بالأمس الموافق13 من مايو بلغت الإذاعة المصرية من عمرها المديد إن شاء الله عامها الثاني والثمانين, وعلي مدي هذه السنوات الطوال كانت الإذاعة المصرية أيقونة الإعلام لا في مصر فحسب ولكن علي مستوي عالمنا العربي من المحيط إلي الخليج, كانت ولا تزال الجامعة الأثيرية التي ثقفت الأمي وتعهدت الطفل بالتربية السليمة, وعلمت المرأة العناية بأسرتها, ولقنتها أصول تربية أولادها, وأخذت بأيدي المبتدئين في مجال الفن والأدب والموسيقي وأتت بشوامخ العلم والثقافة والأدب ليكونوا بأحاديثهم شموعا مضيئة في سماء الإبداع يمهدون الطريق لنهضة كانت هي العامل الأول في بناء وطن راسخ الأساس استطاع أن يستعيد ماضيه, وليكتب حاضرا مليئا بالعزة والكرامة, وهزم بعزائمه جحافل الاستعمار وجعله يضع عصاه علي كاهله ويرحل لا من مصر فحسب, ولكن من كل الأوطان والبلدان التي رزحت تحت نيره, كانت مصر عندما فكرت في إنشاء الإذاعة رائدة في هذا المجال فلم يكن هناك في عالمنا العربي والإفريقي صوت يصيح عبر الأثير, وتخطت مصر الحواجز وحققت لنفسها الريادة في عالم الإعلام المسموع الذي كان في تلك الأيام قبل ثمانين عاما بمثابة صيحة العصر وأداة قوية في نقل الخبر وتقديم الممتع من الحديث والنغم والدراما والبرامج الحوارية والصور الإذاعية, وفنون الموسيقي وأبواب الأدب المختلفة من قص وشعر وتاريخ, وفي تمام الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الحادي والثلاثين من مايو1934, وفي باحة مصلحة التليفونات بشارع الملكة( رمسيس حاليا) وأمام صفوة من رجالات مصر وزراء وأدباء وصحافيون وفنانون, وقف كبير المذيعين أحمد سالم الذي أصبح فيما بعد نجما سينمائيا معروفا يردد عبر الأثير ألو ألو الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية تبدأ إرسالها عبر الأثير, ويلقي النطاس الكبير علي باشا ابراهيم رئيس لجنة حكماء الإذاعة كلمته منوها بالحدث الضخم الذي تشهده المحروسة, وتتوالي كلمات بعض من الموجودين في السرادق نثرا وشعرا لينتقل الميكروفون بعد ذلك إلي استديوهات الإذاعة بشارع علوي الموازي لشارع الشريفين, حيث المذيعان كمال سرور ومحمد فتحي يقدمان فقرات البرنامج, فتغني أم كلثوم وتغني فتحية أحمد ويغني صالح عبد الحي ويغني مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهاب, كانت إدارة الإذاعة لشركة ماركوني التي بنت الاستديوهات في شارع علوي. وأقامت ساري الإرسال في أبو زعبل, أغلب المسئولين في الإذاعة من الانجليز واكثرية الفنيين من المالطيين واليونانيين والقلة القليلة من أبناء الوطن هم ثلاثة مذيعين فقط ومسئول عن البرنامج العربي هو سعيد لطفي شقيق لطفي السيد وعدد قليل من العاملين في شئون الموظفين. وشيئا فشيئا يتعلم المصريون فنون الإذاعة وتتكاثر أعدادهم ويقومون بتقديم برامج لم تكن معهودة, برامج تمتزج فيها الدراما بالأغاني لتشكل صورا إذاعية غنائية استمتع بها السامعون ومازالت تعيش في الوجدان, كان الارسال علي مدي ساعات قليلة لا تتجاوز العشر ساعات يوميا, ولكنها كانت زاخرة بالفكر والفن واللحن الجميل, وفي عام1947, رأي المسئولون أن تصبح الإذاعة مصرية خالصة فألغوا عقد ماركوني. وصارت أمور الإذاعة من أبنائها المصريين, وقدمت أسماء لامعة برامج جديدة, وظهرت علي السطح نجوم إذاعية تفننت في تقديم الحفلات الخارجية, وقربتها إلي ذهن المستمع وكأنه يراها بعينيه, وسطعت أم كلثوم بحفلاتها الشهرية ليعيش معها العالم العربي. ليلة ليلاء في مساء الخميس الأول من كل شهر, وتفنن عبد الوهاب في أغانيه وإنتاجه الفني. وكفلت الإذاعة كل من لديه موهبة غنائية أو تلحين أو أدبية واشتد زخدم العطاء الفني والأدبي من خلال ميكروفون القاهرة, هكذا كانت ولا تزال الإذاعة المصرية عطاء مستمرا لا يتوقف وجهدا وعرقا لا ينقطع هدفه إسعاد المستمع والترفيه عنه وتثقيفه ليكون مواطنا صالحا يعطي أضعاف ما يأخذ. تحية للإذاعة المصرية في عيدها الثاني والثمانين مع أمل أن تظل حصنا حصينا للغة وتراكيبها, والفن وأصوله منيرا للدراما الجاذبة والغناء العذب واللحن الجميل والحديث الممتع.