وبلغت إبداعات محفوظ ذروتها حين تعرض للأسئلة الوجودية والتأملات الفلسفية, وسحر الاكتشافات العلمية, فلا تملك إلا أن تتوقف عن القراءة لتتفكر إذا كان الثبات من طبيعة الأشياء, فلم تتعاقب الفصول؟ سنة2011 م سنة غريبة فعلا, ففيها احتفلنا بأشياء متباينة, احتفلنا بالأدب والسياسة والعلوم, احتفلنا في مصر بعام نجيب محفوظ رمزا للأدب الراصد للتاريخ والمجتمع, وفي المنطقة العربية احتفلنا بعام الثورة والتحولات السياسية التي زلزلت الأنظمة وأطاحت بالظالمين من الحكام, وفي العالم احتفلنا بعام الكيمياء ركيزة كل العلوم التطبيقية والتطورات التكنولوجية. ولكني أود ونحن نودع ذلك العام الذي طغت فيه هتافات الثوار علي خيالات الأدباء وابتكارات العلماء أن أتوقف قليلا لأحتفل بالنجيب المحفوظ في القلوب في مناسبة مائة عام علي مولده(1911 م), فهو أيقونة القصة المصرية والرواية العربية, حيث نسجت إبداعاته الأدب مع السياسة والعلوم في نسيج مطرز بالمتعة ومبطن بالحكمة. دخل قراء العربية عوالم محفوظ الرحبة, وعايشوا شخوص رواياته, فأعماله الأدبية هي دراسة اجتماعية, توثق أحوال المجتمع, وترصد التفاوت بين طبقاته, فنري في بداية ونهاية حكاية الشاب الناقم علي واقعه, المتطلع لحراك اجتماعي بعد أن أصبح ضابطا تلمع نجمات ذهبية علي أكتافه, سعي لمصاهرة النفوذ والمال, فيقهره الواقع ليلقي بنفسه في النيل. المثير أن سيرة نجيب محفوظ الواقعية لها نفس البداية, فلقد استلب حقه في التعيين بالجامعة والابتعاث للخارج, وعين موظفا بالأرشيف, لكنه لم يستسلم لليأس ولم يتمكن منه الإحباط, فانطلق إلي دنيا الآدب الفسيحة, يتأمل ويتمعن, ويرصد ويصور, ويرسم ويسجل, ويصدر روائعه الأدبية, لتأتيه باعتراف عالمي يقر بنبوغه وعبقريته وإبداعه, ويحصل علي جائزة نوبل في الأدب, فتعيد للفتي المظلوم بعد أن أصبح شيخا طاعنا حقه من التقدير والتوقير, لتكون نهاية مختلفة ومنصفة ومستحقة لملحمة عطاء مفعمة برحيق الحكمة والفن والمتعة, تفوق في واقعها ما كتبه من قصص الخيال. صور محفوظ الحياة الاجتماعية في الطبقات الدنيا والوسطي بأنماطها المختلفة ونماذجها المتنوعة, وبحث عن العدالة المفقودة في خان الخليلي, وزقاق المدق, وفتوة العطوف, وصور سعيد مهران حين حولته الظروف إلي لص تطارده الكلاب, فهو الجاني والضحية في آن, ولخصها في معني كلنا ظالم وكلنا مظلوم, تعاطف مع الضعف الإنساني والتمس له العذر, وجعل المهمشين والمحبطين والمقهورين أبطال رواياته, وبين كيف يمكن أن يتسرب إليهم همس الجنون. تفهم القراء رموز حكاياته, وتأملوا معاني عباراته, وبهروا بذكاء إشاراته, فلقد مزجت كتاباته الأدب بالسياسة في حرفية بديعة, فعكست مراياه سقوط الملكية, وحكم الضباط الأحرار في عبارة بليغة ذهب الملك وجاء عدد غير محدود من الملوك, وحين تعجب الراوي في الباقي من الزمن ساعة لهزيمة عبد الناصر وانتصار السادات تساءل كيف انهزم الأصل وانتصر الظل؟, ورصد أزمة البحث عن الهوية لدي المغيبين المثرثرين فوق النيل الحق اننا لا مصريون, ولا عرب, ولا بشر, نحن لا ننتمي لشيء إلا هذه العوامة, وتتعجب في الوقت نفسه لحوارات أنيس الداخلية وهو يتحدث من فوق سطح العوامة الي الحوت السابح في النهر. توالت إشارات نجيب محفوظ السياسية والتاريخية لنشهد صراع الفراعين والكهنة في كفاح طيبة ورادوبيس وعبث الأقدار, وثورة1919 م ومحركاتها السياسية في الثلاثية, وانتهازية محجوب عبد الدايم وحياته المزدوجة في القاهرةالجديدة, وسقوط عيسي الدباغ مع سقوط النظام, وهروبه مع السمان والخريف ليقف أمام تمثال سعد زغلول في الإسكندرية, لاستنشاق هواء جديد,ومحاولة زهرة للعيش الحلال بين الطامعين فيها بالحرام في ميرامار, وتجاوزات خالد صفوان وامتهان الكرامة وقمع الشباب في الكرنك, وعبثية الشيطان الذي يعظ, وصدام النكسة المؤسف المتبوع بالرقص علي جثث الضحايا في تحت المظلة. هي كلها أعمال ترصد التاريخ السياسي الوطني من خلال شخوص الأدب. وبلغت إبداعات محفوظ ذروتها حين تعرض للأسئلة الوجودية والتأملات الفلسفية, وسحر الاكتشافات العلمية, فلا تملك إلا أن تتوقف عن القراءة لتتفكر إذا كان الثبات من طبيعة الأشياء, فلم تتعاقب الفصول؟ ويعصف السؤال بعمر الحمزاوي وما جدوي الحياة إذا كانت نهايتها هي العدم؟ وحين يضيع منه الإيمان, يصبح علي ثرائه وكأنه الشحاذ حيث يفضي به الخوف من الموت الي الجنون, فيتحدث الي البقرة عن الكيمياء, وتسأله كيف يصنع اللبن؟! صور صراع الخير والشر, والعدل والتسلط, والرحمة والقسوة تتجسد في ملحمة الحرافيش حيث يتسلط الفتوات علي البسطاء من الناس, وترصد أولاد حارتنا محاولات الإنصاف والعدل في تاريخ البشرية, ولاتملك إلا أن نسأل هل يسئ العلم ولو بدون قصد إلي الأديان؟ المثير في أدب نجيب محفوظ أنك تفرأه بأشكال متعددة, فقصصه حكاية مسلية بشكلها السردي, وقطعة أدبية في حبكتها الدرامية, وهي رحيق الحكمة المقطرة في عمقها الفلسفي. في حياة نجيب محفوظ حادثة تجسد صراع الخير والشر, بين النور والظلام, بين المعرفة والجهل, فلقد طعن صاحب هذا التراث الأدبي الرفيع في عنقه في محاولة غادرة فاشلة لاغتياله!! لتتعجب كيف يهدر الجهلة قيمة الإبداع والفكر, ويضيع الأغبياء أجمل مافي هذه الأمة ؟! رأي محفوظ في أحلام فترة النقاهة جنازته التي يتقدمها حملة المباخر والفوانيس, وتحقق ذلك فلقد كانت جنازته(2006 م) مظاهرة عالمية حضرها الملوك والرؤساء, ورموز الفكر والثقافة من أرجاء العالم. تري لو كان نجيب محفوظ موجودا اليوم,كيف كان يرصد أحداث العام, ويصف رياح السياسة وتطورات العلوم؟ لعله كان سيخلص إلي أنها حكاية بلا بداية ولا نهاية. جامعة الإسكندرية