تراه في كل شوارع القاهرة المزدحمة مبتهجا رغم الحرارة المرتفعة والجو الساخن يحمل رزقه علي صدره ويبدع في الغناء عندما يأتي إليه الزبون وينحني للأمام ليصب له العرقسوس المثلج.. وبعد أن ينتهي الزبون من احتساء العرقسوس يعود الرجل لاستقامته من جديد ويتحرك حاملا علي صدره الإبريق والأكواب والثلج وقطعتي النحاس المستديرتين يصدر بهما صوتا مميزا تعقبه جملته الشهيرة «العرقسوس شفا وخمير». كل يوم أتمني أن تقع عيني علي بائع العرقسوس حتي التقيت به بالمصادفة في حي السيدة زينب ويلتف حوله زبائن كثيرة وينادونه «ياعم فرجاني شوب عرقسوس» ويرد عليهم قائلا «من غير فلوس ياحبايب». ورغم أن عم فرجاني كان شايف شغله مع الزبائن إلا أنه أعطانا من وقته زمنا كافيا قال لنا فيه إن العرقسوس يتصدر قائمة مشروبات الصيف لمذاقه الطيب وفوائده الطبية وسعره الرخيص نصف جنيه للكوب الواحد.. وعلاقة المحبة بين المصريين والعرقسوس تعود لأزمان بعيدة.. فالعرقسوس مفيد في شفاء القرحة وفاتح للشهية ومنشط عام للجسم، وهذه قناعات لدي أغلب الناس ولا يمكن الشك فيها لهذا يكثر باعة العرقسوس في الحواري والميادين والشوارع في كل وقت، وفي المقابل يكثر الزبائن الذين يقبلون علي تناول العرقسوس للتغلب علي حر الصيف القاتل. العراق وسوريا وأضاف عم فرجاني.. إن العرقسوس صنعة ونظافة وأجود أنواع شجر العرقسوس توجد في العراق وسوريا حيث يمتاز العرقسوس هناك بجودته وتميز مذاقه، ويصل كيلو العرقسوس الخام إلي 25جنيها بعدما كان بعشرة جنيهات.. بداية الصباح ويكمل عم فرجاني قائلا إنه يعمل منذ الساعة التاسعة صباح كل يوم حتي آخر النهار، ويتجول في المنطقة باستمرار وكل العاملين بمجمع التحرير زبائنه ومعظم العاملين في المحال التجارية هناك في شوارع سليمان باشا وشريف وعماد الدين ومنطقة باب اللوق والبستان من زبائنه أيضا لدرجة أن بعضهم يطلبون تناول أكواب العرقسوس لشربه علي الريق قبل الإفطار. ويضيف إن أعشاب العرقسوس في الأصل عبارة عن خشب تم تقطيعه من شجر العرقسوس ثم يتم طحنه ووضعه في الشمس إلي أن يتحول إلي الأعشاب التي تباع عند العطارين، وهناك عدة طرق لتصنيع العرقسوس أشهرها تعتمد علي مزج الأعشاب بمادة الكربونات التي تحفظ العرقسوس، وتساعد علي تخميره، بالإضافة إلي كمية قليلة من الماء وتترك حتي يصل الخليط إلي اللون البني الغامق، ثم تصفية تلك المكونات بالماء من خلال شاشة بيضاء لإزالة الشوائب العالقة وفصلها عن الشراب، وتضاف إلي الشراب قطع الثلج، حيث لا يقدم إلا باردا، وهو مشروب صيفي في المقام الأول، ولهذا يختفي طوال العام، ولا يظهر إلا في شهور الصيف وشهر رمضان المبارك.. الزي المميز وأوضح عم فرجاني أن الزي الذي يرتديه بائع العرقسوس يسهم في الإقبال عليه من جانب الزبائن، وهو زي مميز يتكون من قميص وبنطلون واسع يتم تفصيله خصيصا حتي يتيح حرية الحركة في الحر، ويمكن البائع من وضع النقود بداخله.. وينتعل البائع حذاء جلديا ينتهي أسفل الركبة يسمي «كوذلك» وعلي رأسه يضع طاقية شبيكة تحميه من حرارة الشمس، أو يلف رأسه بلاسة، أو يضع كابا علي رأسه. أبواب الحسين وهناك عشرات من بائعي العرقسوس المنتشرين في شوارع وحواري القاهرة وأيضا عند بوابات المساجد الشهيرة مثل سيدنا الحسين والسيدة نفيسة والسيدة زينب يتركون العاصمة ويعودون لمدنهم الأصلية سواء في الصعيد أو وجه بحري ولكنهم يعودون مرة أخري طوال فصل الصيف تاركين أسرهم باحثين عن لقمة العيش. يقول عم وجيه الذي يصل عمره إلي 45عاما إنه يعمل في مهنة بيع العرقسوس لأنه يفهم فيها، ولأنها توفر له دخلا معقولا كل يوم.. فهو يبيع ما بين 100 و150 كوب عرقسوس كل يوم بعدها يذهب إلي غرفته التي يستأجرها ليقوم بتجهيز وتصنيع عرقسوس اليوم التالي، مؤكدا.. أن إقبال الناس علي العرقسوس يرجع إلي كونه مشروبا «مباركا» ولا يجوز غشه أو إضافة أي مواد إليه مثلما يحدث في المشروبات الأخري.. والزبائن «الناصحين» يعلمون بهذا ويقبلون عليه خاصة أنه مشروب خفيف وسريع.. ويضيف عم وجيه.. إن مهنة بيع العرقسوس من المهن الصعبة لأنها تحتاج إلي صبر كبير والرزق من عند الله، والحقيقة أن جميع الزبائن يشهدون لباعة العرقسوس بالنظافة، ولم يحدث أن اشتكي أي زبون بعد تناوله للعرقسوس.