يوم السبت المقبل يوافق الثالث والعشرين من ديسمبر وهو يوم له ذكريات عزيزة علي القلب لا يمحوها مر الأيام وكر السنين علي الرغم من أن هذه الذكريات مضي عليها واحد وستون عاما وكم كانت سعادتي مضاعفة عندما كلفت من قبل كبير المذيعين حسني الحديدي يرحمه الله يوم الثاني والعشرين من ديسمبر سنة1956 بأن أتوجه في صباح الغد إلي بورسعيد لكي أبث من هناك عبر أثير الإذاعة صورا عن حياة المدينة وأحوال أهلها مسجلا شجاعات أبطالها وصمود سكانها أما مستعمر غاشم إثر العدوان الثلاثي الذي شنته ثلاث دول تآمرت بليل بغية العودة إلي احتلال منطقة القتال واستعادة قناة السويس لنكون تحت إدارتهم وإشرافهم بعد أن أممها الزعيم البطل عبدالناصر كانت التعليمات التي تلقيتها من كبير المذيعين ومعي طاقم الهندسة الاذاعية أن أصل إلي مشارف المدينة الباسلة قبل آخر ضوء من يوم الثالث والعشرين من ديسمبر داخلا بعد ذلك مع آلاف الداخلين إلي المدينة بعد أن يكون آخر جندي من جنود الغزو قد رحل في السفينة التي ستنقله بعيدا عن أرض ومياه الوطن, وعندما وصلت إلي منطقة كوبري الرسوة بعد ظهر ذاك اليوم كان المنظر مهيبا لافتا فعلي طول الساحل الذي يقع كوبري الرسوة في منتصفه كان المئات من المواطنين يقفون أمام سياراتهم مترقبين ساعة عبور الكوبري عند آخر ضوء لحظة دخول الشمس إلي خدرها ففي تلك اللحظة تكون سفن الأعداء قد غادرت مياه الوطن إلي جوف المتوسط, كانت الفرحة مرتسمة علي الوجوه والسعادة واضحة ترفرف علي الجموع فمصر صمدت أمام العدوان وأبناء بورسعيد كتبوا صفحات من الفخار ولم يهابوا قوي العدوان وشكلوا كتائب فدائيين تصطاد جنود العدو لينحدر العدوان وتحيط به الخيبة من كل جانب تلفت وجوه الواقفين وعلي بعد امتار قليلة لمحت الفنانة تحية كاريوكا يرحمها الله تجلس في عربتها إلي جوار زوجها الدكتور حسن حسني كنت أعرفها يحكم ترددها علي الإذاعة مشاركة في التمثيليات الإذاعية وكذلك من خلال ما أجريته معها من لقاءات لبرنامجي مجلة الهواء خاصة وهي تشارك بجهد كبير تجاه مصابي العدوان في المستشفيات وها هي الآن علي وشك الدخول إلي بورسعيد فرحة بالنصر مهنئة لأبناء المدينة الباسلة علي شجاعتهم وصمودهم نزلت من سيارتي وسلمت عليها هي وزوجها علي وعد بأن ألتقيها دخل المدينة مسجلا لقاءاتها مع أبناء وأبطال بورسعيد كانت كاريوكا هي الفنانة الوحيدة التي وجدت في تلك اللحظات لتكون في مقدمة الركب الكبير الداخل إلي المدينة لتتعرف علي أحوالها وتشارك أهلها فرحتهم باندحار العدوان ولم يكن هذا الأمر بالجديد في مسيرة هذه الفنانة حيث كان لها أدوار عديدة أظهرت من خلالها مواقفها الوطنية, عشت في بورسعيد عشرة أيام كنت خلالها ضيفا علي كتيبة القوات المسلحة التي دخلت المدينة مع الداخلين في مساء ذاك اليوم كان قائد الكتيبة هو المقدم أحمد اسماعيل علي الذي أصبح فيما بعد قائد معركة العبور سنة73 لم أجد مكانا لي في أي فندق بالمدينة فكان اللجوء إلي القوات المسلحة التي استضافتني ومعي طاقم الهندسة الاذاعية ولكن هذه حكاية أخري وعلي مدي أيامي في بورسعيد كنت يوميا أقدم صورة اذاعية للحياة في المدينة, فمن زيارات للمدارس إلي زيارات للمستشفيات إلي أحوال التموين والكهرباء والمياه إضافة إلي لقاءات مع الفرق الفتية التي كانت تجوب الشوارع تشدو بأغاني السمسمية التي تظهر فدائية أبناء المدينة وكذلك لقاءات مع مجموعة من المناضلين الذين أقضوا مضجع العدو وأسروا جنوده وعلي رأسهم الكابتن موز هاوس الذي يمت بصلة القرابة لملكة انجلترا وفي إحدي الليالي تناهي إلي سمعي وأنا أجلس مع مجموعة من شباب المدينة أنهم عازمون علي تحطيم تمثال ديلسبس صباح اليوم التالي وبالفعل ذهبت ومعي الميكروفون بجوار قاعده التمثال المطل علي مدخل القناة ووصفت كيف التفت الحبال حول عنق التمثال وقام العشرات يشد الحبال فسقط التمثال علي الأرض وانهال عليه الجميع ضربا بالنعال, كنت الإعلامي الوحيد الذي سجل وأذاع هذا المشهد ويالها من ذكريات عزيزة علي النفس وكما قلت ذكريات لاتمحوها الأيام.