الكتب ليست جثثا فوق الأرفف وعندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ, عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قوما متحضرين .. هكذا ينظر للأمر المفكر اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة.. لكن يبقي ذلك مشروطا بألا تكون الكتب مجرد قطعة ديكور نتباهي أمام زائرينا بكثرتها وروعة تنسيقها دون أن تقربها يد فنكون كالحمار الذي يحمل أسفارا.. وقد قادتني أمسية رائعة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أسدل الستار علي فاعليته إلي حالة بالغة من الدهشة ربما غيرت الكثير من قناعتي بصدق الإحصائيات الرسمية التي تقول إن المصريين شعب لا يقرأ.. فقد وقفت علي مشاهدات عظيمة طوال فترة وجودي.. امرأة في نهاية فترة حملها تقريبا تسير حاضنة كما كبيرا من الكتب والفرحة تقفز من عينيها وكأنها تحمل وليدها المرتقب.. وعلي طول ممرات المعرض تري مئات الأسر جاءت بكامل أفرادها للاستمتاع بزخم هذا الحدث الكبير وحمل ما تستطيع ويوافق ميزانيتها من الكتب.. وفي صدارة الصورة كان الأطفال والشباب ينتشرون في المكتبات وعيونهم تلتهم الأرفف وأياديهم تتحسس الأغلفة.. وهناك من وقف يستمتع بالقراءة قبل اتخاذ قرار الشراء.. كانت فرحتي بالغة وأنا أري مصر المثقفة مازالت شامخة وحاضرة ونابضة بالحياة.. وأدركت أن أزمتنا ليست في عدم رغبة المصريين في القراءة أو انصرافهم بحكم أولويات وضروريات الحياة إلي مشارب واهتمامات أخري كما تقول الإحصائيات الرسمية لكنها تكمن في أسعار فرغم التخفيضات الكبيرة التي أتاحها المعرض لزواره إلا أنها لم تكن كافية لتمكين الكثيرين من شراء ما كانوا يحلمون بحمله وشاهدت الكثير من العيون تعتصرها الحسرة وهي تنظر إلي خلفية الكتاب الذي ترغب في شرائه وحين تفاجئ بسعره تعيده بأياد حزينة إلي مكانه.. هناك بالفعل مبالغة كبيرة وإشكالية في أسعار الكثير من الكتب خاصة المترجمات عن أعمال عالمية سواء في الأدب أو العلوم. وفي تقديري أن هذا الأمر يعود في المقام الأول إلي مسئولية الدولة فدور النشر تبرر هذا الارتفاع الكبير في أسعار الكتب بالغلو الفاحش في سعر الورق وأدوات الطباعة فيما يري الكتاب أن هذه الدور تبالغ بصورة كبيرة وتضع شروطا تعجيزية أمام إتاحة ابداعات الشباب للنشر.. وأن كل دور تحدد سعر الطباعة والتوزيع وفق هواها وبالتالي فقد شباب المبدعين وجود نافذة حقيقية تتبني إبداعهم وتشجعهم علي المواصلة فطباعة كتاب بسيط جدا تتخطي حاجز الثلاثة آلاف جنيه وفي النهاية يخرج المنتج مهما كانت جودة محتواه في صورة لا تليق تساهم بدرجة كبيرة في عزوف القراء عنها.. فيما تخرج الكتب الصادرة عن وزارة الثقافة ودار الكتب في حالة بالغة السوء سواء علي مستوي جودة الورق أو الطباعة وحتي التنسيق.. وبالتالي فالأمر يحتاج إلي ميثاق شرف بين دور النشر من أجل الوصول إلي صيغة ترفع العبء عن كاهل شباب المبدعين وتدفعهم لمواصلة الطريق.. لاسيما بعد أن ثبت فشل فكرة الكتاب المجمع الذي يضطر عدد من شباب المبدعين في الشعر والأدب للجوء إليه باعتباره النافذة والأمل الوحيد المتاح لإخراج إبداعهم للنور لعدم قدرة كل منهم علي إصدار كتاب منفرد لإبداعاته. إنها بالفعل مأساة أن نري إبداعات الشباب والبعض منها في منتهي الروعة والجدارة باتت محصورة علي صفحات التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وغيرها.. فيما يطبع فقط من يملك أموالا.. فتري هل تتحرك الدولة بالتعاون مع دور النشر في هذا الملف.. أم سيبقي مفتوحا كالجرح.