الليل.. والصمت.. وضوء القمر.. ينام علي صفحة الماء الساكن.. وشجرة عجوز تلقي بأغصانها في ماء النيل.. وبين لحظة وأخري.. تظهر فقاعة ماء يأتي صوتها من الأعماق.. وشعاع القمر ينعكس بضوء خافت.. يظهر شبح يقف بعيدا.. لا يتحرك.. لم أره بوضوح.. ولكن نظراته أحسست بها.. شيء ما ينظر إليك في الظلام تحسه ولا تراه.. ورفعت رأسي فوجدتها وعرفتها.. صديقة عمري.. صديقة وحدتي وآلامي.. هذه المرة حزينة.. حزن يعبر عنه كل كيانها.. والتقت العيون.. الدموع تحجرت في عيني والنظرة أصبحت غريبة.. والرؤية مليئة بضباب كثيف لا تلمحه ولكنك تشعر به.. ويلف المكان تسألني بصوت عميق.. وتحثني علي البكاء.. ابك يا صديقي.. وأرح آلامك الدفينة.. قلت لها.. أنا أبكي بلا دموع.. أحزاني فوق طاقة دموعي!! قالت الفراشة.. الموت حق.. قلت.. أعرف.. وأؤمن..!: قالت.. هو الفراق!!.. قلت.. فراق الأصدقاء.. فراق الفنان.. فراق الزمالة.. فراق الأضواء.. فراق الحياة الغريبة التي يعيشها الفنان.. في رحلة الشقاء.. ذلك الفراق التراجيدي الذي تنتهي به حياة أي فنان.. رحلة عذاب لا يراها.. ولا يعيشها غير الفنان.. الدخول في شخصية والخروج منها.. عذاب.. القلق الفني الذي يعيشه أي فنان بعد كل عمل.. الخوف من الفشل والنجاح.. الرعب الكامن في الأعماق.. الجهد الخارق للإبداع.. العمر المسروق مع دوران الكاميرات.. العلة المسروقة مع دوران الكاميرات.. العلة المجهولة التي يقاومها ذلك الفن اللعين ويخفيها عن العيون التي تشاهده.. وحتي عن صاحبها.. المقاومة القاتلة التي يعرضها الفنان علي نفسه.. ليقف أمام الجمهور في المسرح.. أو يسجل إبداعه علي شريط سينمائي.. وفي النهاية.. فجأة يرحل.. ولا اعتراض علي الرحيل.. فهو حق إلهي.. يؤمن به الجميع.. قالت الفراشة بصوت تخنقه الدموع.. الكل إلي رحيل.. وتبقي الأعمال ليكملها الآخرون.. هذه سنة الحياة.. وحكمة الإله..!! ومر أمامي.. شريط الرحيل.. فنانون أعمالهم تملأ أشرطة السينما والتليفزيون.. أعمالهم تذكرنا دائما بأيام وجودهم.. وآخرهم هذا الفنان الذي رحل منذ أيام!! لم يترك فنه.. بل ظل يعمل حتي آخر نفس.. في عرضه الأخير مسرحية للأطفال حديقة للأذكياء وكانت لفتة رائعة من أبطال المسرحية الأطفال والكبار والمسئولين عنها.. قاموا بتكريمه في حفلة جميلة علي خشبة المسرح.. وكان في منتهي السعادة بهذا التكريم.. ورحل بعدها بأيام قليلة.. رحل وهو يخفي كل آلامه.. ويؤكد أن الفنانين المصريين لا يتركون فنهم إلا بعد الرحيل.. ويبقي مشواره في قلوب وعيون الجمهور الذي أحبه وعاش معه مشواره الفني.. ونظرت إلي حيث تقف الفراشة علي سطح مياه النيل ورأيت دموعها لأول مرة دموعها الحزينة علي فراق النجم الراحل.. لحظة واختفت.. هي الأخري ورحلت.. كما رحل نجمنا المحبوب عمر الحريري..!!! دموع عيون مشاهد..!