لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    اليوم.. «محلية النواب» تناقش طلب إحاطة بشأن إزالة 30 عقارًا بالإسماعيلية    الريال السعودي يواصل التراجع مقابل الجنيه بالبنك الأهلي اليوم الثلاثاء    بنك مصر يوقع عقد قرض طويل الأجل ب 990 مليون جنيه مع إيديتا للصناعات الغذائية لتمويل خطوط إنتاج جديدة    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    محافظ جنوب سيناء: نسعى للنهوض بالسياحة العلاجية وشرم الشيخ تتميز بتنوعها السياحي    طهران تصدر تحذيرات مشددة للدبلوماسيين الإيرانيين في الخارج    آخر مستجدات جهود مصر لوقف الحرب في غزة والعملية العسكرية الإسرائيلية برفح الفلسطينية    مبعوث أممي يدعو إلى استئناف المحادثات بين إسرائيل وحماس    زلزال يضرب محيط مدينة نابولي جنوبي إيطاليا    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    10 لقطات لا تنسى في موسم الدوري الإنجليزي 2023-2024 (صور)    رقم تاريخي لعدد أهداف موسم 2023/24 بالدوري الإنجليزي    الحالة الثالثة.. التخوف يسيطر على الزمالك من إصابة لاعبه بالصليبي    بشير التابعي: معين الشعباني لم يكن يتوقع الهجوم الكاسح للزمالك على نهضة بركان    أول صور لحادث سقوط سيارة من أعلى معدية أبو غالب في المنوفية    بالأسماء، إصابة 18 عاملًا في انقلاب ميني باص بالشرقية    موعد عرض مسلسل دواعي السفر الحلقة 3    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    جهات لا ينطبق عليها قانون المنشآت الصحية الجديد، تعرف عليها    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في مصر: توقيت وقفة عرفات وعدد أيام العطلة    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق في منتصف الأسبوع الثلاثاء 21 مايو 2024    حمدي الميرغني يحيي ذكرى رحيل سمير غانم: كنت ومازلت وستظل أسطورة الضحك    تعليم الوادى الجديد تحصد المركز الثامن بالمسابقة البحثية للثقافة الإسلامية    بعد رحلة 9 سنوات.. ماذا قدم كلوب لفريق ليفربول؟    جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية تنهي كافة الاستعدادات لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    ننشر بالأسماء ضحايا حادث العقار المنهار بالعياط    براتب 5000 جنيه.. وزارة العمل تعلن عن وظائف جديدة بالقاهرة    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    عاجل.. مصرع شاب إثر غرقه بمياه نهر النيل بمنشأة القناطر    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: صناعة الدواء مستقرة.. وصدرنا لقاحات وبعض أدوية كورونا للخارج    وزير الصحة: مصر تستقبل 4 مواليد كل دقيقة    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال قرب مفترق بلدة طمون جنوب مدينة طوباس    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالعمرانية    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    رفع لافتة كامل العدد.. الأوبرا تحتفي وتكرم الموسيقار عمار الشريعي (تفاصيل)    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    على باب الوزير    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آلهة وثنية قديمة

‏(1)‏ كان حقا جذابا جدا‏...‏ رغم ضآلته يجر حدقة البصر ناحيته‏...‏ لذلك حين اقترب مني المديرالعام بعد أن خرج من وراء مكتبه الفاره ووقف للحظات يحد النظر إليه لم أتعجب‏...‏ هو
خاطف حقيقة بلونه الأسود الأبنوسي اللامع‏,‏ ومقتحم بلا تلكؤ‏...‏ لم أستغرب‏,‏ لما المدير العام المتشدد في شكله وكلامه مع الموظفين‏,‏ انحني امامي نصف انحناءة‏,‏ ومد يده إلي وسطي‏,‏ وتصيده بين أصابعه وراح يدقق فيه ببطء‏,‏ وود أكبر من مساحة معرفتي بالمدير‏,‏ و كان يبتسم له‏.‏ كان المدير قد بدأ يفرح‏,‏ كنت لأول مرة‏,‏ منذ سنين أراه يفرح‏..‏ كانت السلسلة القصيرة متدلية من وسطي‏,‏والقرد الأبنوسي الصغير المعلق بها‏,‏ تحركة أنامل المدير بعناية وتأمل عميقين‏.‏ ثم صار بخبرة إدارية عريضة‏,‏ يمهد طريق العلاقة فيما بيننا‏,‏ ويدهس بروزات متكلسة أعاقت صفاء التواصل بيننا عبر الأعوام الفائتة‏.‏ أحسست بحمية الصدق الحماسي الراغب في إعادة ترتيب المشاعر الصحية في صدر كل منا‏,‏ وكنت أعاونه‏,‏ وأحاول تجسيد هذا المفهوم الإنساني الجديد الناشئ‏,‏ أصبح استدعائي إلي مكتبه‏,‏ مريحا لي‏,‏ بالضبط مثل الطقس المريح في مكتبة الواسع‏,‏ الذي يتحكم فيه ويجعله آدميا‏,‏ جهاز تكييف ضخم يبرز بواجهه عريضة أنيفة‏,‏ من الحائط‏,‏ ويهمس بالأزيز الخافت‏,‏ الذي حين أسمعه‏,‏ وأنا أفتح الباب وأدلف حاملا الملفات والدوسيهات‏,‏ أدرك أنني حتما سوف أعيش دقائق أو أكثر في حضرة شتاء اضطراري لذيذ‏,‏ مغاير عن حريق الصيف الرسمي القائظ في الخارج‏.‏ لكنني بدأت أتأخر عنده‏,‏ منذ أن شاهد القرد الصغير المتدلي من عروة بنطا لي‏,‏ صار المدير يصطنع الأعذار ليؤخرني عنده‏.‏
أصبحت عند كل استدعاء لي أعرف أنني سوف أمكث عنده ساعة أو بضع ساعة‏,‏ وأن المدير سوف يكلمني بود جديد صادق‏,‏ وأنه‏,‏ سيطلب مني مثل كل مرة‏,‏ أن أفك حصار القرد الشمبانزي من بنطالي ليراه‏...‏ كان يستغرق في التأمل لمسافات أحسها طويلة صامتة‏,‏ وحين يعود بصعوبة‏,‏ كنت أحس به قد أجبر علي العودة‏,‏ وكأن هذا العرق الملحي الذي تصبب منه‏,‏ هو أحد أشياء أرقت سباحته في لجة بحر واسع غامض‏,‏ دائما عند استرجاعه لوعيه‏,‏ يسرع محرجا ويمد ذراعه إلي علبة المناديل الورقة‏,‏ ويجفف عرقه غير المبرر‏,‏ في حضرة هذا الكائن الحديدي الكبير المواجه لنا في الحائط‏,‏ والذي يهمس في وجوهنا همسا رطبا‏,‏ ويملأ فراغ الحجرة الشاسعة‏,‏ بمناخ مريح بارد‏,‏ بعد ان يستجمع تناثر أعضائه المرتبكة‏,‏ يمد صوته الرخيم إلي أذني ويطرقني طرقا مدويا بسؤال غامض التفاصيل غير واضح المدلول‏,‏ مما يجعلني أتلجلج وأرتبك مثله‏,‏ وأحس وأنا أتلعثم في الإجابة‏,‏ بندي ملحي بدأ ينضح من جبهتي‏,‏ هازما هذا المخلص القابع هناك وهو ينتج رشاش الهواء الصاقع فوقنا‏,‏ وبدون أن أشعر‏,‏ أرسل يدي إلي العلبة المستطيلة الموضوعة علي المكتب‏,‏ وأجئ بحفنة من المناديل الورقية‏,‏ وأسرع إلي مصبات المياه المجتهده في جسمي‏,‏ وأحاول محرجا‏,‏ أن أجفف نفسي‏,‏ كان دائما عند عودته من السفر يرجمني بسؤال غريب‏,‏ لا يلامس بالضبط هذا التمثال الدقيق‏,‏ لكنه دائما القرد الأبنوسي‏,‏ قاعدة لانطلاق الحوار‏.‏ كنت قد بدأت أفكر جديا في الاستغناء عن هذا الصنم الذي لايكاد يري‏,‏ وخصوصا بعد سريان عدوي هذه الحالة وانتشارها بين دهاليز وطرقات الشركة مما جعل زميلاتي وزملائي الموظفين‏,‏ يوقفونني في ذهابي ومجيئي‏,‏ ويتأملونه بولع وهم يقضمون احتمالي باستفساراتهم الكثيرة عن القرد‏,‏ حتي ساعي مكاتبنا‏,‏ كان يتقدم إلي نصفي التحتي بإحراج وينحني وهو يلفظ مفردات تمنحني قدرا كبيرا من التبجيل والوقار‏,‏ وكأنه يدرك أنه بتلك الكلمات المضخمة لذاتي‏,‏ يخدر جهاز الرفض العامل في والمستاء من تلك السخافة‏.‏
أيضا حارس البوابة الخارجية لشركتنا‏,‏ أصبح يتربص بي وحين ألوح له‏,‏ يهم سادا علي السكة بجسمه العريض‏,‏ ويغلق منافذ الفكاك‏,‏ وينحني أمامي متأملا سائلا عن مصدر التمثال‏,‏ ويطلب مني إحضار واحد مثله وبأي ثمن‏,‏ صار مستوجبا علي أن أنزع عني هذه اللعنة‏,‏ يجب أن أستغني عن احدي الهدايا التي منحها لي أعز أصدقائي‏...‏ علي أن أتبرأ من هذا القرد الهدية‏,‏ قبل أن يصنع ضدي مشكلة قد تؤثر علي‏.‏ فلتذهب في ستين داهية العلاقة الطيبة الطرية المريحة‏,‏ بيني وبين المدير العام‏,‏ وأهلا بحالة الاستعداء القديمة التي جمعتنا من قبل‏.‏
‏(2)‏
قال لي حيدر صديقي السوداني وهو يشد ملامح وجهه النحاسي‏,‏ ويلفظ أحرفه بعناية مقصوده أنه في كل واحد من الناس‏,‏ بقايا لاله وثني قديم‏,‏ في أعماق الإنسي الغائرة طوطم أثري‏,‏ من حين لآخر يقدم الفرد‏,‏ ذبائحه ونذوره وولاءه لهذا الوثن هأهاها‏...‏ يخرب بيتك ياحيدر‏!!‏
رغم إنني سخرت من تفلسف حيدر تاجر التماثيل الأفريقية القديمة‏,‏ إلا أنني لاحظت مدي الجدية والحسم الذي تلبس صوته الرخيم المموه بلهجة سودانية قريبة إلي حد مامن لهجتنا الصعيدية الجافة المتعطشة‏.‏ كنت أجلس بجواره علي الأريكة المتهالكة‏,‏ ونحتسي شاينا المسائي‏,‏ وأمامنا فرشه المتواضع الذي يعرض للخواجات ولمن أراد‏.‏ الأقنعه والدروع والتماثيل الافريقية البدائية‏.‏ كانت التماثيل من وقت لآخر تتلقي لطمة لينة من منشة في يده‏,‏ وبقية البضاعة مثل الأقنعة والدروع والخناجر والكرابيج الجلدية تتلقي كل فترة‏,‏ استدعاء فوريا إلي حجره‏,‏ وقت أن يرعي انتباهه مسة من غبار أطفأت لمعة النظافة‏,‏ كان يحاصرها بلحمه الخفيف‏,‏ وينكب عليها ملمعا بقطعة فرو الخروف‏,‏ لم يكن حيدر يتعامل مع أشيائه البسيطة كسلعة تؤكله عيشا فقط وإنما كان يتشابك معها ويتأملها كأحد الأجوبة التي عثر عليها البشري لسؤال عسير في زمن بعيد‏...‏ وهو أيضا يظن أن تلك الأسئلة لم تحل حلا كاملا إلي الأن‏,‏ وأن الأجوبة العتيقة‏,‏ مازالت تعمل في وجداننا الي هذا الوقت‏,‏ أو علي الأقل‏,‏ قدر من تلك الأجوية مازال عالقا بجدران ذاكرتنا‏.‏ الطوطم جايز يكون فكرة‏....‏ ماهو لأزم شيء بعينه‏!!‏ لأنني من مدينة أسوان‏,‏ فأنا مدرك أنني لدرجة ما‏.‏
متماس مع البدن الافريقي الشمالي نحن هنا نقطة اللقاء الأولي‏.‏ أحيانا كثيرة المناخ الاستوائي الحار يرمي بصهده وتقلباته إلينا‏,‏ ويقذف كذلك بأجساد نحيلة‏,‏ سوداء‏,‏ طافشة من عبث المناخ القاسي الفقير‏,‏ أو فارة من ميول الأنظمة هناك‏,‏ لاضطهاد الحياة القليلة المتبقية فيهم‏,‏ لذلك قلة منهم يأتوننا هربا من الشح‏,‏ أو لعدم ارتياحهم للركوع الطويل في ليل استوائي مرهق‏,‏ حجب عنهم سلالم الصعود لملكوت الكرامة وهذا الموضوع ليس موضوع القصة الأصلي ذلك النزوح الخجول‏,‏ المصاحب لتقلب أمزجة المواسم القارية‏,‏ لا يمثل عندنا في مدينتا الجنوبية أية ظاهرة بل هم قلة يأتون إلينا‏,‏ وأغلبهم عادة ما يكونون سودانيي المواطن‏.‏ يتهادون ناحيتنا‏,‏ بحكم الحيرة‏,‏ وسهولة الانسلال والانزلاق ولقرب المسافة‏.‏ بعضهم يأخذ مدينتنا كقناة حلم‏,‏ ليعبروا نحو الحلم الكبير الغرب ومنهم من يشق سباحة أقل عسرا‏,‏ ويسافر نحو بحور النفط العربية‏,‏ وهذا أضعف الإيمان‏.‏ وبعض يقيم معنا ويعيش‏,‏ وكان حيدر من هذا النوع الأخير‏,‏ الذي يأتي بمنتوج استهلاكي‏,‏ أو ثقافي‏,‏ مختلف‏,‏ ويفترش الأرصفة ويعيش بما قسمه الرب والترحال لهم‏.‏ ولأنهم طيبون‏,‏ ويصادقون طوب الأرض‏.‏ نشبت صداقتي مع حيدر منذ مدة طويلة‏,‏ لحظة أن وقفت لأتفرج علي بضاعته‏.‏ كنت سائرا في شارع الفنية الذي في آخره مقر الشركة التي أعمل بها‏,‏ وشد انتباهي‏,‏ حيدر وأشياؤه‏.‏ علي الرصيف المقابل‏.‏ كان يلف حول الفرش بمهل ويلكم بمنشته غبار المدينة‏,‏ ويطرده بعيدا عن بضاعته‏.‏ وقفت‏,‏ فبدأ الحوار هامشيا‏,‏ ولما صرت في ذهابي ومجيئي أتوقف مشدودا أمام التماثيل والأقنعة والجلود‏,‏ نما الحوار وتكثف يوما في اثر يوم‏,‏ وأصبح لا يسعه حوار الأثمان والأنواع والخامات‏,‏ بل استطال الكلام ودخل إلي اسم كل قطعة‏,‏ وانتسابها إلي فلكلور القبيلة الفلانية‏,‏ وما تمثله لهم من اعتقاد‏.‏ أدهشني حيدر بأنه ليس بائعا فقط‏,‏ وإنما متأمل لما يتاجر فيه‏,‏ عميق في تأويله للظواهر التي استدعت خفوت نجم إله وثني قديم‏,‏ ليفسح السكة لآخر‏,‏ جاء ليسطو علي حصة من الزمن‏,‏ فيها سيكون هذا الإله مركزا لاهتمام الناس‏.‏ ثم تكلمنا في الحياة والسياسة‏,‏ والتفاصيل العائلية لكل منا‏.‏ كان حين ينهي بضاعته‏,‏ يعود إلي السودان‏,‏ ويمكث مدة ثم يعود بأخري‏.‏ في آخر رجوع له أعطاني هدية‏.‏ تمثالا صغيرا لقرد من فصيلة الشامبنزي مصنوع من الأبنوس‏.‏ كان نموذجا لطوطم قبيلة الدنكا‏.‏ قال لي ضاحكا‏,‏ إن هناك اسطورة افريقية سالفة‏,‏ ملخصها يقول‏,‏ إن الطوطم يذهب لمن يختاره‏.‏
يعني يازول ما اختارت هديتك‏,‏ أنت اللي عملت‏..‏
هاهاها‏...‏ مقبوله منك‏..‏
‏(3)‏
كان في حجم القداحة‏.‏ يهبط بذراعيه في استقامة إلي تحت‏.‏ يكاد ينطق‏.‏ بطنه مكور بهدوء‏.‏ ثدياه طالعان إلي الأمام‏,‏ والحلمتان الدقيقتان تبرزان من تحت الشعر الكثيف‏.‏ فكه متدل قليلا والجزع والظهر يميلان بالرأس نحو الناظر إليه‏.‏ عيناه الضيقتان المحدقتان‏,‏ فيهما حياة لا تعكس قدرة اليد الفنانة التي أبدعته فقط‏,‏ بل تعكس أيضا انه حيوان عادي‏,‏ يحاول أن يكون ذكيا مؤثرا في أعماق من يشاهده‏.‏ كان من الأبنوس النادر‏.‏ كنت أتأمله كثيرا‏,‏ حتي أحسه في بعض الأحيان قطعة من اللحم الدافئ بين يدي‏..‏ كنت أضعه علي المكتب بجوار كتبي وأوراقي‏..‏ بعد حين من الوقت صرت اشتاق اليه في كل مرة ادخل فيها الي بيتنا كنت اجده في يد أبي أو أمي كان كل منهما يؤجل شئونه ويروح إلي المكتب ويقف قبالته‏.‏ كانت أمي تعاني بين أمرين‏,‏ الأول مصالح بيتنا اليومية التي ينبغي أن تفعلها‏..‏ والثاني‏,‏ الذهاب عنده والوقوف قدامه طويلا‏.‏ عندما دخلت البيت مصمما علي عدم تركه مدة غيابي عن البيت لولعي به‏,‏ اتهمني والدي بالقسوة‏,‏ كنت قد انتزعته من بين يديه‏.‏ كان أبي قد ترك قراءة الجرائد اليومية التي يحبها‏.‏ رأيته ممددا علي الأريكة والتمثال في يده‏.‏ وأنا أخرم خرما دقيقا في أذن القرد حتي أمرر عروة السلسلة التي في آخرها قفل صغير كانت أمي قد فهمت ما أنويه‏,‏ فصمتت مخذولة‏,‏ وترسب في قاع مقلتيها حزن غامض‏,‏ وكان أبي يتهمني بالعقوق‏.‏ لم يفصحا عن شيء محدد كان سببا لهذا الحنق‏,‏ بل أصبحا يحنقان علي بلا مبرر‏.‏ لكني صممت علي تحقيق رغبتي‏.‏ في الصباح كنت أعلقه في عروة البنطال بجوار ميدالية المفاتيح وأسير به إلي كل مكان‏.‏ عند العودة إلي بيتنا‏,‏ كان أبي وأمي‏,‏ يهزمان تلكؤ الشيخوخة‏,‏ وغضب الأمراض الروماتزمية المزمنة‏,‏ ويثبان نحوي في خفة ويربطانني بالأهمية المزيفة‏.‏
‏(4)‏
لما طلبني المدير العام‏,‏ طرقت الباب ووقفت حتي جاء صوته من الداخل‏.‏ نظر إلي نصفي التحتي ثم عاد مفجوعا‏,‏ بعدها عادت التكلسات الورمية للنتوء في لحم علاقتنا من جديد‏,‏ وبقي التذمر قابعا بين كلينا ويعطل أي محاولة مني للتصالح‏,‏ ولم أعد أسعد بالمناخ الجليدي اللذيذ المغلف لأجواء غرفة المدير العام‏,‏ ولم أعد استمتع بمؤخرات زميلاتي في العمل وهن يملن أمامي كلما قابلنني‏.‏
‏(5)‏
في الصباح توقفت أمام البوابة الكبيرة للشركة وبغير أن أشعر انحنيت أمام الحارس العريض‏.‏ كنت أتأمل قردا ضئيل الحجم متدليا من بنطاله ويخشخش متخبطا بالمفاتيح الكثيرة المعلقة في السلسلة‏.‏ وأنا أقول متوترا‏,‏ كنت أسرع ماسحا عرقا غزيرا يتصبب مني‏.‏ وأنا أسير في الممرات الضيقة‏,‏ الفاصلة بين أبواب المكاتب‏,‏ كنت أسمع الخشخشة الخافتة وهي تصدر من زملائي‏,‏ وحين رنوت رأيت ذات التمثال اللعين وهو يتأرجح متخبطا بميدالية المفاتيح المعلقة في الأيدي‏,‏ أو‏,‏ في عراوي البنطلونات‏.‏ عند الليل كان أبي قاسيا جدا‏,‏ وأمي لا تعطيني لمسة من رحمتها‏..‏ كانا يتبادلان تمثالهما الصغير فيما بينهما‏,‏ وكلما دخلت عليهما الغرفة أسرعا وخبآه مني وأنكرا وجوده‏.‏ كنت أغافلهما وأتطلع عليهما من شروخ باب الغرفة‏,‏ وكانا حتما يشعران بي‏..‏ كنت أري أربع عيون متقدة بالضيق تلطمني حتي أرتد راجعا إلي وحدتي‏.‏
‏(6)‏
للصبح أنباء يرسلها بإلحاح لمن ينتظره‏.‏ كنت لم أنم بعد‏,‏ وأحس بأنباء النهار وهي تسرع نحوي‏.‏ خرجت مبكرا مستسلما لنداء عتيق يثغو في أعماقي‏.‏ كان زقاقنا النحيل مازال مريضا بداء الليل الذي انسلت قتامته منذ قليل‏.‏ الكل نائم‏,‏ وكاتم في أعماقه مثلي أصواتا تجلجل في فضاءاته‏,‏ حتما منهم من يرفض رداء معادا ومكررا قادما من الأزمان البعيدة‏,‏ ومنهم من استسلم مثلي وراح يعانق أجوبة جاهزة معلقة بالقرب منا‏,‏ في عروة بنطالنا وتتخبط بسلسلة المفاتيح‏,‏ مرسلة خشخشة خافتة تدغدغنا‏.‏
خرجت إلي الطريق العمومي راكضا‏,‏ وضغطت المسافات حتي وصلت لشارع السودانية‏,‏ الذي‏,‏ امتشق هذا الاسم من توافد السودانيين عليه‏,‏ وافتراشهم لأرصفته بالبضائع الأفريقية النادرة عندنا‏.‏ كان حيدر يعد فرشه المتواضع للرزق الصباحي الجديد‏.‏ بعد أن حييته وقفت أمامه حائرا‏,‏ كان يرنو لعيني مباشرة‏.‏ بعد لحظات رأيته يضع يده في جيب جلبابه السوداني المميز‏,‏ ثم يخرج ببطء التمثال الذي أعدته إليه منذ أيام‏.‏ مد ذراعه إلي وبسط كفه لي‏,‏ بخجل وارتباك‏,‏ ذهبت للقرد الصغير والتقطته ورحت أحدق فيه ببعض الغضب في حين كان الماء المالح ينز من كل جزء في جسمي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.