم دليل علي ذلك هو إقبال الهيئة العامة للكتاب علي تنظيم موقع لسور الأزبكية داخل معرض القاهرة الدولي للكتاب وذلك منذ عام 9991.. فأصبح مركز جذب ثقافي نافس كل مكتبات المعرض حتي استمرت الهيئة في نهجها هذا حتي الآن.