هو إنسان في غاية البساطة لكنه أيضا في غاية الأهمية، ربما لا يعرف قيمته إلا من تضطره أوضاعه القاسية للتظاهر تحت وطأة لهيب الشمس، فبمجرد ظهوره ينسى الثائرون قضيتهم للحظات لارتشاف فخفخينا الفقراء، إنه بائع العرقسوس الذي تظهر أهميته الكبرى في الترطيب عن المحتجين الذين بح صوتهم دون مجيب. فهناك وبالتحديد أمام مقر مجلس رئاسة الوزراء القابع بشارع قصر العيني العتيق يقف الشاب "مجاهد" حاملا إبريقه الزجاجي أو النحاسي الذي تفوح منه رائحة عبق التاريخ ليسألك ببساطة هي الناس دي متجمعة ليه؟. وما عليك إلا أن تجيبه على تساؤله هذا ببساطة يمكنه استيعابها بأنهم يطالبون بحقوقهم، فيرد عليك بلهجة ساخرة لكنها ذات دلالة خطيرة قائلا: "وهما يعني فاكرين أنهم هاياخدوا حاجة من الحكومة، أصب لك كوباية عرقسوس أحسن؟".. وهنا لا تملك إلا أن تهز رأسك معلنا تأييده فيما يقول على أساس الرصيد المتراكم من الخبرات السابقة. وعندما تسأله لماذا لا ينضم هو أيضا للمتظاهرين، ، يدهشك برده الإيماني: "يا عم ماحدش واخد منها حاجة".. وبالطبع هو لا يقصد هنا الدنيا وإنما لعله يقصد الحكومة، وهنا تكون أمام خيارين لا ثالث لهم، فإما أن تصر على الوقوف في صفوف المتظاهرين أو أن تشرب كوب العرقسوس ثم تقتنع برأي "مجاهد" وترحل حاملا همومك إلى المنزل. الصور التي بين أيدينا لإحدى الوقفات الاحتجاجية التي نظمها صحفيو جريدة "الحقيقة" المتوقفة عن الصدور منذ سنوات والتي طالبوا فيها بحل مشكلتهم الأزلية سواء بإعادة صدور الجريدة أو ضمهم لصحف أخرى كما جرى مع العديد من الصحف. ومع طول الانتظار وحالة "الطناش" التي التزم بها مكتب رئيس الوزراء المصري الجديد د. عصام شرف، كانت الفرضية التي طرحها الأخ مجاهد أقرب للمنطق حيث قرر المتظاهرون فض اعتصامهم بعدما أدركوا صدق مقولته "ماحدش واخد منها حاجة"، وهنا حضرنا المثل الشعبي القائل خذوا الحكمة من بائع العرقسوس. ولمن يهمه أن يعرف فإن بيع العرقسوس مهنة موجودة في مصر بشكل واسع الانتشار، ويتميز البائع بأدواته البسيطة وهي الإبريق الزجاجي أو النحاسي كبير الحجم الذي صنع خصيصا ليحافظ على برودة العرقسوس طوال اليوم، ويحمله بواسطة حزام جلدي عريض يحيط بالخصر ويتدلى منه إناء صغير للأكواب. بينما يمسك بيده اليمنى صاجين من النحاس يصدران صوتا مميزا ويحمل في يده اليسرى إبريقا بلاستيكيا صغيرا مملوءا بالماء لغسل الأكواب التي استبدلت بالأكواب البلاستيكية، وقد يرتدي بائع العرقسوس طربوشا فوق رأسه للفت الأنظار إليه ودلالة على اعتنائه بنفسه. شفا وخمير يا عرقسوس وبارد وخمير وتهنى يا عطشان.. هذه بعض العبارات التي يرددها بائع العرقسوس للإعلان عن شراب عرف منذ القدم بمذاقه الحلو، الذي يقبل عليه الكبار والصغار، خصوصا في شهر رمضان وفي فصل الصيف عندما تشتد حرارة الجو ويزداد احتياج الجسم للسوائل، وكثيرا ما يتناوله المسلمون بعد أذان المغرب، لا سيما في الأحياء الشعبية، لكنه يبقى شرابا يقبل عليه الفقراء والأغنياء.