صانع الدساتير يرحل بعد مسيرة حافلة، وفاة الفقيه الدستوري إبراهيم درويش    مائدة إفطار البابا تواضروس    طلاب جامعة دمياط يتفقدون الأنشطة البحثية بمركز التنمية المستدامة بمطروح    دورنا مجتمعي ولسنا حزبًا سياسيًا.. مصطفى بكري يكشف أهدف اتحاد القبائل العربية    الجيزة: انتهاء الاستعدادات لتلقى طلبات التصالح في مخالفات البناء بدءًا من الغد    غداً.. «التغيرات المناخية» بإعلام القاهرة    المخلفات الصلبة «كلها خير»| فرص استثمارية واعدة ب4 محافظات    إزالة الإعلانات المخالفة في حملات بمدينتي دمياط الجديدة والعاشر من رمضان    زيادة في أسعار كتاكيت البيّاض 300% خلال أبريل الماضي وتوقعات بارتفاع سعر المنتج النهائي    نواب وأحزاب: مصر تؤدي واجبها بكل جدارة وشرف.. وتأييد شعبي لجهودها    "خارجية النواب": الجنون الإسرائيلي في إدارة ملف حرب غزة بسبب الخوف من المحاسبة    خاص| مستقبل وطن: ندين أي مواقف من شأنها تصعيد الموقف ضد الشعب الفلسطيني    تين هاج: كلمات برونو بشأن مستقبله أُخذت خارج سياقها    الشناوي يشارك بمران الأهلي    فقرات فنية ترفيهية وتوزيع الشيكولاته ضمن احتفال استاد المنصورة بشم النسيم (صور)    الإنقاذ النهرى تكثف البحث عن جثمان شاب غرق بالنيل أثناء احتفالات شم النسيم بالأقصر    موعد عيد الأضحى 2024 طبقا للحسابات الفلكية في مصر.. فضل يوم عرفه وأبرز الداعية المستحبة في هذا اليوم    التموين: تم ضبط كميات كبيرة من الرنجة الفاسدة خلال شم النسيم 2024    فرقة وادي النطرون تقدم «ونيسة» ضمن مسرح قصور الثقافة    نور قدري تكشف تطورات الحالة الصحية لابنها    قبل عرضه في مهرجان كان.. الكشف عن البوستر الرسمي لفيلم "شرق 12"    "القارب" فيلم نادر لعمر الشريف يعرض في الدورة الثانية لمهرجان الغردقة لسينما الشباب    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    أطعمة يجب تجنبها في الصيف لتجنب عسر الهضم    صحة الإسماعيلية.. توعية المواطنين بتمارين يومية لمواجهة قصور القلب    بعد تعافيه من الإصابة.. سبب استبعاد أليو ديانج من مباريات الأهلي (خاص)    لسهرة شم النسيم 2024.. طريقة عمل كيكة البرتقال في المنزل    توقف خط نقل الكهرباء بين السويد وليتوانيا عن العمل    كلوب عن صلاح عندما تألق    أمينة الفتوى تكشف سببا خطيراً من أسباب الابتزاز الجنسي    متضيعش فلوسك.. اشتري أفضل هاتف رائد من Oppo بربع سعر iPhone    وزير النقل يتابع إجراءات الأمن والسلامة للمراكب النيلية خلال احتفالات شم النسيم    أمير قطر ورئيس وزراء إسبانيا يبحثان هاتفيًا الاجتياح الإسرائيلي المرتقب لرفح    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    لقاء علمي كبير بمسجد السلطان أحمد شاه بماليزيا احتفاءً برئيس جامعة الأزهر    المصريون يحتفلون بأعياد الربيع.. وحدائق الري بالقناطر الخيرية والمركز الثقافي الأفريقي بأسوان والنصب التذكاري بالسد العالي يستعدون لاستقبال الزوار    أفراح واستقبالات عيد القيامة بإيبارشية السويس.. صور    الصحة تعلن إجراء 4095 عملية رمد متنوعة مجانا ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    نانسي عجرم توجه رسالة إلى محمد عبده بعد إصابته بالسرطان.. ماذا قالت ؟    في العام الحالي.. نظام أسئلة الثانوية العامة المقالية.. «التعليم» توضح    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    إصابه زوج وزوجته بطعنات وكدمات خلال مشاجرتهما أمام بنك في أسيوط    في خطوتين فقط.. حضري سلطة بطارخ الرنجة (المقادير وطريقة التجهيز)    المستشار حامد شعبان سليم يكتب :الرسالة رقم [16]بنى 000 إن كنت تريدها فاطلبها 00!    مصرع شخصين وإصابة 3 في حادث سيارة ملاكي ودراجة نارية بالوادي الجديد    مفوضية الاتحاد الأوروبي تقدم شهادة بتعافي حكم القانون في بولندا    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    غدا.. إطلاق المنظومة الإلكترونية لطلبات التصالح في مخالفات البناء    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    ضبط 156 كيلو لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بالمنيا    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    تعليق ناري ل عمرو الدردير بشأن هزيمة الزمالك من سموحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات سور الأزبكية ورائحة الورق الأصفر
نشر في القاهرة يوم 27 - 12 - 2011

"سور الأزبكية" اسم يصلح لبرنامج تليفزيوني مصري خالص واسم لعدد من الصفحات الثقافية في الصحف المصرية والعربية، ومن سور الأزبكية كان اسم برنامج إذاعي شهير قدمه الأديب سليمان فياض قبل أكثر من ربع قرن ومن خلاله أطلق علي السور لقب " جامعة الفقراء" حيث يجد الراغبون في القراءةِ والعلم من أبناء الطبقة الفقيرة ضالَّتَهُم بأسعار زهيدة. "سور الأزبكية" .. هذا السور العريق الذي شكل ولسنواتٍ طويلةٍ منزلةً خاصَّةً لدي المثقف المصري والعربي، فكانت كتبه المصدرَ الأوّلَ لمعظم الكُتّاب والمفكرين الكبار المتواجدين علي الساحة الثقافية الآن، وكثير من الراحلين ؛ لأنه بمثابة المعرض الدائم للكتاب في قلب القاهرة، ولا ينافس سورَ الأزبكية في تفرده الثقافي إلا ضفافُ نهر السين بمدينة باريس الفرنسية، فهما يشتركان في احتضان الثقافة وتقديمها للناس بمبالغَ قليلة! انشأ منطقة سراي الأزبكية المعز الظاهري منذ اكثر من خمسمائة عام وكانت تعرف قديما باسم «جنان الزهري» وتمتد من ميدان السيدة زينب حتي العتبة الخضراء . ثم سميت حديقة الأزبكية نسبة الي عز الدين ايبك قائد جيش السلطان قايتباي الذي قام بتجميل منطقة الأزبكية وجعلها حديقة للقاهرة منذ سبعة قرون، واحتفظت الحديقة ببركة الأزبكية التي كانت تأتي اليها المياه من الخليج الناصري حتي امر الخديو اسماعيل بردمها واستعان بالمهندس الفرنسي «ديشان» مسئول بساتين باريس لانشاء حديقة مساحتها عشرون فدانا عليها علي طراز حدائق فرساي الشهيرة بباريس وزودت الحديقة بنحو 2500 مصباح غاز وكانت تضم اشجارا ونباتات نادرة جلبها الخديو اسماعيل من جميع انحاء العالم الي جانب المسرح الفني ودار الأوبرا عام 1869 وفندق الكونتننتال عام 1889 وسيرك وملعب للخيول بدأ السوق بمجموعة من باعة الكتب القديمة؛ حيث كانوا يقومون بشرائها من (درب الجماميز)، ومكتبات (دار السعادة)، (والآداب) وغيرها، وكانوا في البداية يقومون بشراء الكتب صغيرة الحجم، ويقومون ببيعها علي مقاهي المثقفين (مقهي ريش، وزهرة البستان، ومتاتيا)، أما في ساعة القيلولة، وحين تُغلِقُ المقاهي أبوابها، فكان هؤلاء الباعة يلجأون إلي ميدان الأوبرا للاستراحة في ظل الأشجار التي كانت تملأ الميدان آنذاك، وأصبح شارع (حمدي سيف النصر)- الذي يفصل بين حديقة الأزبكية والأوبرا الملكية- مكانًا لعرض بضاعتهم من الكتب، ينجذب إليه المارة فيتوقف بعضهم لشرائها، ومع الوقت استقر الباعة في المكان، وعلي الرغم من غرابة البداية فإن السور أخذ في التطور، وعلي الرغم من ملاحقة السلطات لهم، لقربهم من الأوبرا الملكية -لدرجة أنهم سلطوا عليهم خراطيم مياه سيارات الإطفاء- تمسك الباعة بمكانهم، إلي أن وافق رئيس الوزراء (مصطفي النحاس) علي بقاء السور، وتم الترخيص للباعة. الكتاب والمثقفون في هذا التحقيق يحكون ل"القاهرة" كيف كانت علاقتهم بسور الأزبكية وماذا كان يمثل لهم في مرحلة تشكل الوعي.. مغارة علي بابا في البداية تقول الروائية والكاتبة بهيجة حسين: أول كتاب اشتريته من مصروفي كان من سور الأزبكية، وأتذكر جيدا انني جئت مع جدي في الستينات من القرن الماضي لمشاهدة احد الأفلام في دار سينما أوبرا في ميدان الأوبرا القديم، وكان جدي قد حضر للقاهرة لمشاهدة الفيلم وشراء بعض الكتب من سور الأزبكية حيث أخذني من يدي إلي هناك حيث شعرت بأنني ادخل مغارة علي بابا، كانت المغارة مليئة بالكنوز المميزة، شعرت برغبتي في شراء كل الكتب " حتي لو مش فاهمة حاجة فيها"، وفي هذا اليوم أذكر أنني اشتريت كتاب "ملخص قصة الفلسفة" وكنت في أولي إعدادي وبالطبع لم أفهم منه شيئا، يومها طلبت من جدي أن أشتريه بمالي الخاص، أما هو فقد اشتري لي مجموعة من الكتب التي تناسبني بالإضافة إلي مجلة كان اسمها "العصور" لاسماعيل مظهر، لم أفهم منها شيئا إلا عندما كبرت . وتضيف بهيجة: كنت أشعر أن الورق الأصفر يشبه جلد الطفل الصغير الذي أخشي عليه أن يجرح، هكذا كانت علاقتي بالكتب القديمة، لقد كان سور الأزبكية هو النواة الأولي لمكتبتي ولإمكانية القراءة، فمن هناك اشتريت سلسلة كتب جورجي زيدان ومجموعة هائلة من المجلات التي كانت تباع بعشرين قرشا للمجلد الكامل، وفي هذه المجلات قرأت أول وصف لجمال المرأة وكنت طفلة صغيرة احمرّ وجهي والكاتب يصف شعر البنت الطويل الذي وصل لخصرها، ووجهها الأبيض وكتفيها المستديرتين. كانت المرة الأولي التي اكتشف أن هذا ليس عيبا. علي سور الأزبكية اكتشفت أنه ليس عيبا أن يصرخ الناس من الفقر مع يوسف ادريس في "أرخص ليالي" . تتنهد صاحبة "حكايات عادية لملء الوقت" وتكمل حديث ذكرياتها: حتي الآن مازالت متعتي أن أمر علي سور نقابة المحامين والشهر العقاري كي اتفرج فقط علي الكتب القديمة رغم أن بعضها كتب قانون ولكن حنيني للكتاب " ابو جنيه" يدفعني لشراء كتب قد تكون لدي منها نسخ أخري فقد اشتريت بالفعل دون كيشوت لسربانتس رغم انني لدي نسخة من جدي، إلا انني لم استطع أن أقاوم وجوده بجوار السور وكان ممزقا إلي حد ما فأخذته وقمت بتجليده وكأنه طفل رضيع تائه، قام آخرون بالحفاظ عليه حتي أنجبته انا، المجلات أيضا اشتريت منها الكثير والكثير حتي لو لم اكن اعرف اسمها ولكنها متعة قراءة لغة الصحافة القديمة، وحتي لغة الإعلانات، فما زلت أذكر اعلانا لن انساه ما حييت .. شيكوريل، مقطع الحرير ب3 مليم، وبجوار الإعلان صورة لسيدة أنيقة جميلة تتسم بالبساطة والشياكة في نفس الوقت دون أن نسمع عن تسليع المرأة وانتهاك حقوقها، إعلان آخر عن صابون نابلسي، وثالث عن بابور الجاز وابرة البابور، متعة متابعة الإعلانات في الجرائد تفوق عندي متعا كثيرة لأنها تشعرني بالحنين وبالحميمية التي شكلت وعيي الذي كانت بدايات تشكيله عند سور الأزبكية. عبقرية عمر وعن ذكريات القراءة الأولي، يقول الناقد الدكتور مدحت الجيار: ولدت بحي الجمالية بالقاهرة، وأول سور تعاملت معه كان سور الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة، وكان ذلك عام 1964 عندما نصحني أحد باعة الكتب بعدما سألته عن العقاد ونجيب محفوظ أن أذهب لسور الأزبكية، وهناك رأيت عالما جديدا لم أكن أتوقعه، مجموعة من الأكشاك تحيط بسور حديقة الأزبكية ومن هناك اشتريت كتبا لكل الأدباء المحترمين في القرن العشرين وحين كبرت قليلا بدأت أقتني الكتب ذات الجلد الفخم وذات الأجزاء المتعددة كنوع من الترف الثقافي، وكنت احمل الكتب علي كتفي "حمل بعير" وأسير بها من الأزبكية ومرورا بشارع 26 يوليو إلي نهايته في الزمالك وصولا إلي إمبابة لأدخل بيتي وأغلق غرفتي علي نفسي، سعيدا بكنوزي التي كانت تمنعني وقتها من الذهاب للجامعة قبل أن انتهي من قراءتها، وفي أحيان أخري كنت أنسي نفسي وأنا علي سور الأزبكية فأبدأ في قراءة كتاب ولا أقوم قبل أن أنتهي منه وأذكر أنني فعلت ذلك مع "عبقرية عمر" للعقاد وقتها كافأت نفسي بواحد مكرونة في الفرن وأيس كريم من حلواني ويلسون الشهير. ويضيف استاذ ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة الزقازيق، مازالت لدي الطبعة الأول من كتاب عن الانجليز الساكسون لأحمد فتحي زغلول، شقيق سعد زغلول وكذلك الطبعة الأولي لكتاب عن طبائع المصريين صدر سنة 1902 لكاتب اسمه محمد عمر، كان يعمل في بوستة العتبة والكتاب يتحدث عن المصريين وكأنه يعيش بيننا الآن، تحدث عن الأغنياء والفقراء وكيف يحتفلون بالحياة، وعن المتدينين الذين يريدون البعد عن الانحراف.. الغريب في الأمر أن المترجم المعروف بشير السباعي كان يترجم كتابا عن الفرنسية ووجد فيه سيرة محمد عمر وكتابه، وسألني عنه فأعطيته الكتاب الذي استعان به في تصحيح بعض الترجمات التي كانت تختلف قليلا عما وجده في النص الفرنسي، ومن النادر أيضا عندي، عدد كبير من المجلات والصور مثل مجلة "المقتطف" التي احتفظ منها بالعدد الذي تم فيه تنصيب الأمير هيروهيتو امبراطورا لليابان سنة 1936 . الشوقيات أما الشاعرة والكاتبة فاطمة ناعوت فتقول عن سور الأزبكية، أزعم أن جيلنا كله، تشكل وعيه عن طريق القروش القليلة التي كنا ندخرها لننفقها في نهاية الأسبوع علي هذا السور بمجمع الكتب القديمة، وفي الورق الأصفر وصفحاته الممزقة ورائحته القدم والعتاقة تفوح من بين دفتيها، أطرف ما حدث لي مع السور حينما كنت في المرحلة الثانوية وبدأت أميل إلي كتابة الشعر وطلبت من أمي "الشوقيات" فذهبت معي علي مضض لأشتريها ( لأنني كنت أهددها بعدم الاستذكار، إن لم تشتر لي ما أشاء، فالكتب غالية ولا تكفي قروشي القليلة لشرائها خلسة، بعيدا عن عيون أمي التي كانت ترفض أن أقرأ في شيء خارج المناهج الدراسية لكي تضمن لي ولشقيقي التفوق الدراسي الذي انتهي بنا إلي كليتي الطب لشقيقي والهندسة لي ) وافقت أمي واشترينا الشوقيات، وبعد أسبوع فاجأتها أنني أريد الأعمال الكاملة لنزار قباني ولحسن الحظ لم تكن تعرف أمي من هو نزار قباني فذهبت معي، وبعدما اشترينا الدواوين وركبنا السيارة، شيء ما جعلها تمسك بأحد الدواوين وتتصفحه وكان لسوء الحظ " طفولة نهد" .. نظرت لي برعب وقالت الكلمة التي لن أنساها " لف وارجع تاني يا عم ابراهيم" وبالفعل عاد السائق ضاربا صفحا عن صراخي وبكائي في السيارة، وأرجعت أمي الكتب ثم بدأت مرحلة الرقابة المشددة علي كل ما يدخل بيتنا من كتب حتي وصل التفكير إلي حقيبتي المدرسية . وتضيف ناعوت: لذلك كانت لحظات تعيسة بالنسبة إلي جيلي حينما بدأت الأخبار تتناثر حول وشك إغلاق سور الأزبكية، شعرنا وقتها أننا نسرق وأن جزءا من تاريخنا ومستقبلنا وربما مستقبل أولادنا يتم استلابه دون أن نستطيع أن نفعل حيال ذلك شيئا، لذلك سنظل مدينين لهذه البقعة الثرية من بقاع القاهرة، لأنها كانت وراء مخزوننا الفكري والمعرفي والذي صنع منا كتابا وقضاة ومحامين ومفكرين .. وماذا عن الكتب النادرة التي تحتفظين بها في مكتبتك من سور الأزبكية .. سؤال ردت عليه فاطمة ناعوت قائلة: بعض أجزاء من كتاب الأغاني للأصفهاني والشوقيات كاملة والعديد من الروايات العالمية وبعض الأعداد النادرة من سلسلة "المغامرون الخمسة" لمحمود سالم، وتاريخ الإسلام السياسي لعلي عبد الرازق. أصل الأنواع الروائي ابراهيم عبد المجيد المولود بالاسكندرية والذي لم تسمح له طفولته لبعد المسافات بين القاهرة والاسكندرية أن يكون من مرتادي سور الأزبكية، لكنه رغم البعد، ظل حريصا علي زيارته للسور كلما جاء للقاهرة لنشر قصصه في المجلات والاصدارات القاهرية قبل أن يقرر الاستقرار النهائي بها أوائل السبعينات، يقول صاحب " ليلة العشق والدم "، كانت زيارتي للقاهرة حدثا مهما لا يجب أن يفوتني خلاله الذهاب لسور الأزبكية قبل أن يأخذ هذا الشكل التجاري الذي هو عليه الآن والذي أفقده الكثير من رونقه القديم، اشتريت من هناك " هكذا تكلم زرادشت " أحد أشهر اعمال الكاتب والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، وكتاب " أصل الأنواع " لدارون، بالإضافة لبعض الروايات العالمية خاصة للإيطالي ألبرتور مورافيا والتي ما زلت احتفظ بها حتي الآن وكلما قرأتها تذكرت فترة مهمة في حياتي قبل أن تتشكل أفكاري وقبل أن تبدأ اعمالي في الظهور للنور . ورغم بعدها عن القاهرة ومصر طوال فترة تشكلها الثقافي، تقول الكاتبة والناقدة د . سمية رمضان، لم أكن أعيش في مصر بشكل يسمح لي بالتردد في طفولتي علي سور الأزبكية في مكانه القديم المعروف، ولكن السور الذي أعرفه والذي تعاملت معه كثيرا هو الموجود حاليا بالقرب من محطة مترو العتبة وميدان محمد فريد، والذي لم يبتعد كثيرا عن الموقع القديم، وقد بدأت شراء ما تبقي من الكتب القديمة التي ما زالت تحمل رائحة السور الأصلية، فنفس الحس مازال موجودا ونادرا ما أبحث عن كتاب ولا أجده، فهؤلاء الباعة يعرفون خبايا وأسرارا لا نعرفها نحن الكتاب والمثقفين ويستطيعون أن يحصلوا علي أي كتاب مهما كانت ندرته ( ولكن كله بثمنه) وقد اشتريت من هذا المكان النسخة الأولي من جريدة الأهرام وهذا كان بالصدفة البحتة. وتضيف صاحبة " أوراق النرجس": رغم عدم رؤيتي أنا وأولادي للسور القديم الذي كان يمثل رمزا للثقافة، إلا أنني أشعر بالحنين وانا ذاهبة للمكان الموجود حاليا، لأنه مكان وجداني، تتوقع دائما أن تجد فيه كل ما تريده وكل ما لن تجده في أماكن أخري، فروح الباعة القدامي ما زالت قائمة وما زالت الطقوس كما هي
طالما في النهاية يوفرون لك ما لن يستطع غيرهم توفيره وما زالوا يملكون لغة المهاودة والفصال التي كانت إحدي سماتهم، وبخلاف الشجن والإحساس الرائع بالمكان وعلاقته بالأوبرا القديمة التي افتقدها رواد وسط البلد بعد أن وقف جراج العتبة أمام تمثال ابراهيم باشا في تحد سافر للمثقفين وأصحاب الذكريات القديمة . وعن الكتب النادرة التي اشترتها من سور الأزبكية تقول سمية رمضان: نسخة نادرة من مجموعة محمود طاهر لاشين " يحكي أن " وكنت قد بحثت عنها في كل مكان حتي أحضرها لي أحد الباعة من هناك خلال أسبوع واحد من طلبي لها . من الإعدادية ويختتم الشاعر والناقد شعبان يوسف حكايتنا عن سور الأزبكية ويقول، "من اعدادي وانا باروح سور الأزبكية" .. كان ذلك قبل اربعين عاما وكانت المكتبات اكثر من الموجودة الآن بكثير وقد ارتبط ذهابي لسور الأزبكية بعدد من المفارقات التي لا تنسي، فذات مرة اشتريت كتابا وفوجئت بالبائع يساومني عليه مرة اخري، ويبدو انه أدرك قيمته بعد أن باعه لي، وفي مرة شبيهة اشتريت رواية أديب لطه حسين ب 5 جنيهات وكان عليها ختم عميد الأدب العربي واهداء الرواية إلي مصطفي النحاس سنة 1936، وعرض علي أحد الواقفين شراء الرواية ب200جنيه وهو يعلم أنني اشتريتها قبل دقائق بالجنيهات الخمسة، أما أطرف المواقف والتي كثيرا ما كانت تتكرر هو أنني كنت أشتري الكثير من الكتب ولا أجد المال الكافي لدفع ثمن ما اشتريته ولأنني كنت وقتها من الزبائن المعروفين للباعة كانوا يعطونني الكتب وأدفع في مرات لاحقة ( كنت باشتري شكك يعني ) وما زالت مكتبتي زاخرة بالكتب والمجلات والصحف المليئة بالطرائف والتي اشتريتها من سور الأزبكية، ولا انسي أبدا أنني اشتريت كتابا لي كنت قد وقعته لأحد الأصدقاء وهناك اكتشفت " أن بضاعتنا ردت إلينا" والأمر تكرر مع كثيرين غيري ويكفي أن تعلم أن كاتبا مثل عبد العال الحمامصي كانت أغلب محتويات مكتبته موجودة علي سور الأزبكية.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.