البديهيات مزعومة موزعة علي مسلمات, علاقة ترتفع فيها الجدليات إلي حد التشاحن فيما هو حقيقي أو غير دقيق أو حتي النفي بأن يكون صحيحا, نحن أبناء الأرض نرفض سيكولوجيا تغير بعض الاعتقادات التي ترسخت في قاموس الموروث الشعبي لدينا فقد أصبحت من الكلاسيكيات, شاعت في عصرنا, وتم تثبيتها من العدم وعدم اليقين وبدراما باهتة قد لا تناسب التفكير الجيد والتمحيص المستنير, ولا يرد علي بال أحد أن هناك بضع قضايا ردمت وطمرت علي عجل وغابت في أضابير التاريخ, ويلزمها بعض الشك وفتح ملفاتها مرة أخري لأقوال جديدة وشواهد تثير القلق حتي لو أن كل ما صنعه أبطالها وأحداثها ليسوا من الأحياء, ولا يؤثرون في مجار أحداث الحياة اليوم, وحتي أنهم لا يشكلون آنية الوجود لذات الإنسان والتزييف وكشفه لن يؤثر كثيرا في الحالة الراهنة, ولا يفتح التأويل إلا شك يفسر لمصلحة المتهم أولا, يمكن أن هذا الرأي ومفرداته فاتحة للحديث عن رواية السماسرة للكاتب الكبير/ طنطاوي عبد الحميد, السماسرة ليست عمله الأول الذي يقترب فيه من اليهود والأسرار التي أحاطوا أنفسهم بها خلال إقامتهم في مصر, وبين أفراد وجماعات شعبها فلهم أساطير روجوها, والتي حرص المؤلف علي إيراد بعضها والرد عليها من خلال سرد تفاصيل الرواية, نحن نعلم بأن السرد جزء مهم من العمل ونصه, والذي ينقسم بدوره إلي سرد عشوائي ثم سرد إبداعي خاضع لقوانين وأبجديات اللغة ومفرداتها, والرواية بالمفهوم التخطيطي يمكن أن تكون نموذجا تغلب عليه حرفيا الكاتب ومعارفه والتمرس, مثل سيناريوهات الأفلام أو المسلسلات أكثر من طبيعة استخدام لغة أدبية مبتكرة, ونهج بلاغي موح( بريق الذهب يخطف العيون, ففتياتها يأسرن قلوب الإخوة القادمين الواهبين لعقود العمل في بلاد النفط ص68) زعمت تلك العبارات المباشرة وغيرها أن المؤلف يقصد الاستخدام الرشيد للمألوف من العبارات, عينه علي القارئ العادي( ص270 لعن سنسفيل اللي خلفوهم) أو ربما تحويل العمل للفن السابع الرائع.. وهل ساعة عشق تتساوي بساعة ألم؟! دائما كانت الأسئلة الفلسفية مسامير ربط في الكتابة بامتياز حيث تخضع ذهنية القارئ لأن يحيا ويعيش التجربة التي في الصفحات, وتكاد تكون متورطا في نفس مسيرة بطل القصة( مازالت ذاكرته عامرة بحكايات المجاذيب ص23) وفي الغالب تعجز كل المحاولات للوصول إلي إجابات, ولعل ذلك مرده إلي أن الأسئلة مقصودة لذاتها وينظر المؤلف إلي تراكمها طوال العمل الذي صدر في429 صفحة من القطع المتوسط عن بورصة الكتب دون أن يجيب إلا علي النذر اليسير, وفي تضاعيف الرواية( ألقي قس خطابا ناريا قائلا إن اليهود قتلوا طفلا مسيحيا واستخدموا دمه في إقامة طقوس دينية..) وعلي الرغم من أن الكاتب غير مقيد بقضية سابقة في سياق الحكي إلا أنه يستدرج القارئ نحو بديهية وقرت في عقله الباطن, وأصبحت من المسلمات ويقوم هو بتنميتها في أشكال من المعاني نحو أفهام مجردة, وقد لا نكتشف معناها إلا في نهاية رواية السماسرة, وبعد عبور مخاضات هيأها النص( صدر قرار بإلزام اليهود بعدم الظهور في الأماكن العامة بدون النجمة السداسية, وفي هذا الباب أيضا الخاص بالسحر والشعوذة, هناك أفعال ومآرب يسعون إليها, فتهريب الآثار المصرية, وما يدفعونه فيها من الملايين من الدولارات ليس عشقا فيها, إنما آملون بتجميع كنوز سيدنا سليمان, وخاصة مجموعة الجعارين الذهبية المقدسة, وما تبقي من الألوان ص152) الواقع إن الكاتب طنطاوي عبد الحميد حيرني بكم هائل من المعلومات وثقافته المختزنة, والتي لا تجدها في الكتب حتي أوقعني في ورطة التحقق ما جاء في روايته متغاضيا عن النظر في إشكاليات مفاهيم الأدب الصرفة فقد تم تعليق وإعاقة مسار الحكي في الرواية والاسترسال عن عمد, وهي حالة تتوفر للطبيب حين يشير عليك بعدد من الجرعات المتساوية كل ثماني ساعات مثلا علي أن تعود إليه ليكشف عليك مجددا فإما يغير الدواء أو يستمر لاحظ ص.157 فقد كانت ستئول مملكة مصر لفرع يهودي, زرعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية الفنانة كاميليا ذات الأصول اليهودية أمام عيني الملك فاروق, وكما تقول الروايات كان نهما بالنساء.... وشاء ربك أن ينتهي هذا المخطط بمصرع الفنانة... يشير طنطاوي هنا إلي حقيقة مهمة كانت شائعة في الأربعينيات والخمسينيات فالموساد الإسرائيلي أسبق في الظهور من دولة إسرائيل ذاتها, ومؤامراته عاصرت الحربين العظمين الأولي والثانية( فالماسونية تعلم أولادها... ص244) في النهاية هذه محاولة أولية لفك بنية نص رواية السماسرة والتداخل الدرامي المعقد الذي كتبه وإضافة الجو الخيالي الإبداعي علي التدرج التاريخي كمادة دون أن يخترقها أو يلتزم بحرفية أكاديميتها بل جعلها إطارا مرجعيا قابلا للتأويل في سياق اجتماعي وثقافي, وأتاح له ذلك تعميق النص العادي الذي أدرك أن لغته البسيطة والمباشرة قد تكون نقطة تحسب ضده فالأدباء والمثقفون عادة يبحثون عن تراكيب لغوية جديدة مخترعة ومختزلة ومحيرة, خاصة من كاتب كبير له باع وذراع, ولأن النقد يدرك الأبعاد وبشكل خاص حين يكون الزمن في الرواية متنقلا وخفيف التحريك هكذا لمصلحة دخول النص, حيز منطقة القراءة بلا ملل لطول العمل وتشعب رموزه عموما, فإن الرؤية النقدية هنا تثمن قدرة وغرض الروائي طنطاوي عبد الحميد في أغلب تركيبه وتكوينه لرواية السماسرة, وقد تكون القراءات المختلفة للنص عاملا علي اكتشاف أشياء جديدة قيمة, ولها تأثير حسي هائل وقد تتعدي طبيعة الصياغة والخيال.