برلماني: الدولة تسعى لتحسين التجربة السياحية وترسيخ مكانتها بالخريطة العالمية    إزالة 17 حالة تعد جديدة على نهر النيل بدمياط    «إجيماك» تتفاوض مع بنوك محلية للحصول على قرض بقيمة 700 مليون جنيه    واشنطن «غير أكيدة» من وضع قوات كييف...رئيسة ليتوانيا: هذه هي مساعدات أمريكا الأخيرة    غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة بجنوب لبنان    مدرب يد الزمالك يعقد جلسة فنية مع اللاعبين قبل لقاء الترجي    حملات تموينية على الأسواق في الإسكندرية    مفاجأة إسعاد يونس.. ياسمين عبد العزيز ضيفة «صاحبة السعادة» في شم النسيم    الطلاق 3 مرات وليس 11..ميار الببلاوي ترد على اتهامات شيخ أزهري    رامي جمال يتخطى 600 ألف مشاهد ويتصدر المركز الثاني في قائمة تريند "يوتيوب" بأغنية "بيكلموني"    أحمد حسام ميدو يكشف أسماء الداعمين للزمالك لحل أزمة إيقاف القيد    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    ختام امتحانات النقل للمرحلتين الابتدائية والإعدادية بمنطقة الإسماعيلية الأزهرية (صور)    غدا انطلاق معرض وتريكس للبنية التحتية ومعالجة المياه بمشاركة 400 شركة بالتجمع    رئيس الوزراء الفرنسي: أقلية نشطة وراء حصار معهد العلوم السياسية في باريس    مجرم في كهرباء الجيزة!    السر وراء احتفال شم النسيم في مصر عام 2024: اعرف الآن    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    «صباح الخير يا مصر» يعرض تقريرا عن مشروعات الإسكان في سيناء.. فيديو    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة جراء سوء الأحوال الجوية    الشرطة الأمريكية تفض اعتصام للطلاب وتعتقل أكثر من 100 بجامعة «نورث إيسترن»    وزير الرياضة يشهد مراسم قرعة نهائيات دوري مراكز الشباب النسخة العاشرة    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    الرئيس التنفيذي للجونة: قدمنا بطولة عالمية تليق بمكانة مصر.. وحريصون على الاستمرار    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    "اكسترا نيوز" تعرض نصائح للأسرة حول استخدام ابنائهم للانترنت    أمن أسيوط يفرض كرودا أمنيا بقرية منشأة خشبة بالقوصية لضبط متهم قتل 4 أشخاص    خطة لحوكمة منظومة التصالح على مخالفات البناء لمنع التلاعب    فوز أحمد فاضل بمقعد نقيب أطباء الأسنان بكفر الشيخ    بايدن: لن أرتاح حتى تعيد حماس الرهائن لعائلاتهم    التحالف الوطني للعمل الأهلي.. جهود كبيرة لن ينساها التاريخ من أجل تدفق المساعدات إلى غزة    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان.. صور    الكشف على 1670 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة الزقازيق بقرية نبتيت    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    الصين: مبيعات الأسلحة من بعض الدول لتايوان تتناقض مع دعواتها للسلام والاستقرار    حكم واجبية الحج للمسلمين القادرين ومسألة الحج للمتوفين    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    بالصور| "خليه يعفن".. غلق سوق أسماك بورفؤاد ببورسعيد بنسبة 100%    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خبيرة: يوم رائع لمواليد الأبراج النارية    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    هل يوجد تعارض بين تناول التطعيم وارتفاع حرارة الجسم للأطفال؟ هيئة الدواء تجيب    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الدستور" تنشر.. "أزمة المثقفين" الكتاب المجهول لمحمد حسنين هيكل
نشر في الدستور الأصلي يوم 07 - 02 - 2010

الصراع علي المثقفين من محمد حسنين هيكل إلي فاروق حسني
يعتبر الكتاب النادر لمحمد حسنين هيكل «أزمة المثقفين» من أهم كتبه علي الإطلاق، ليس بسبب ردود الفعل التي أثارها وقت صدوره، أو حتي وقت نشره كمقالات في جريدة الأهرام، أو حتي السياق الذي صدرت فيه المقالات ثم الكتاب نفسه، ولكن لأنه يكشف عن أن وضع المثقفين في «الحظيرة» هو سياسة مستمرة منذ ثورة يوليو وحتي الآن. فما يفعلة فاروق حسني اليوم من خلال الإعداد لمؤتمر للمثقفين وما طالب به الرئيس مبارك المثقفين منذ أيام بالوقوف مع الدولة في مواجهة خطر التطرف أو الفتنة الطائفية طالب به نظام عبدالناصر في صيغة أخري وحول قضايا مختلفة.
في رسالة الدكتوراه التي أعدها الباحث الأردني جمال الشلبي في جامعة 11 (السوربون) عام 1995 عن محمد حسنين هيكل، وترجمتها حياة الحويك عطية ونشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت أفرد بابا لكتاب أزمة المثقفين قال فيه إن نقاشا طويلا دار في أوساط المثقفين المصريين في الفترة من 12 مارس إلي 14 يوليو عام 1961حول تعريف ودور المثقف في حكم عبدالناصر. وقد بدأ هذا النقاش بسلسلة من المقالات كتبها لطفي الخولي، في هذا الوقت عبر هيكل عن موقف ورؤية الدولة تجاه المثقفين ودورهم ومجموع هذه المقالات أصدرها هيكل في كتابه الذي نعرض لأهم أفكاره هنا.
ومن يقرأ الكتاب نفسه سيجد أن المؤلف لم يهتم بالمثقفين، وإنما بفئة منهم فقط هم المثقفون الناشطون سياسيا، والمنضمون إلي أحزاب أو حركات سياسية غير رسمية مثل التنظيمات الشيوعية وغيرها، وسنجد أنه مع سعة اطلاعه علي ما ينشر في الخارج من كتب لم يهتم بالاطلاع علي الأعمال الفكرية الكلاسيكية التي تناولت المثقفين.. ونخص هنا عملين أساسيين: الأول هو عمل الفرنسي جوليان بندا «خيانة الإكليروس» المعروف لدينا هنا في مصر باسم خيانة المثقفين، وهو عمل افتتاحي رائد فيما يتعلق بالموضوع، لأنه يدرس أوضاع المثقفين الفرنسيين فيما بين الحربين العالميتين. والثاني هو دراسة أنطونيو جرامشي عن المثقفين التي جاءت ضمن مؤلفه »كراسات السجن»، وهيكل تعرض أكثر من مرة في كتابه لدور المثقف وعلاقته بطبقته الاجتماعية، وهذا هو ما تناوله جرامشي فيما يتعلق بالمثقف العضوي، الذي يعني بالنسبة له ليس كما هو شائع لدينا في معظم الكتابات عن المثقفين بأن يكون المثقف ملتحما بالجماهير، وإنما هو أن يخدم طبقته الاجتماعية، وكان هذا الأمر موضع نقد هيكل لهم.
والسياق الذي نشرت فيه المقالات له دلالة خاصة، ففي هذا الوقت كان معظم "المثقفين " اليساريين، في المعتقلات، وأفرج عن عدد قليل منهم مثل لطفي الخولي الذي دشن الحديث عن أزمة المثقفين، من أجل إجراء اتصالات معهم لحل الحزب الشيوعي مقابل انضمامهم إلي منظمات الثورة، ودمجهم في مؤسسات الدولة، ويبدو أن مقالات هيكل جاءت في هذا السياق، حتي تبدو الدولة نفسها طرفا في الموضوع.
وهذا الأمر يفسر أن الحوار الذي كان يجري حول أزمة المثقفين كان من جانب واحد، ويبدو وكأنه كان بمثابة إلقاء اللوم علي الضحايا، حسب عنوان المؤلف الذي كتبه إدوارد سعيد عن القضية الفلسطينية بالاشتراك مع كريستوفر هتنشنز. فقد كان اللوم يوجه لقطاع من المثقفين هم الليبراليون الذين أصبحوا مدافعين عن مصالح كبار ملاك الأراضي، والذين لم يكونوا ليبراليين وكانوا في المعتقلات، ولم يسع هيكل في مقالاته أو كتابه إلي طرح المقابل الذي ستعطيه الدولة للمثقفين، فلم يكن هناك حديث عن حرية الإبداع أو عن أن يصبح المثقفون هم المسئولون عن المؤسسات الثقافية، أو غير ذلك من القضايا التي يهتم بها المثقفون، وبالتالي فإن علاقة الدولة بهم لم تتقدم إلا مع تولي الدكتور ثروت عكاشة منصب وزير الثقافة وأسند إليهم مهاماً تتعلق بالقضايا التي تهمهم وهي القضايا الثقافية.
واللافت للنظر في كتاب هيكل أو مقالاته أنه استخدم تعبير المثقفين الجدد، ولو دققنا النظر في تعريفه لهم سنجد أنه يقصد المتعلمين الذين شاركوا في مشروعات الثورة، ولو دققنا النظر في الحديث عن المثقفين الذين يقصدهم هيكل في الكتاب سنجد أنه في أحيان كثيرة يقصد المتعلمين أكثر من كونه يقصد المثقفين الذين لديهم آلاف التعريفات في أدبيات علم الاجتماع وعلم تاريخ الأفكار وغيرها. وبالطبع فإن هيكل لم يكن يقصد التعريف الذي صكه المفكر الإيراني علي شريعتي في سبعينيات القرن الماضي وبعد ما يزيد عن 15 سنة من صدور كتاب «أزمة المثقفين» عندما رأي أن المثقف هو من تزيد نسبة الأعمال الذهنية التي يمارسها علي نسبة الأعمال اليدوية.
إن كتاب هيكل ليس عن أزمة المثقفين، ولا يتناول أمور وقضايا الثقافة، وإنما هو بمثابة تبرير من هيكل للانتقادات التي كان يوجهها المثقفون للثورة، والتي كانت سببا في عدم اندماجهم في أجهزتها ومؤسساتها ماعدا المنتمين إلي أحزاب سياسية محددة قبل الثورة مثل الحزب الوطني الذي لعب اثنين من قياداته دوراً مهماً في سنوات الثورة الأولي وهما سليمان حافظ الذي قام بدور كبير في مرحلة ما بعد الثورة، وفتحي رضوان الذي تولي وزارة الإرشاد القومي التي أصبحت فيما بعد هي وزارة الإعلام.
في كتابه «زيارة جديدة إلي هيكل» يؤكد أحمد حمروش أنه كان لعبد الناصر رأي ولهيكل رأي آخر وهما لا يتطابقان، وأنه ليس صدقا ما كان يدعيه البعض بأن مقالات هيكل كانت بالونات يطلقها عبدالناصر ليتعرف منها علي خبايا الرأي العام، ويضيف أن الأمر هو أن هيكل اكتسب ثقة عبدالناصر.
ولكن هذا الأمر يختلف فيما يتعلق بهذا الكتاب حيث حرص هيكل في سياقه أن يذكر آراء عبدالناصر في القضايا التي يتناولها، وكأنه كان يريد أن يطمئن من يرسل إليهم الرسائل المتضمنة في الكتاب بأن عبدالناصر حاضر معهم في الحوار، وأنه يؤيد محاولات ضمهم إلي الحظيرة.
و«الدستور» عندما تعرض هذا الكتاب المهم للأستاذ هيكل تنطلق من أمرين: الأول أن الأعمال المجمعة له لم تشمله علي الرغم من أهميته ومن حق القراء أن يتعرفوا علي تراث هيكل وهو تراث ملك للجميع لما له من شخصية فكرية مؤثرة في الأحداث السابقة والحالية، والثاني الضجة المثارة حاليًا حول المثقفين سواء فيما يتعلق بالإعداد لمؤتمر لهم أم تذكر رئيس الدولة لهم فجأة ومطالبتهم بالتصدي للتطرف والفتنة الطائفية.. والكتاب صدر عام 1961 عن الشركة العربية المتحدة للتوزيع في 163 صفحة.
هيكل في كتابه النادر: ظروف عديدة تسببت في أن يصبح عدد كبير من المثقفين أصحاب مصالح متميزة عن مصلحة الجماهير
يبدأ هيكل كتابه بالقول:
ليس في هذا الكتاب شيء جديد في تلميح إلي أن الكتاب سبق نشره كمقالات في جريدة «الأهرام» ويضيف: وأنا أعلم أن الناشر الذي يتولي عملية نشره، لن ترضيه هذه المقدمة ولربما كان يفضل عليها أن ينشر الكتاب دون مقدمة علي الإطلاق!
ومن وجهة نظره، فلسوف يكون تعليقه علي هذه المقدمة:
«ولماذا نصدم القارئ منذ السطر الأول في الكتاب بأنه لن يعثر فيه علي جديد؟»...
وبالتالي علي حد تعبير أساتذة الإعلان «ما نقطة البيع» التي يمكن الارتكاز عليها في دفع القارئ إلي شراء الكتاب؟
والحقيقة أنني لا أعتبر هذه الصفحات كتاباً.
إنها أقرب إلي أن تكون ملفاً يحزم مجموعة من الأوراق ليحفظها، وليضمها معاً، لا أكثر ولا أقل.
إنه ملف يحمل رأياً في مناقشة امتدت ثلاثة أشهر، ما بين مايو ويوليو من سنة 1961، وعلت فيها أصوات كثيرة، تحمل آراء أخري لا عدد لها ولا حصر.
ولأهمية موضوع المناقشة في حد ذاته، فلقد تحمست لعرض إخراجها في كتاب أو بمعني أدق، في شكل كتاب.
وكان في تصوري أن ذلك يحقق أكثر من هدف.
أولاً: يضع الرأي الذي
ثانياً: وهو الأهم يتيح للمناقشة أن تستمر.
لقد امتدت المناقشة
إن الموضوع، وما يتعرض له، يلمس كل مشاكلنا الداخلية في صميمها بصرف النظر عن مدي الخطأ أو الصواب في الطريقة التي حاولت بها أن أقترب منه.
وليس الموضوع «هو أزمة المثقفين»، فإن أزمة المثقفين كما قلت أثناء احتدام المناقشة لم تكن إلا باباً إليها ومدخلاً.
وإنما الموضوع هو مشاكلنا الداخلية في الحاضر، وجذورها الضاربة في أعماق الماضي، ثم هو تطلعنا إلي المثل الأعلي في المستقبل وإمكانيات الاندفاع الثوري في اتجاهه طلباً له، وإصراراً علي تحقيقه.
ثم يبقي في منأي بأن تستمر المناقشة، إيماني بأن حياتنا العامة في حاجة إلي مناقشات حرة ومزيد من المناقشات الحرة.
مناقشات لا قيد عليها ولا حواجز تصدها.
أقول هذا وفي ذاكرتي عبارة قالها فرانكلين د. روزفلت عندما انتُخب لأول مرة رئيساً لجمهورية الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1932:
«لا ينبغي أن يكون هناك ما نخافه.. إلا الخوف ذاته».
يبدأ هيكل الفصل الأول من كتابه بالقول: لا أعرف إذا كانت هذه السلسلة الجديدة من المقالات، قد تأخرت كثيراً عن موعدها، أو أنها تقدمت وسبقته.
ولكي أكون واضحاً منذ البداية، فإن موضوعها هو «نظرة إلي مشاكلنا الداخلية علي ضوء ما يسمونه «أزمة المثقفين».
ولأن البحث في هذا الموضوع سيعود بنا إلي سنوات عديدة مضت، تقصياً للأسباب والجذور، فقد يبدو أن المحاولة تأخرت.
ومن ناحية أخري، فإن ما يسمونه «أزمة المثقفين»، مازالت مشكلة قائمة، ومن الصعوبة بمكان، لمن يحاول أن يكون منصفاً، أن يضع تقييماً غير منحاز، لشيء لم يتخذ بعد شكله النهائي، من هنا يبدو أن المحاولة تقدمت وسبقت أوانها!
ذلك كله في الجانب الذي يغري بالسكوت.
ولكن هناك علي الجانب الآخر حوافز تدعو إلي الكلام، سواء كان الموضوع متأخراً عن أوانه، أم متقدماً عليه، سابقاً له.
علي الجانب الذي يدعو للكلام مجموعة الأسباب التالية:
أولاً: إن التلاقي والامتزاج، بين ما أسميه «قوة الدف الثورة. وفي هذا المجال لابد من الإشارة إلي أن الخطة الخمسية الأولي كانت قد بدأت، وكان لها طابع اشتراكي، والانتقاد الأساسي الذي يوجه لها كان هو أنها اشتراكية بلا اشتراكيين إشارة إلي أن الاشتراكيين مستبعدون منها ومعظمهم في معتقلات الثورة.
ثانياً: إن المحاولة هنا ليست محاولة تأريخ، بل هي مجرد تأمل وتفكير حر مفتوح في مشكلة قائمة، وإنما هو «تأمل وتفكير» بصوتٍ عالٍ، علي حد التعبير الأثير لدي الدكتور «محمود فوزي» وزير الخارجية.
ثالثاً: إنه بدا في الفترة الأخيرة، وكأن الثلوج تذوب، ما بين «قو الأفق.
ويري هيكل أنه كانت هناك حوافز أخري غير هذه الأسباب الرئيسية الثلاثة، تدعو إلي الكلام وتغلب جانبه علي جانب التزام الصمت وإيثاره
من بينها أنه دارت مناقشات أخيرة كثيرة حول «أزمة المثقفين» يوليو، والقيمة الكبري للأعياد أنها فرص للتأمل وللذكري.
ويحدد هيكل بعض الذي يقصده بما يستعمله من الكلمات والعبارات، حتي لا تبدو وكأنها رموز وطلاسم، تزيد المشكلة تعقيداً بدل أن تساهم في تبسيطها:
1 إن الذي أقصده بعبارة «قوة الدفع الثوري» هو هذه الطلائع الثائرة التي تحركت ليلة 23 يوليو، تسعي إلي إحداث تغيير أساسي وشامل، في شكل المجتمع المصري.
2 إن الذي أقصده بكلمة «المثقفين» هم هؤلاء الذين واتتهم الف المئات من التعريفات الإجرائية لهذا المصطلح لكنه آثر أن يستخدم التعريف السهل الذي يساعده علي أن يخرج بنتائج محددة في الصفحات المقبلة من الكتاب.
3 إن حديثي عن الأزمة في الواقع، ينحصر في داخل حدود مصر.. حدود الجمهورية العربية المتحدة، ففي هذا النطاق أتيح لي أن أعيش المشكلة علي الطبيعة، وأتابعها كصحفي يراقب التطورات، وكمواطن يتنفس جو بلده ويتأثر به.
وبعد هذه المقدمة التي طالت ندخل إلي الموضوع.
ويضيف هيكل: في تصوري، وأنا أتطلع الآن إلي أحداث في هذه الفترة سيدرك أن الأزمات جميعها كانت بين النخبة السياسية ال
ويستطرد: ما حاولت من ناحيتي أن أقوم بهذا الفصل، فمن رأيي وهو رأي مفتوح بالطبع للمناقشة أن هذه الأزمات تتابعت علي النحو التالي:
قامت الأزمة الأولي حول المطالبة بعودة الجيش إلي ثكناته في أعقاب تصديه لتنفيذ ثورة 23 يوليو.
وكان هناك من يبني هذه المطالبة علي أساس أن الجيش ليس سلطة حكم، وأنه وقد قام بالثورة، عليه أن يتنحي، ويترك الحكم ل«أربابه» والعارفين بأصوله!
قامت الأزمة الثانية حول المطالبة، بعودة الحياة النيابية، وبعودة الأحزاب السياسية، باعتبار أن ذلك في رأي المطالبين به هو أساس الديمقراطية وصورتها التي لا تتغير.
قامت الأزمة الثالثة حول ما سموه في ذلك الوقت، المفاضلة بين «أهل الثقة» و«أهل الخبرة»، وتركزت هذه الأزمة في الواقع حول تعيين بعض العسكريين في عدد من الشركات والهيئات والمؤسسات، وفي وظائف يبدو أنها فنية بحتة لا تحتمل غير المتخصصين في أعمالها.
هذه في تصوري هي الأزمات الثلاث، التي بلورت بشكل أو بآخر ما يسمونه «أزمة المثقفين».
ويبدأ هيكل هنا في تقديم تبريرات للدفاع عن الثو
وهنا يدخل هيكل في لب موضوعه بالقول: ونبدأ الآن، بالأولي منها، حسب السياق الزمني للتطورات، بالأزمة التي قامت حول المطالبة بعودة الجيش إلي ثكناته في أعقاب تصديه لتنفيذ ثورة 23 يوليو.
نبدأ بها علي حدة، ونضعها كما قلنا تحت الفحص الدقيق المُجرد.
ولكن قبل أن نستطرد بالحديث من هنا، لابد أن نطرح سؤالاً يتحتم علينا أن نواجهه.
هذا السؤال هو:
- هل كانت المطالبة بعودة الجيش إلي ثكناته بداية الأزمات المتلاحقة، التي صنعت للمثقفين في النهاية أزمتهم الكبري؟
في الحقيقة أن الإجابة الوحيدة هنا هي النفي.
ويبدأ هيكل في ال
ولقد وقعت حركة الجيش اتجاهاً إلي الثورة، في الفراغ المخيف، الذي أحدثته أزمة المثقفين في مجال القيادة الحقيقية للنضال الشعبي.
تلك حقيقة لا مجال لإنكارها في رأيي.
وليس القصد من تقريرها، أن ألقي المسئولية هنا أو هناك، فذلك أمر لم تعد له الآن جدوي وإنما تقريرها لا هدف منه إلا المساعدة علي المتابعة الواعية لتطورات الحوادث.
ويقول هيكل: لقد أدت ظروف كثيرة، تعرض لها غيري بالتفصيل، فيما عن مصالح الجماهير.
كان الوصول إلي المراحل المتقدمة في العلم، في الغالب الأعم، حكراً للقادرين، الذين واتتهم الفرصة بحكم المولد، أو بحكم الصدفة.
الذين واتتهم الفرصة بحكم المولد كان ولاؤهم لطبقتهم الممتازة.
والذين واتتهم الفرصة بحكم الصدفة كان تطلعهم أيضاً إلي هذه الطبقة الممتازة باعتبارها المالكة مقدرات الأمور، والقادرة علي فتح الأبواب المغلقة.
ولقد ساهم الاستعمار والحكم الملكي وكبار ملاك الأرض الذين كان إرادياً أو غير إرادي!
والملاحظ هنا أن هيكل يتعامل مع المثقف من مدخل تقل عضويا. وهذا أحد أبرز انتقادات هيكل لمثقفي يمين ما قبل الثورة.
ويضيف هيكل أن النضال الشعبي لم يكن في حقيقته هو تلك المعارك الباهتة بين الأحزاب علي الحكم، ولا كان ذلك الصراع الظاهر أو الخفي بين بعض الأحزاب والقصر.
ذلك كله كان من مظاهر النزاع علي المكاسب المسلوبة من حرمان الجماهير ومن كبتها.
وأما النضال الشعبي الحقيقي فقد كان يتخبط في متاهات أخري، يحاول أن يجد فرصة للتعبير عن نفسه وعن مطالبه.
وكانت الطبقة الحاكمة تشعر بالفوران الشعبي، ولكنها كانت من الغباء أو من التغابي بحيث أدارت عيونها عن المسببات الأصيلة للفوران، واكتفت بأن تفتح له متنفساً في مقاومة الاستعمار، عله يستغني بهذه المقاومة عن باقي مطالب الثورة الشاملة.
ولقد استطاع الشعب بالتجربة وبالشواهد أن يفهم الموقف ويدرك معناه.
وفي فترة الاندفاع الشعبي إلي قتال الاستعمار في منطقة القناة ق أرباح القمار التي كان يجري وراءها في أندية العاصمة.
كلها كانت محاولات متعمدة أو غير متعمدة لاستنزاف طاقة النضال الشعبي، حتي يتبدد حماسه وتفرغ همته، ويسكن ويستسلم!
ويعيد هيكل مرة أخري طرح أسئلة متعلقة بالموضوع الذي يتناوله وهي: في هذا كله أين كان المثقفون، وأين كان دورهم الطليعي في قيادة الجماهير؟
الواقع أنهم، فيما عدا ظواهر فردية، كانوا بعيدين عن المعركة:
بعضهم بارتباطاته الطبقية كان يقف في الصف المعادي لمصالح الجماهير.
والبعض الآخر، بحكم إيثار العافية علي الأقل، كان يقنع بالانزواء ويباشر رعايته لمصالحه الشخصية، من غير تعرض غير مأمون العواقب لمجري الحوادث.
وحتي حين برقت في الأفق نذر الانفجار الشعبي القادم، لم يستطع كثير من المثقفين أن يروا من هذه النذر ما تدل عليه وتشير إليه.
ويقول: في تقدير
ولو تأخرت الثورة، وتأخرت بالتالي إعادة توزيع الأرض، لقامت «بهوت» أخري في أي قرية يملك الإقطاع كل زمامها.
كذلك في تقديري «حريق القاهرة».
ولقد يكون هناك من أشعل الشرارة الأولي من اللهب في العاصمة عمداً وبسوء قصد.
ولكن تلك مسألة ثانوية.
فبعد الشرارة الأولي، اندفعت جماهير كثيرة تعبر عن نفسها، بزيادة النار اشتعالاً، وبالنهب والسلب.
ومرة أخري، فليس حريق القاهرة كما يبدو لنا الآن مجرد حادثة بوليسية، وإنما حريق القاهرة كان انفجاراً من الذين لا يملكون شيئاً، ضد الذين يحتكرون وحدهم حق الحياة.
ولم يكن غريباً أن ينصب غضب الجماهير، علي دور السينما، وعلي الفنادق الكبري، وعلي المحال الأنيقة في وسط المدينة، ذلك كله كان طبيعياً، فقد كانت غضبة الجماهير علي حرمانها!
ومع ذلك ضاعت هذه النذر دون وعي حقيقي لدلالاتها.
واكتفت الطبقة الحاكمة في مواجهتها بإعلان الأحكام العرفية، وبمنع التجول، وبمحاولة استعمال الجيش لإرهاب الشعب.
وعلي المراقب والمتابع لما حدث في مصر في ه
ويبدأ هيكل في تحليله الأساسي با
لم يتحرك الجيش بقيادته، وبجنرالاته، وبقادة الأسلحة فيه، وإنما تحركت طلائع شابة، بقي اتصالها بالجماهير مفتوحاً، لا تعوقه مصالح طبقة، ولا تصده انتهازية أو سلبية.
طلائع خرجت تحاول ما حاولته ليلة 23 يوليو برصيد من الأمل محدود، وبرصيد من الإيمان بلا حدود.
وكان الحد الفاصل بين النجاح والفشل هو موقف الجماهير.
كانت الجماهير في الشوارع، هي التي اندفعت من غير تحفظات في تأييد الطلائع الشابة التي خرجت من الجيش استجابة لندائها وتفاعلاً معها، بعد أن عجزت كل الفئات الأخري عن مواجهة التحدي الذي فرضته الحوادث.
والذين يقولون هنا إنها كانت ثورة جيش، يملك السلاح، وبالتالي يملك القوة علي التغيير، يقعون في الغلط أو المغالطة.
فلقد كان العبء علي الطليعة الشابة الثائرة في الجيش مضاعفاً... كان عليها أولاً أن تستولي علي الجيش من أيدي قواده وجنرالاته.
ثم كان عليها أن تخرج به، في نفس الليلة سليماً متماسكاً إلي تعزيز النضال الشعبي خارج الثكنات.
وهنا الفارق الكبير، بين ما حدث ليلة 23 يوليو في مصر، وبين ما رأيناه يحدث في بلاد أخري.
لقد رأينا في بلاد أخري كيف تحرك الجيش بأكمله كجيش.. لا ليكون أداة ثورة، ولكن ليكون أداة تجميد.
في بلاد كثيرة والجيش بشكله العام في أي بلد خادم للنظام الواقعي فيه خرجت الجيوش من ثكناتها بتحريض أصحاب المصالح، بتحريض اليمين، لكي تعترض النضال الشعبي وتوقف حركته الطبيعية إلي اليسار.
ولكن اليسار، كان هو الذي حرك الحوادث ليلة 23 يوليو، وهو الذي تحمل المسئولية لإحداث التغيير استجابة مباشرة لإرادة الجماهير واستيعاباً أميناً لمطالبها.
وبخروج الملك يوم 26 يوليو بعد تنازله عن العرش بدأت صدمة ما حدث يوم 23 يوليو تخف، وبدأت القوي التي كانت تشارك في الحكم قبل 23 يوليو تحاول ترتيب نفسها علي الوضع الجديد.
ولقد تصورت الطبقة التي كانت تحكم، والتي كانت الأحزاب القائمة في ذلك الوقت تنظيمات تحمي مصالحها، أنه يكفيها في الوضع الجديد أن تعتبر الملك وحده كبش فداء، ألقي به عبر البحر ثم انتهي الأمر.
وكان ذلك خطأ فادحاً.
أفدح منه في تصوري خطأ كثير من المثقفين، الذين لم يدركوا حتي وقتها أن التغيير المحتم الذي لا مفر منه، ليس هو مجرد تغيير رأس الدولة، وإنما هو بداية تغيير المجتمع من أساسه.
لقد عجزت غالبية الفئات المثقفة، سواء بارتباطاتها الطبقية التي أبعدتها عن المطالب الحقيقية للنضال الشعبي، أو بعزلتها عن هذا النضال عن رؤية الصورة في جلائها ووضوحها.
وأكثر من ذلك بدأت هواجس الضمير تؤرقها.
وهنا يلقي هيكل باللوم علي المثقفين، أي أنه يلقي باللوم علي الضحا وليس تغيير المجتمع حسبما يقول هيكل بعد 9 سنوات من قيامها.
ويضيف هيكل: لقد كان بروز القيادة الثورية من بين الطلائع الشابة التي تحركت في صفوف الجيش، واتصالها الحي بالجماهير، ونجاحها في التعبير عن مطالبها، تذكيراً دائماً ومستمراً لهذه الغالبية من الفئات المثقفة بعجزها عن أداء دورها الطليعي.
لقد كان يجب بحكم المنطق أن تكون القيادة الثورية لها.. للفئات المثقفة.
وبالطبع يتحدث هيكل وكأنه قد تمت دعوة الفئات المثقفة إلي الاندماج في الثورة لكنها رفضت!!
ويضيف في نفس السياق: ولكن يوم الثورة جاء ليجد الفئات والنخبة المثقفة في العزلة البعيدة.
ويرجع ذلك إلي دافعين:
دافع المصلحة الطبقية المتميزة.
ودافع هواجس الضمير.
بدأ الهمس بالمطالبة بعودة الجيش إلي ثكناته!
وبهذا الهمس أثبتت هذه الفئات، أنها لم تستطع التعمق الكافي لرؤية أبعاد الحوادث وحدودها، ولا تمكنت من التفاعل مع التجربة والإحساس بطبيعتها ومتطلباتها.
{{{
ويطرح هيكل سؤالاً مركزيًا في تحليله هو: ما الذي كان يمكن أن يحققه الهمس بعودة الجيش إلي ثكناته؟
ويجيب: لقد تحركت من الجيش طليعة، دعاها الفراغ القيادي وإحساسها المتصل بإحساس الجماهير أن تترك عملها النظامي وتخرج إلي المجال الثوري.
فهل امتلأ الفراغ الذي دعاها ببديل قادر علي القيادة؟
لقد مهد لتحرك الطليعة ونجاح حركتها، إرادة شعبية تلح في تغيير البناء الاجتماعي علي أساس من العدل والتكافؤ.
فهل حدث التغيير وهل أعيد تشكيل المجتمع علي نحو يكفل المساواة والتكافؤ في الفرص؟
لقد كانت الثورة هي المطلب العميق للجماهير وللطليعة التي احتفظت باتصالها الشعبي وتفاعلها معه...
فهل الثورة هي مجرد مغامرة 23 يوليو، أم أن هذه المغامرة مجرد مقدمة تمكن من إحداث التغيير الأساسي تمهيداً لتحقيق الأمل الذي تتطلع إليه الجماهير المتحفزة للثورة؟
وفضلاً عن ذلك كله فلقد كان يمكن في ذلك الوقت أن يتعرض العمل الثوري لخطرين.
أولهما: أن تحدث استجابة للهمس بعودة الجيش إلي ثكناته، وكان ذلك ممكناً في الظاهر مستحيلاً في الواقع.
فلقد كان من العسير وسط الفراغ السياسي المخيف وقتها أن توجد جماعة قادرة علي تحقيق الثورة، من غير الاعتماد علي تأييد الجيش.
معني ذلك أن الجيش سوف يبقي من وراء الستار هو السلطة العليا في البلاد وذلك وضع بالغ الخطورة.
إنه إذا حدث في ذلك الوقت ما يخالف رأي الجيش، فمعني ذلك أن الوسيلة الوحيدة لفرض رأيه هي أن يتدخل بالقوة المسلحة، ومعناه أن يحدث لنا هنا ما كان يحدث في أمريكا اللاتينية من تكرار وقوع الانقلابات العسكرية.
وهو هنا يبرر الحكم العسكري لكنه يريد أن يعطي له طابعا مختلفا عنه في دول أخري ذات حكم عسكري.
ويضيف هيكل في نفس السياق: إنه سوف يكون من الطبيعي لأي هيئة تستهدف الحكم أن تسعي إلي تفريق صفوف الجيش، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلي احتمالات مخيفة للصدام.
هذا هو الأمر الأول الخطير الذي كان يمكن أن يتعرض له العمل الثوري وقتها..
والخطر الثاني: أن يرفض الجيش همس العودة إلي الثكنات، وأن يتولي مسئوليات الحكم كجيش.
ومعني ذلك أن الطريق مفتوح لاحتمال فاشستية عسكرية، تجد نفسها في نهاية الأمر بعيدة عن مطالب الثورة الشعبية، وتري الجماهير نفسها مرغمة علي تقبل الأوامر الصادرة إليها من أعلي.
وتلك نكسة خطيرة للنضال الشعبي.
فالوضع الطبيعي لكل جيش أن يكون سلاحاً في يد السلطة الشعبية المدنية لا أن تكون السلطة الشعبية المدنية سلاحاً في يده.
ويستمر في طرح الأسئلة بسؤال جديد هو: أين كان طريق الأمان؟
ويجيب: في ذلك الوقت، برغم ضغط الحوادث وزحامها.
برغم الضباب الفكري الذي صنعه هذا الضغط والزحام.
استطاع واحد من أفراد الطليعة الشابة المتقدمة من الجيش، أن يجد الإجابة الصحيحة عن السؤال الخطير.
ولو أني سُئلت عن أعظم خمسة أعمال مثلاً قام بها جمال عبدالناصر، لوضعت بينها من غير تردد: هذه الإجابة الصحيحة التي وجدها للسؤال الخطير!
والملاحظ أن هذه هي أول إشارة إلي جمال عبدالناصر، بما يؤكد أمرين، الأول أن هناك تنسيقاً بين هيكل وعبد الناصر فيما يكتب الأول. والثاني أن هيكل يطمئن المعنيين بالرسالة بأنه مدعوم من قبل عبدالناصر.
ويضيف هيكل: كانت وجهة نظره - أي عبدالناصر - إجابة عن هذا السؤال:
«إن الطليعة التي تحركت من الجيش، لم تتحرك بحكم وج من أن يكون حارساً للأماني الوطنية وخادماً للشعب في الحفاظ عليها».
هكذا في أعقاب يوم 23 يوليو.
بدأت الطليعة الثائرة تستعد لتذوب في حياة مدنية واسعة.
وراحت القوات المسلحة تتأهب لدورها الحقيقي في حراسة الشعب.
ويطرح هيكل سؤالاً جديدًا هو: ماذا فعلت غالبية المثقفين؟
ويجيب: قفزوا إلي السلبية مثل قواقع البحر حين تنكمش داخل أصدافها.
هكذا فعل بعضهم.
والبعض الآخر اتجه بولائه السياسي إلي الوضع الجديد، باعتباره نظام حكم قائماً، أما ولاؤه الفكري فقد راح يتأرجح مع الحيرة والشك.
ومضي هؤلاء وهؤلاء ينتظرون الأيام لعل الأيام تجيء بجديد.
وراحوا في تبرير الانتظار، يصورون لأنفسهم، أنهم قليلو الحيلة علي أي حال في مواجهة القوة القاهرة!
ويري هيكل أن هذه كانت هي الأزمة الأولي بين «قوة الدفع الثوري» وبين «المثقفين» نتيجة منطقية لأزمتهم قبل 23 يوليو وامتداداً طبيعياً لها ومقدمة منطقية كذلك للأزمة الثانية!
ويضيف: قبل أن أنتظر، لمواصلة الحديث عن الأزمة الثانية أزمة المطالبة بعودة الحياة النيابية في ربيع سنة 1954 أستدرك بالعودة إلي ملاحظة لمستها في بداية هذا الحديث:
ويحرص هيكل علي أن يؤكد أنه لا يقصد من هذا الكلام أن أعلق المسئولية في عنق أحد، فالمسئولية في صميمها من تأثير ضغط ظروف تاريخية أقوي من الأفراد وأقوي من الفئات.
إنما أردتها مناقشة حرة مفتوحة للتجربة، حتي تستطيع أن تستكمل استعدادها لمواجهة مسئولياتها.
حتي يتم التلاقي والامتزاج بين «قوة الدفع الثوري» وبين «المثقفين» وحتي تنصهر طاقات الاثنين معاً وتذوب في حركة النضال الشعبي من غير انفصال فكري أو انفصال طبقي.
حتي يتم ذوبان الثلوج، وحتي يشعر آلاف الشباب من المث هيكل في خالد السرجانيالإشارة إليهم في صفحات الكتاب، ولكن من يدقق في
ويختتم هيكل الفصل الأول من كتابه بالقول: وبعد هذا الاستدراك أستطيع أن أنتظر...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.