يتراءي المشهد أمام عيني وكأنه حدث بالأمس القريب رغم مرور خمسة وخمسين عاما علي وقوعه, الميدان الكبير يموج بآلاف المواطنين الذين جاءوا من كل صوب وحدب ليملأوا عينوهم بطلعة الزعيم القائد. ويستمعون إلي خطابه الذي يلقيه في المناسبة التي مكنت للثورة وارست بنايانها وثبتت قواعدها فهواليوم الذي غادر فيه الملك فاروق ارض مصر دون رجعة وبالتالي تم نجاح ثورة الثالث والعشرين من يوليو سنة1952 تماما مثل نفس اللحظة التي غادر فيها مبارك عاصمة مصر بعد ان تنحي عن موقعه. مكنت لثورة الخامس والعشرين من يناير الفوز والنجاح, ومنذ السادسة مساء من يوم السادس والعشرين من يوليو سنة1956 تواجدت في موقع نقطة الإذاعة مع الزميل الراحل جلال معوض لنقوم معا بنقل احداث لقاء الزعيم جمال عبدالناصر مع المواطنين وبث خطابه, الميدان الفسيح ميدان المنشية في قلب العاصمة الثانية تتلألأ منه الأضواء والهتافات تدوي في الارجاء هاتفة بحياة الثورة وزعيمها وتقاطر بعد ذلك مجيء اعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء يحتلون اماكنهم في المنصة العالية امام المبني ذي الأعمدة السامقة واظنه مبني البورصة وجاء الزعيم والتهبت الأيدي بالتصفيق وارتج المكان بهتاف الجناجر تحية للقائد وقبل مجيء الزعيم بعشر دقائق تقريبا تبادلت مع الزميل الراحل جلال معوض تقديم الحفل للمتلقين وكيف جاءت الجماهير بالآلاف وكيف لم يكن هناك موطئ لقدم في الميدان الفسيح المتسع وبعد افتتاح الحفل بآي الذكر الحكيم وقف جمال عبدالناصر بقامته الشامخة ليلقي خطابه الذي بدأه بتحية المواطنين ساردا خطوات الثورة ممجدا مناسبة رحيل الملك السابق علامة علي انتهاء عهد شاع فيه الفساد وازداد فيه الاغنياء غني والفقراء فقرا أخذ يسرد تاريخ الاستعمار الذي جثم علي صدر الوطن علي مدي آكثر من سبعين عاما واخذ يتحدث عن اذناب المستعمر الذين مكنوا له من البقاء علي أرض مصر تلك الحقبة الطويلة من السنين ثم تحول إلي الحديث عن الأباء والاجداد الذين حفروا قناة السويس وكيف ان الآلاف منهم لقوا حتفهم بسبب المرض والحر وسياط ديليسبس التي كانت تنهال علي ظهورهم لكي يستمروا في حفر القناة تحت لهب الشمس وحر الصحراء القاحلة منوها في سياق حديثه عن احجام امريكا والدول الغربية عن عدم تقديمهم العون لمشروع مصر الكبير المتمثل في بناء السد العالي ثم يعاود بعد ذلك حديثه عن ديليسبس وما فعله من دسائس ومكائد من اجل الحصول علي فرمان حفر القناة نظرت إلي جلال معوض وكأني استفسر منه عن السبب في ترديد الزعيم لكلمة ديليسبس وعن حديثه عن هذا الرجل فالحديث عنه طال اكثر من اللازم, وهمس جلال في اذني قائلا إنه يحس نبض حالة الاستغراب التي سيطرت علي حواسي وفجأة جاء جل اللغز عندما اعلن الزعيم في كلمات حاسمة اسعدت قلوبنا وهدهدت نفوسنا قرار اعلان تأميم قناة السويس وان القناة التي حفرها الأجداد باظافرهم وسالت علي رمالها دماؤهم قد عادت إلي ابنائهم واحفادهم, القناة التي كانت دولة داخل مصر اصبحت مؤسسة من مؤسسات الوطن ولا استطيع ان اصف ما جري في الميدان الكبير فقد كان حالة من حالي انا وحال الزميل جلال معوض عندما قفزنا معا واحتضنا بعضنا البعض وكانت القفزة قوية حتي ان المائدة التي وضعت عليها اجهزة الإذاعة انقلبت وتدحرج الميكروفون واخذ المهندسون من ابناء الإذاعة يلملمونها مخافة ان ينقطع الارسال بسبب وقوعها علي الأرض لحظات لا تنسي حيث شعور بالروعة واحساس بالفخر تدفقت من خلاله مشاعر الوطنية تغم النفوس ونبضات من الزهو ملأ القلوب.