فوجئت بعد نشر مقال كيف تصبح مصر دولة طبيعية؟ بالأهرام, في يوم13 مارس2010, بسيل من ردود أفعال وتعليقات, سواء كانت شفاهية أو كتابية من جانب شرائح مختلفة من القراء وبعض الأصدقاء واللافت للنظر أنها جاءت في معظمها في صميم الموضوع محل النقاش, بخلاف ما تتسم به نوعية غالبة من القراء من الميل الطبيعي ل فن الخروج عن الموضوع الأصلي, وهو ما أعاد إلي ذهني المقال الذي نشرته في الأهرام بعنوان الرد علي المقال الذي لم أكتبه في21 ديسمبر2009, حينما قرأ البعض المقال الذي كتبته حديث جاد مع الدكتور محمد البرادعي بعين تخالف الرؤية التي كتبت بها المقال تماما, وبدأت حالة من الهجوم الكاسح علي شخصي أحيانا وفكري أحيانا أخري وانتمائي الحزبي أحيانا ثالثة, رغم أنني لم أتعرض في هذا المقال للكثير مما طرحوه. أما المقالة السابقة كيف تصبح مصر دولة طبيعية؟ فقد أثارت عددا من الأفكار والموضوعات التي تهم المجتمع والدولة في مصر معا, بما يوحي أنه لا تزال هناك فئة خاصة من القراء تتفاعل مع قضايا جادة وموضوعات مهمة ربما تعكس تغيرا سوف يحدث بشأن بوصلة الحالة الفكرية والثقافية المصرية خلال السنوات المقبلة. ومن الملاحظ تأكيد غالبية التعليقات علي مسألة خصوصية المجتمع المصري, وأن النظم السياسية والتطورات الاقتصادية والتجارب التنموية في دول العالم ليست سلعا قابلة للتصدير. وأنه من الظلم المقارنة بين الحال في مصر والواقع في دول غربية متقدمة بل ودول آسيوية متطورة, نتيجة اختلاف النسيج الثقافي والاجتماعي, وهو ما يحتم وضع الخطط والسياسات التي تلائم الأوضاع المصرية. لكن إشكالية مفهوم الخصوصية في الذهن المصري العام هي أنها تعني حالة استثنائية مصرية. مثل ذلك يمثل مفارقة منطقية طالما أشرنا لها في مناسبات ومقالات متعددة, حيث لا يمكن من ناحية المقارنة بين مصر والدول الأخري من زاوية التأكيد علي تدهور الأحوال في مصر, ثم بعد ذلك عندما نحاول استنباط وسائل الخروج من الحالة المصرية المزرية بالوسائل التي اتبعتها الدول التي سبقتنا نجد فرارا سريعا إلي حالة الخصوصية المصرية, والظرف الاستثنائي المصري, وهو المنطق الذي يجعل مصر والمصريين خارج العلم والتاريخ. والحقيقة هي أن الحالة التنموية المصرية ليست خاصة أو استثنائية, حيث يمكن تلمس وضعها من خلال المقارنة مع الخبرات والتجارب المختلفة لدول واقعة في أقاليم عدة في العالم, عبر مؤشرات كمية وكيفية معا لفهم الأبعاد المختلفة لهذا القطاع أو ذاك, ومدي حدوث تطور أو تراجع من فترة زمنية لأخري. ويبدو من قراءة تعليقات القراء أن هناك رغبة مجتمعية للتغيير في مصر, رغم أن المقاومة للتغيير تنبع من داخل المجتمع في بعض الأحيان, وخاصة في الحالات التي ترتبط بأوضاع شرائح عريضة منه.. فرغم الشكوي المستمرة من نظام التعليم في مصر والمخرجات التي يفرزها, إلا أن هناك معارضة قوية, مثلا, لتغيير أنظمة التقويم والاختبارات. وغلب علي التعليقات التركيز علي الأعراض المؤقتة وليس الأمراض المتوطنة داخل المجتمع المصري. فعلي سبيل المثال, إن البيروقراطية عرض وليست مرضا, والقطاع غير الرسمي عرض وليس مرضا. فالمرض, كما سماه البعض هو السياسات الحكومية, عبر ترسيخ' فكر الإعالة', وتدخلها المباشر في مجالات محددة مثل التعليم والصحة والإسكان والمواصلات والزراعة والصناعة والطاقة. وتركزت التعليقات في ثلاثة محاور أساسية يمكن الإشارة إليها علي النحو التالي: أ- التركيز علي البناء المؤسساتي الديمقراطي. وقد عبر عنها البعض بالإنجليزيةTHEANSWERISTHEDEMOCRACY. ورغم أهمية كل ما يقال في شأن تدعيم الأبنية الديمقراطية في مصر, إلا أن البلاد لاتزال بحاجة بدرجة أكبر إلي ترسيخ الثقافة الديمقراطية, سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو الحزب أو النقابة وغيرها من المؤسسات الوسيطة, والتي تركز علي قيم التسامح وقبول الآخر وإدارة الاختلاف وإبراز التنوع, وهو ما يقود بدوره إلي المساءلة والشفافية وعدم اللجوء للرشوة واحترام القانون.. فالديمقراطية لا يمكن حصرها في انتخابات الرئاسة أو البرلمان وإنما تشمل مختلف مؤسسات المجتمع, وهو ما يطلق عليه الديمقراطية من أسفل. وتشير التجربة العملية إلي أن المؤسسات السابق ذكرها تعاني من ضعف المكون الديمقراطي في بنيتها الداخلية وتوجهاتها القيمية. وفي حال حدوث تغير جوهري فيها, نصبح إزاء تدعيم البناء الديمقراطي في مصر. ب- ضعف الحراك الجيلي في مصر. ركزت بعض التعليقات علي استئثار جيل بعينه بالسلطة والحكم في مصر, وعدم تمكين الأجيال الجديدة من اعتلاء المناصب والمواقع القيادية. وفي الواقع أن تلك الحالة المتعلقة بالأجيال الجديدة أو ما يمكن تسميته بحالة ضعف الحراك الجيلي ليست بالحالة الحديثة, ولا يمكن ربطها بعصر الرئيس مبارك وإنما هي قضية قديمة عانت منها مصر في مراحل مختلفة من تطورها السياسي والاجتماعي, سواء قبل عام1952 أو بعده. ومن المنطقي أن يؤدي احتكار جيل معين للسلطة إلي ازدياد ما يسمي بصراع الأجيال حيث تشعر أعداد متزايدة من الشباب بوجود فاصل زمني ومساحة من التفكير المختلف بينها وبين الجيل أو الأجيال التي تسبقها. والأهم من ذلك أنه مع تمسك كل جيل بمواقفه وآرائه, يتسرب لدي جيل الشباب الشعور بالاغتراب, وهو شعور يتعمق في ظل ازدياد عوامل التهميش الأخري الاقتصادية والسياسية والثقافية, وانخفاض عدد الفرص المتاحة أمام الشباب مقارنة مع فرص الجيل الأكبر, ثم إن قضية الحراك تلك سواء إداريا أو مهنيا أصبحت تعتمد ليس علي الكفاءة بقدر ما تعتمد علي العلاقات الشخصية, وهكذا غاب الشباب تقريبا عن مواقع صنع القرار في المؤسسات الحكومية أو حتي عن شغل مناصب قيادية داخل الأحزاب السياسية أو داخل هيئات المجتمع المدني كالنقابات المهنية والجمعيات الأهلية. أما في الدول الأوروبية فمن الطبيعي أن تجد الشباب يشغلون الكثير من المواقع المهمة كأن تجد شابا رئيسا لجامعة أو رئيسا لتحرير صحيفة كبري أو رئيس شركة كبري. ومن هنا استطاعت تلك الدول أن تعظم استفادتها من قدرات الشباب من خلال منحهم الفرص للتعبير عن أنفسهم بينما أهملنا نحن طاقات الشباب بكل ما لذلك من تأثيرات سلبية علي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فمجتمع يريد الانطلاق نحو عالم الدول المتقدمة لا يمكن له أن يحقق ذلك اعتمادا علي آراء وقدرات الأجيال السابقة فقط, وإنما لابد له من دمج الأجيال الجديدة أو استيعابها والاستفادة مما لديها من قدرات ومما تطرح من آراء تواكب العصر الذي يوجدون فيه. ج- ضرورة الاهتمام بالتطوير العلمي. تشير التعليقات إلي أن النقلات النوعية في حياة المجتمعات تتم من خلال الاهتمام بالتعليم ودراسة اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية وإيلاء أهمية أكثر للعلوم التطبيقية, لكن الإشكالية أن الحكومة لا تزال تواجه الأمية التعليمية, ناهيك عن الأمية الثقافية, في الوقت الذي تنادي فيه اليابان بضرورة القضاء علي الأمية التكنولوجية. وبالتأكيد, فإنه لا يوجد خلاف حول أهمية التعليم وحول ما يعانيه من مشكلات وما يواجهه من تحديات, خاصة أن المقصود بالتعليم هنا ليس القضاء علي الأمية( القراءة والكتابة) فقط. ويهمني هنا الإشارة إلي ما خلص إليه تقرير حديث صادر عن مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء عن ماذا يقرأ المصريون؟, إذ يقول التقرير إن عدد الأسر المصرية التي يقوم أحد أفرادها علي الأقل بممارسة القراءة يقدر بحوالي2.2 مليون أسرة, منهم حوالي1.5 مليون أسرة لديها مكتبة صغيرة بالمنزل. كما أن88% من الأسر المصرية لا يقوم أي من أفرادها بقراءة أي نوع من أنواع الكتب( بخلاف الكتب المدرسية) وأن76% من الأسر لا تقوم بقراءة الصحف أو المجلات علي الإطلاق, وهو ما يؤدي إلي غياب الوعي بالتطورات الحادثة في العالم لدي شريحة كبيرة من المصريين. بخلاف ذلك, هناك تراجع في الإقبال من جانب قطاع كبير من الطلاب في مراحل التعليم المختلفة علي تعلم العلوم والرياضيات الأساسية, رغم ما تمثله هذه العلوم من أهمية قصوي في أي بناء عصري للعلوم والتكنولوجيا, يتقاطع مع مجالات محددة مثل البيو تكنولوجي وتكنولوجيا الطاقة الجديدة والمتجددة وتكنولوجيا المياه وتكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية. والمتأمل لأحوال التعليم في مصر لا يمكنه أن ينكر المشكلات التي تواجه جودة منظومة العملية التعليمية في مصر, والتي تضم الطالب والمعلم والمقرر الدراسي والمدرسة. لكن من الجدير بالذكر أنه حدثت زيادة في المخصصات الموجهة للتعليم في الموازنة العامة للدولة من36 مليار جنيه إلي48 مليار جنيه في العام المالي2010/2009, وشهد عام واحد(2008) إنشاء نحو500 مدرسة, بتكلفة مليار جنيه, وجار العمل في744 مدرسة. ورغم ما تعانيه بعض المدارس من مشكلات لكن أحوالها أفضل من سنوات سابقة, من حيث معامل الطلبة والمكتبات المدرسية والعيادة الطبية وغرف المعلمين بل تم الانتهاء من تجهيز أكثر من140 مدرسة تجريبية علي مستوي الجمهورية كمدارس ذكية. والخلاصة أن مصر تجري فيها متغيرات كثيرة, بعضها يدفعها إلي الحالة الطبيعية, وبعضها الآخر يدفعها بعيدة عنها, وربما كان أصل المشكلة أننا لم نتفق بعد لا علي الحالة الطبيعية, ولا علي الحالة التي عليها المجتمع والدولة المصرية الآن؟ مثل ذلك يمثل مفارقة منطقية طالما أشرنا لها في مناسبات ومقالات متعددة, حيث لا يمكن من ناحية المقارنة بين مصر والدول الأخري من زاوية التأكيد علي تدهور الأحوال في مصروالمتأمل لأحوال التعليم في مصر لا يمكنه أن ينكر المشكلات التي تواجه جودة منظومة العملية التعليمية في مصر, والتي تضم الطالب والمعلم والمقرر الدراسي والمدرسة. [email protected]