السبت القادم يوافق ذكري مرور أربعة وستين عاما علي قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو الثورة الخالدة في تاريخ مصر والتي أشعلت شموع الحرية والتحرر وفكت الأغلال عن الشعوب التي رزحت تحت نير الاستعمار وخلصت المحروسة من ربقة الانجليز وفساد الملك ويوم الثالث والعشرين من يوليو سنة1952 هو اليوم الذي قام فيه بعض من أبناء هذا الوطن من رجالات القوات المسلحة بوضع رقابهم علي أكفهم فداء للغالية مصر وما بين عشيه وضحاها تبدلت الأحوال وأفاء الله سبحانه وتعالي علي مصر أن تعيش عزيزة كريمة بعد أن نفضت عنها الذل والاستعمار وستظل تلك الساعات منذ بزوغ شمس ذاك اليوم عالقة بالذهن ولن تمحوها الأيام والسنون وكيف أنسي حدثا كان من حظي وطالع سعدي أن اكون الإعلامي الوحيد من بين جموع العاملين في الاعلام المسموع والمقروء الذي شهد فجر مجرياته عندما جاء الثورار إلي مبني الاذاعة شارع الشريفين ليعلنوا عبر الاثير أول بيان للثورة المجيدة ذلك أنه حسب جدول عمل المذيعين الذي وضعه كبير المذيعين الراحل حسني الحديدي منذ أول يوليو فإن نوبة العمل الصباحية الاربعاء من كل اسبوع كانت من نصيبي وكان يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة1952 يوافق يوم أربعاء إنها الصدفة التي تفضل ألف ميعاد وعندما استيقظت في الخامسة من ذاك الصباح ووقفت في شارع انتظر عربة الاذاعة التي ستقلني من مسكني إلي الاذاعة ولكن قاربت الساعة علي السادسة دون أن أري أثرا للعربة ورأيت أن استقل التاكسي لأصل قبل الموعد المحدد لبدء الارسال في السادسة والنصف وعندما وصلت إلي ملتقي شارع الشريفين بشارع صبري أبو علم عرفت السبب في عدم وصول سيارة الاذاعة وكان شارع الشريفين ممنوعا السير فيه فقد وجدت طوقا من الجنود وبعضا من العربات المصفحة تسد الشارع فتقدمت إلي قائد الطابور وعرفته بنفسي فأفسح لي وأمسكني من يدي ونحن نتوجه معا إلي مبني الاستديوهات في شارع علوي الذي لا يبتعد إلا خطوات عن مبني الشريفين وارتقينا سلم الاستديوهات والصمت يخيم علي وعلي من يمسك بيدي وهو ضابط برتبة الملازم أول إيه الحكاية سألته قال لي ستعرف بعد لحظات وفي استراحة المذيعين كانت المفاجأة فقد شاهدت شابا أسمر اللون تعلو كتفيه التاج الملكي والنجمة إنه البكباشي أنور السادات.. لقد عرفته علي الفور فهو قد كان بالنسبة لنا نحن شباب الجامعات في حقبة الأربعينيات يمثل لنا النموذج في الوطنية عندما كنا نجوب الشوارع مطالبين بطرد الاستعمار والملكية فقد كانت أخباره ملء صفحات الجرائد فهو المتهم في قضية الجاسوسية الخاصة بالراقصة حكمت فهمي وهو المتهم في قضية أمين عثمان وهو الهارب من معسكرات الاعتقال إذن فإن ما جاء بهذا الرجل إلي هذا المكان إلا من أجل تحقيق ما كان يجيش في صدورنا من رغبة عارمة في رحيل المستعمر والملك الفاسد, الرجل في ابتسامة مشجعة شد علي يدي قائلا إنه يأسف لأن تغييرا سيطرأ علي برنامج الاذاعة فهو بصدد إلقاء بيان للمواطنين عبر أثير الإذاعة وكان ما كان وحدث ما حدث من انقطاع للإرسال وعودة له ليتم إذاعة البيان بصوت أنور السادات في أول خبر بنشرة أخبار الساعة السابعة والنصف من يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة1952 وبعد انتهاء فترة البرامج من الثامنة صباحا شاهدت ما أثلج صدري وأنا في طريقي إلي مكتبي بمبني الشريفين كانت جماهير وسط المدينة تهنئ بعضها بعضا أصحاب المقاهي يقدمون الشاي لجنود القوات المسلحة الرابضين علي عرباتهم المصفحة الناس في الشوارع تهتف للجيش وابنائه والعديد من العاملين في الصحافة يجلسون في مكتبي لأقص عليهم أحداث إذاعة أول بيان للثورة الخالدة وهكذا كان ذاك الصباح انطلاقة لنهضة مصر وعلو شأنها وبداية لتحررها من الاستعمار وكذلك تحرر كل البلاد التي رزحت تحت نيره.