اليوم يطالعنا الثاني من شهر نوفمبر, وهو يوم تحتشد فيه ذكريات عزيزة وغالية. ففي مثل هذا اليوم منذ ستين عاما وعلي مدي أسابيع سبقته كانت مصر تتيه فخرا وتقف شامخة, وكل أبنائها علي قلب رجل واحد بعد أن كتبت صفحة ناصعة من صفحات نضالها ضد المستعمر كانت مصر في تلك الأيام من صيف1956, تعطي للدول التي رزحت وترزح تحت سيف الاستعمار دروسا في الصمود أمام المحن, كانت تقارع الاستعمار ووجهت له بزعامة البطل جمال عبد الناصر ضربة موجعة عندما أممت قناة السويس, ضربة جعلت إيدن رئيس وزراء بريطانيا ومولييه رئيس وزراء فرنسا وبن جوريون رئيس وزراء إسرائيل يتخبطون والغيظ يقتلهم, فكانت المؤامرة التي نسجوا خيوطها لكي يعيدوا احتلال مصر ويستولوا علي قناة السويس, واحتشد شعب مصر تحت راية الجهاد وكل فرد من أبنائه عازم علي التضحية بالروح والدم من أجل كرامة مصر. إضافة إلي ذلك كانت فرنسا في أشد حالات الغيظ خاصة أن الإذاعة المصرية كانت تبث من البرامج ما يؤجج مشاعر أبناء الجزائر ويحثهم علي بذل الغالي والنفيس من أجل أن يرحل الاستعمار الفرنسي عن وطنهم الذي احتلته فرنسا وجثمت علي صدره ما يزيد علي قرن وربع قرن من الزمان, واتفقت عصبة الإفك علي مؤامرة دبرتها, وفي التاسع والعشرين من أكتوبر1956, بدأت جيوش الشر بطائراتها وبوارجها تقصف أرض مصر واستهدف العدوان مدينة بورسعيد الباسلة, ولكن قناة مصر لم تلن وظلت الإذاعة المصرية تشحن النفوس وتلهب القلوب فلم يجد العدو بدا من أن يقصف بقنابله صواري الإرسال الإذاعية في منطقة أبو زعبل ليسكت صوت مصر. كنا نحن المذيعين ومقدمي البرامج قد اتخذنا من مكاتبنا مبني4 شارع الشريفين مقرا وسكنا منذ نشبت الأزمة وبداية العدوان الثلاثي نقوم بتقديم البرامج واللقاءات التي تحث علي النضال, كنا نتوجه بالميكروفون إلي المواطنين في المدن والقري والنجوع لنسجل مشاعرهم وغضبهم ورغبتهم في النضال ومصارعة العدوان, وقدمت الإذاعة أغنيات مازالت تعيش في الوجدان مثل نشيد الله أكبر مثل أغنية دع سمائي فسمائي محرقة وغير ذلك من الوطنيات شعرا وزجلا وأحاديث, وفي يوم الجمعة الثاني من نوفمبر1956, بدأت الإذاعة إرسالها كالمعتاد في السادسة صباحا منفذة لخريطتها المشحونة بكل ما يثير الحمية في النفوس ويضاعف من مشاعر الكراهية للمستعمر المعتدي, وفي الساعة العاشرة والنصف ودقيقتين صمت الميكروفون وتوقف الإرسال بعد غارات مكثفة علي صواري الإرسال في أبو زعبل, وكانت الإذاعة قد احتاطت للأمر, ووضعت خطة بحيث لا يصمت صوتها إذ علي الفور كلفت أنا والزميل أحمد سعيد بالتوجه إلي مبني رئاسة مجلس الوزراء, وكان المهندسون قد سبقوا بالتوجه إلي هناك حيث قاموا بتركيب محطة إرسال كانت في صناديقها ومعدة لكي ترسل إلي المجاهدين من أبناء الجزائر, وفي دقائق كنا أنا والزميل أحمد سعيد أمام الميكروفون الذي وضع في كشك خشبي علي سطح مبني مجلس الوزراء تردد هنا القاهرة, وأن صوت مصر لن يصمت واتصلت من تليفونات مجلس الوزراء بالأصدقاء والمعارف لكي يديروا مؤشرات الراديوا ليلتقطوا أصواتنا, ورجوتهم أن يتصلوا بأصدقائهم لكي يقوموا بالبحث عن أصواتنا ونحن نردد هنا القاهرة, الإذاعة المصرية معكم, الإذاعة المصرية تحثكم علي البذل والتضحية والعطاء لمصر وأزعم أنه في خلال ربع ساعة كان الجميع يستمعون إلي إذاعة مصر يتردد صوتها من سطوح مبني مجلس الوزراء, وبعد حوالي ساعة كان المهندسون من أبناء الإذاعة قد أصلحوا ما أفسدته قنابل المستعمر ليعود البث من استديوهات الإذاعة في شارع الشريفين, ويقف الزعيم الخالد جمال عبد الناصر فوق منبر الجامع الأزهر ليقول خطبته الشهيرة التي نوه فيها بأن مصر ستظل صامدة ضد المستعمر وأنها ستبذل الدم الغالي في سبيل كرامتها وعزتها, وكتب الله النصر لمصر واتدمر العدوان الثلاثي بعد ملحمة من العطاء كتب سطورها كل شعب مصر.