23 شركة مصرية تعمل بالمشروع.. وزير النقل: القطار الكهربائي يصل لمطروح    رئيس "رياضة النواب": نسعى لتحقيق مصالح الشباب حتي لا يكونوا فريسة للمتطرفين    هنية للأسرى الفلسطينيين: إن مع العسر يسرا وطوفان الأقصى سيحقق لكم الحرية    إسماعيل هنية: طوفان الأقصى اجتاحت قلاع الاحتلال الحصينة.. وتذل جيشا قيل إنه لا يقهر    "الشحات في الصدارة".. تعرف على قائمة هدافي الأهلي في دوري أبطال أفريقيا حتى الآن    بسبب نصف مليون جنيه.. سمية الخشاب تتهم منتج سينمائي في محضر رسمي بقسم الهرم    21 ضحية و47 مصابا.. ما الحادث الذي تسبب في استقالة هشام عرفات وزير النقل السابق؟    ضبط عاطل بحوزته كمية من الحشيش في قنا    إليسا توجه رسالة ل أصالة نصري في عيد ميلادها    أمين الفتوى يكشف عن طريقة تجد بها ساعة الاستجابة يوم الجمعة    مخاطر الإنترنت العميق، ندوة تثقيفية لكلية الدعوة الإسلامية بحضور قيادات الأزهر    وزارة النقل تنعى الدكتور هشام عرفات وزير النقل السابق    «أونروا»: نحو 600 ألف شخص فرّوا من رفح جنوبي غزة منذ تكثيف بدء العمليات الإسرائيلية    المشدد 7 سنوات لمتهم بهتك عرض طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة بكفر الشيخ    وزارة النقل تنعى هشام عرفات: ساهم في تنفيذ العديد من المشروعات المهمة    بعد انفصالها عن العوضي.. ياسمين عبدالعزيز ترتدي فستان زفاف والجمهور يعلق    «الشعب الجمهوري» يهنئ «القاهرة الإخبارية» لفوزها بجائزة التميز الإعلامي العربي    أمير عيد يكشف ل«الوطن» تفاصيل بطولته لمسلسل «دواعي السفر» (فيديو)    بعد تشغيل محطات جديدة.. رئيس هيئة الأنفاق يكشف أسعار تذاكر المترو - فيديو    هل الحج بالتقسيط حلال؟.. «دار الإفتاء» توضح    أمين الفتوى يحسم الجدل حول سفر المرأة للحج بدون محرم    خالد الجندي: ربنا أمرنا بطاعة الوالدين فى كل الأحوال عدا الشرك بالله    رئيس جامعة المنصورة يناقش خطة عمل القافلة المتكاملة لحلايب وشلاتين    يكفلها الدستور ويضمنها القضاء.. الحقوق القانونية والجنائية لذوي الإعاقة    الكويت تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي للامتثال إلى قرارات الشرعية الدولية    "الزراعة" و"البترول" يتابعان المشروعات التنموية المشتركة في وادي فيران    كوارث النقل الذكى!!    6 مستشفيات جديدة تحصل على اعتماد «جهار» بالمحافظات    محافظ مطروح: ندعم جهود نقابة الأطباء لتطوير منظومة الصحة    بث مباشر مباراة بيراميدز وسيراميكا بالدوري المصري لحظة بلحظة | التشكيل    رسميًا| مساعد كلوب يرحل عن تدريب ليفربول.. وهذه وجهته المقبلة    رغم تصدر ال"السرب".. "شقو" يقترب من 70 مليون جنية إيرادات    جامعة قناة السويس ضمن أفضل 400 جامعة دولياً في تصنيف تايمز    زياد السيسي يكشف كواليس تتويجه بذهبية الجائزة الكبرى لسلاح السيف    مدعومة من إحدى الدول.. الأردن يعلن إحباط محاولة تهريب أسلحة من ميليشيات للمملكة    الطاهري: القضية الفلسطينية حاضرة في القمة العربية بعدما حصدت زخما بالأمم المتحدة    نائب محافظ الجيزة تشهد فعاليات القافلة العلاجية الشاملة بقرية ميت شماس    الزراعة: زيادة المساحات المخصصة لمحصول القطن ل130 ألف فدان    2 يونيو.. محاكمة 3 متهمين بإطلاق النار على شخصين خلال مشاجرة بالسلام    لسة حي.. نجاة طفل سقط من الدور ال11 بالإسكندرية    الحكومة توافق على ترميم مسجدي جوهر اللالا ومسجد قانيباي الرماح بالقاهرة    «تضامن النواب» توافق على موازنة مديريات التضامن الاجتماعي وتصدر 7 توصيات    محافظ بورسعيد يناقش مقترحا للتعاون مع ممثلي وزارة البترول والهيئة الاقتصادية لقناة السويس    ماذا قال مدير دار نشر السيفير عن مستوى الأبحاث المصرية؟    مفتي الجمهورية من منتدى كايسيد: الإسلام يعظم المشتركات بين الأديان والتعايش السلمي    أبرزها «الأسد» و«الميزان».. 4 أبراج لا تتحمل الوحدة    صور.. كريم قاسم من كواليس تصوير "ولاد رزق 3"    الصحة: تقديم الخدمات الطبية ل898 ألف مريض بمستشفيات الحميات    "النقد الدولي" يوافق على قروض لدعم اقتصاد غينيا بيساو والرأس الأخضر    بالفيديو.. غناء وعزف أنتوني بلينكن في أحد النوادي الليلية ب"كييف"    للنهائى الأفريقي فوائد أخرى.. مصطفى شوبير يستهدف المنتخب من بوابة الترجى    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13238 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    حكم وشروط الأضحية.. الإفتاء توضح: لا بد أن تبلغ سن الذبح    أحمد مجدي: السيطرة على غرفة خلع ملابس غزل المحلة وراء العودة للممتاز    تشاهدون اليوم.. نهائي كأس إيطاليا وبيراميدز يستضيف سيراميكا    وزارة العمل: 945 فرصة عمل لمدرسين وممرضات فى 13 محافظة    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنفاق المقاومة فى البوسنة التى انتقلت تجربتها إلى غزة
يحيى غانم يكشف ملامح النضال المشترك بين حركة حماس والمعارضة فى سراييفو
نشر في اليوم السابع يوم 22 - 01 - 2009

◄أخذونى كى أشاهد الرئيس البوسنى الراحل عزت بيجوفيتش ابن ال 70 عاما وهو يستخدم النفق للدخول والخروج إلى العالم
كان يوما من أيام شهر ديسمبر عام 2003 عندما فرغت من المهمة التى اضطرتنى إلى الخروج من البوسنة حيث كنت أقوم بتغطية الحرب هناك - إلى كرواتيا، وكان على أن أجد طريقا للعودة إلى البوسنة مرة ثانية، وهو الأمر الذى كان أقرب للمستحيل، حيث قام الصرب بإغلاق مطار سراييفو بقصف مركز من مواقعهم الحاكمة للجبال المحيطة للمطار، ناهيك عن قطعهم أغلب الطرق البرية، فى حين تكفل الجليد الكثيف بقطع الطرق القليلة الأخرى التى لا يسيطرون عليها.
جلست فى مقر إقامتى فى العاصمة الكرواتية زغرب أقلب الأفكار، وكلما أمعنت فى التفكير، كلما أحسست بأن العودة للبوسنة ميئوس منها. وفجأة دق جرس الهاتف لكى أسمع صوتا محببا لنفسى، ألا وهو صوت الشيخ عمر باشيتش، مفتى المسلمين فى جمهورية كرواتيا، الذى تعرفت لأول مرة عليه أثناء اصطحابه وزير الخارجية الكرواتى فى ذلك الوقت، شيباروفيتش فى مهمة إلى مصر بتكليف من الرئيس الكرواتى، فرانيو تودجمان إلى مصر للقاء رئيسها حسنى مبارك، كى يطلب منه الاعتراف باستقلال بلاده عن الاتحاد اليوغوسلافى. وقد بعث الرئيس الكرواتى الشيخ باشيتش فى صحبة وزير الخارجية فى بادرة تؤكد حسن العلاقات بين المسلمين فى بلاده وبين الحكومة. سمعت صوت الشيخ عمر باشيتش -الذى يتميز بالعمق- على الهاتف، وهو يهنئنى بمناسبة أظن الآن أنها كانت ليلة النصف من شعبان، ويدعونى إلى ليلة صلاة وحلقة ذكر فى المسجد الكبير بالعاصمة زغرب، وقد كان.
انتحى بى مفتى كرواتيا جانبا، حيث سألنى عن أحوالى، فقلت له إننى أرغب فى العودة إلى البوسنة، وقد تقطعت بى السبل بسبب الحصار الصربى، وهو ما دفع الرجل الذى يتحدث العربية بطلاقة حيث تلقى تعليمه الثانوى والجامعى فى سوريا - كى يهون على الأمر، قائلاً: «... لا تحزن، فإذا كنت ترغب فى ذلك حقا، فإننى قادر على إعادتك، ولكن عليك أن تقرر بشكل نهائى؛ فالرحلة لا يفوق مشاقها، سوى خطورتها...!».
لم أفهم مغزى كلمات الرجل، إلا أننى أكدت له رغبتى، وذلك قبل أن يختم قائلاً: «...على بركة الله، فلتنتظرنى غدا فى محل إقامتك الساعة 12 ظهرا...». وحاولت عبثا أن أستفهم من الرجل السبيل إلى البوسنة، إلا أن الرجل قال لى بشكل قاطع: «... لكل حادث حديث، ومن الأفضل لك ولنا ألا تعرف مقدما أى شىء عن الطريق الذى سنقطعه...!».
ظهيرة اليوم التالى، كنت أقف بباب المنزل حاملا أغراضى على ظهرى، حتى ظهرت سيارة الشيخ عمر ذات الدفع الرباعى، وبجواره جلس عملاق يرتدى السواد وحول رأسه عصابة سوداء، وتتدلى على صدره لحية كثيفة شديدة السواد، والذى عرفه لى الشيخ بكنيته وكانت ال(المدرس)، والتى ينطقونها هناك باللغة العربية.
وبالطبع، أدركت على الفور أن الكنية ليست سوى اسم حركى للرجل الذى اتضح أنه هو الآخر- يتحدث العربية الفصحى أفضل منى، وذلك بالرغم من كونه بوسنيا! كان واضحا أن الرحلة ستقتصر على هذه كاتب السطور، وذلك العملاق، بالإضافة إلى رفيق له، والسائق.
على حافة الجبل!
قبل أن أحتل مقعدى فى السيارة، انتحى بى الشيخ عمر قائلاً: «... لولا ثقتنا المطلقة فيك، ما كنا سمحنا لك بأن تذهب فى هذه الرحلة، فما ستراه خلالها لم يره سوى بعض من كبار المسئولين البوسنيين، وبعض من المقاتلين الثقاة...!».
تركنى الشيخ عمر، وأنا أتعجب من حديثه، فما هذا الذى سأطلع عليه، والذى بدا سر الأسرار؟! ومع بداية الطريق، تعرفت شيئا، فشيئا على ذلك العملاق الذى تميز بوجه ذى ملامح طفولية! فبعد دقائق استطعت أن أستشف من الحوار الدائر فى السيارة أن هذا العملاق الملقب بال (مدرس) ليس سوى أحد كبار القادة العسكريين البوسنيين المقربين من رئيس الجمهورية. أيضا، فقد استشففت من الحوار أن الرجل ليس عسكريا محترفا، إنما هو احترف القتال عقب بدء الصرب عدوانهم على البوسنة. وبمرور الوقت، علمت أن اسمه الحقيقى كاظم، وأنه كان يعمل قبل الحرب مدرسا للعلوم الشرعية فى معهد دينى فى سراييفو، وهو السبب فى اسمه الحركى (المدرس)، وأن عربيته الفصحى، يرجع الفضل فيها لجامعة الأزهر الشريف التى تلقى فيها العلوم الشرعية. وفيما بعد، كتب لى أن أتمتع بالقرب من هذه الشخصية فى فترات، أعتبرها من أخصب فترات حياتى إنسانيا ومهنيا. بعد ما يقرب من أربع ساعات، كنا قد عبرنا جانبا من الحدود الجبلية غير المأهولة التى تفصل بين جمهورية كرواتيا والبوسنة، وبدأنا نضرب فى جبال البوسنة، حيث كان الليل قد أرخى ستائره التى تكاد تظن أنها ستائر ثلجية صبغت بالسواد؛ فالرؤية تكاد تكون معدومة بسبب عدم وجود قمر، بالإضافة إلى تشبع الجو برطوبة شديدة ناجمة عن تساقط الثلوج.
كان الطريق الذى سلكه السائق الشاب وعرا وخطرا بشكل لا يصدقه عقل، حيث كان الطريق الجبلى يضيق أحيانا حتى يكاد إطارا السيارة فى الجانب الأيمن يلامسان حافة هاوية سحيقة القرار أسفل الجبل! كنت فى بعض اللحظات أشعر بشعر رأسى يكاد يقف رعبا من المشهد الرهيب، وقد ساد صمت مطبق السيارة.
لا أدرى كم من الوقت استغرقه ذلك الجزء من الرحلة، فقد بدا لى أن الوقت قد تحول إلى مخلوق مطلق يمتد بلا نهاية فى المكان. وبالرغم من أن الكثيرين قد شهدوا لكاتب السطور بقوة الأعصاب، إلا أن تلك الساعات كانت كفيلة بأن تحول ما تعودت أن أفخر به من أعصاب فولاذية إلى شظايا متناهية فى الصغر!
فجأة، توقفت السيارة وقد لاح فى الظلام أمامها أشباح تتحرك، سرعان ما طمأننى كاظم بأنهم مقاتلون بوسنيون، قائلاً: «... دقائق وتكون فى داخل سراييفو...!». سألت الرجل عن المكان الذى نحن فيه، فقال إن هذه النقطة تقع خلف جبل إيجمان الذى يحيط بالعاصمة البوسنية، وبإن السر الذى على وشك أن أطلع عليه ليس سوى نفق سرى يمتد من هذه النقطة، ويجرى تحت كل من جبل إيجمان ومدرج مطار سراييفو الواقع خلفه، ويصل إلى مشارف العاصمة البوسنية التى يسيطر عليها الجيش البوسنى.
السير تحت رواسى جبل أشم !
وقفت مذهولا أمام مدخل النفق الذى تم تمويهه بشكل يصعب رصده. وقبل أن نبدأ الرحلة، أعاد كاظم تعليماته، حيث قال: «... هذا النفق سر عسكرى مات ويموت فى سبيله الكثيرون سواء مما قاموا بإنشائه، أو يقومون بحمايته، أو ممن حاولوا إفشاء سره للصرب، وهو يعد واحدا من الشرايين القليلة جدا التى تحفظ حدا أدنى من الأوكسجين لنا فى ظل هذا الحصار الرهيب، فعبر هذا النفق نقوم بنقل السلاح للمدافعين عن سراييفو، وعبره نحاول قدر الاستطاعة تمرير بعض مواد الإغاثة والإعاشة للمحاصرين، كما أن يتنقل عبره كبار المسئولين من وإلى العاصمة. نحن نثق بك، ولذا كشفنا لك عما هو سر الأسرار، والذى لا يعلم به غالبية مسئولينا البوسنيين... هل تفهمنى...؟!». وأرفق العملاق سؤاله الأخير بنظرة، أفهمتنى المسئولية الخطيرة المترتبة على تلك الثقة المطلقة.
وبعد ذلك بأيام، كان أول لقاء لى مع المذيع اللامع ونجم محطة تليفزيون الجزيرة أحمد منصور، الذى اضطر إلى سلوك نفس هذا النفق السرى كى يصل إلى العاصمة سراييفو فى مهمة صحفية -لحساب مجلة المجتمع الكويتية التى كان يشغل منصب مدير تحريرها وألمع صحفييها فى ذلك الوقت- حيث كانت لنا سويا أيام عصيبة فى تلك المحرقة.
وقفت أمام مدخل النفق السرى، وأنا أتساءل حول كيفية نجاح المقاتلين البوسنيين فى بناء هذا النفق وسط تلك الظروف غير المواتية، وتحت حصار وقصف صربى لا يهدأ؟! النفق يبدأ بمدخل مموه بشكل جيد، بحيث يعتقد من يراه عن بعد أنه جزء طبيعى من الجبل. يرتفع سقف مدخل النفق إلى ما يقرب من 2.5 متر، ثم ينخفض إلى مترين قبل أن يبدأ فى الزحف إلى أسفل الجبل.
نظرت إلى القائد العسكرى كاظم سائلاً إياه: «... كم يبلغ طول النفق...؟!».
ابتسم المدرس وقال: «... لا تقلق، إنه لا يزيد على كيلو متر واحد...».
سألته: «... وكم يبلغ ارتفاع سقفه فى المنتصف...؟»، فرد قائلاً: «... لماذا كل هذه الأسئلة؟ أرجو ألا تكون تفكر فى أن تكتب تحقيقا عنه...!».
قلت للرجل: «... بالطبع لا، ولكننى قلق إزاء قدرتى على تحمل عبوره...».
ضحك القائد العسكرى بشدة، وهو يربت على ظهرى بقوة قائلا باللهجة المصرية: «... عيب على شاب مصرى أن يتحدث هكذا، فأنت لها بإذن الله، أنا سمعت أنك خضت تجربة الحرب، وأنك واجهت مواقف أصعب بكثير، هيا، هيا، فلا يوجد وقت نضيعه، فالمفترض أن نصل إلى سراييفو قبل الفجر...».
نظرت لذلك العملاق متشككا فى ظنه بقدرتى على عبور النفق، خاصة أن جسدى كله كان يهتز تحت وطأة كفه الهائل وهو يربت على ظهرى ضاحكا، وأنا الذى لا أعتبر نفسى صغير الحجم!
رحلة لعبور النفق
بدأت الرحلة بالنزول بشكل شبه عمودى تحت سطح الأرض، وذلك قبل أن يبدأ النفق فى الظهور أمامنا بشكل أفقى، وهو يلتوى بانحناءات بعضها حاد لدرجة أنك لا ترى ما بعد هذه الانحناءة. وبعد فترة من السير، اكتشفت أن كلام القائد العسكرى حول ارتفاع سقف النفق وعرضه، وطوله ينطبق على الجزء الأول منه فقط؛ فكلما قطعنا شوطا، اقترب سقف النفق من أرضيته وضاق عرضه، مما اضطرنا للانحناء بشدة أثناء السير. وبطول جسم النفق، تم تعليق مصابيح صغيرة للغاية يفصل بين كل منهما مسافة مترين، ولا تكاد تضىء من حولها.
إلا أن المشكلة لم تقتصر على انخفاض سقف النفق ولا ضيق عرضه، ولا صعوبة التنفس فقط، وإنما كان علينا أن نعانى من مشكلة إضافية ألا وهى القضبان الحديدية التى امتدت على الأرض، وقطع الخشب التى تثبتها فى الأرض (الفلنكات) والتى يتم وضع عربات عليها لنقل السلاح والمؤن.
أيضا، فقد كان علينا أن نكافح المياه الجوفية التى اختلطت بالتربة، فحولتها إلى مزيج طينى كان علينا أن ننتزع أقدامنا منه فى كل خطوة. بعد أن قطعنا ما يقرب من الكيلومتر، أحسست بأننى أختنق، وبأننى لا أشعر بجسدى. بدأت أتعثر فى (الفلنكات) التى تصل بين قضبى الحديد، حتى انتهى بى الحال على أرضية النفق.
وللوهلة الأولى، لم أستطع الرد على القائد العسكرى البوسنى كاظم الذى أخذ يصيح من ورائى مشجعا إياى على النهوض ومواصلة السير، مؤكدا أننا أوشكنا على الانتهاء من النفق. نظرت إلى كاظم وقد جلس إلى جوارى على أرضية النفق، ولمته على عدم إخبارى بحقيقة النفق. صمت كاظم قليلا، حيث قال: «... لقد خشيت بعد هذه الرحلة عبر الجبال أن أبوح لك بمواصفات النفق بما يدفعك للتراجع بعد كل ما اجتزناه، أنا آسف على عدم إبلاغك بالحقيقة كلها من قبل بداية الرحلة، إلا أنه كما تعلم فقد كانت التعليمات ألا أكشف لك عن سر النفق قبل أن نصل إليه، ولكن لا عليك يا صديقى، لنسترح جميعا قليلا قبل أن نستأنف المسير، فما أمامنا أصبح متساويا مع ما قطعناه، بحيث لم يعد التراجع الآن له معنى...».
وبعد ما يقرب من خمس دقائق، همّ كاظم بالنهوض، إلا أنه أشفق على، فقام بانتزاع حقيبة الظهر من على كاهلى مصرا على أن يحملها هو بدلا منى للتخفيف عنى. واستأنفنا المسير لمدة 20 دقيقة قبل أن أتوقف وأنفاسى لاهثة، وقلت له وأنا أريح ظهرى على حائط النفق: «... إلى هنا، ولن أستطيع السير، إنك تكذب على كما فعلت أول مرة، فمن الواضح أن طول النفق يزيد على 2.5 كيلومتر، فلكم أن تتركونى هنا وبعد ساعات سأستكمل أنا المسيرة وحدى...».
جعل كاظم يقسم بالله أننا أوشكنا على الانتهاء، وتحت ضغط تشجيعه استأنفت المسيرة. بعد دقائق سمعت كاظم يصيح بى قائلاً: «... أمعن النظر أمامك وسترى فتحة الخروج من النفق...». ونظرت، إلا أنه يبدو بسبب ما كنت أعانيه، لم أر شيئا مما قاله.
دقائق قليلة، وشعرت بألم فى رئتى، وذلك قبل أن أشعر براحة لم استشعرها من قبل، فقد كنا قد خرجنا بالفعل من فتحة النفق بدون أن ألحظ ذلك بفعل التعب الشديد. ارتميت على ظهرى وأنا أتأمل النجوم القليلة التى بدت ترصع سماء سراييفو، وأنا أملأ صدرى بهواء شتاء البوسنة البارد، حامدا الله على خروجى من هذا النفق الذى بدا لى كقبر. تجمع عدد من المقاتلين البوسنيين حولى أنا وكاظم يتحدثون إلينا ونحن مستلقيان على ظهرينا على الأرض، فى حين سارع البعض منهم لإحضار بعض من الماء.
نظر لى كاظم وهو يبتسم قائلاً: «... لقد كنت واثقا من أنك ستعبر النفق بالرغم من صعوبة ذلك خاصة أول مرة، فبالرغم من أننا نستخدمه طوال الوقت، إلا أنه صعب علينا نحن أيضا...». ابتسمت لكاظم وقلت له مداعبا: «... لن أسامحك...». ويبدو أنه أخذ كلامى مأخذ الجد، فبادر بالقول: «... لقد كانت تجربة مفيدة على كل الأصعدة؛ فمن ناحية أكدت لك ضرورة أن تتوقف عن التدخين، ومن ناحية أخرى، فإنها أوضحت لك بعدا جديدا من معاناتنا، ومن جهة ثالثة، فإنها ستوضح لك مدى السقوط الأخلاقى الذى وصل إليه المجتمع الدولى، عندما تعلم أن عزت بيجوفيتش رئيس الجمهورية الذى تخطى السبعين من عمره يضطر أن يسلك هذا النفق خارجا وداخلا عاصمة بلاده التى يرأسها...!!». اعتدلت على جانبى، وقلت لكاظم: «... أنت لا تنطق الصدق، فلا يمكن لشيخ تخطى السبعين أن ينجح فى عبور هذا النفق، فالأمر فوق طاقة كثير من الشباب، ناهيك عن الشيوخ...». رد كاظم - وهو يجذبنى من ذراعى لاستنهاضى - قائلاً: «... سأثبت لك صدقى قريبا...!».
بعد ذلك بأيام، وجدت كاظم يطرق باب مقر إقامتى طالبا منى الإسراع بركوب سيارته إذا كنت أرغب فى رؤية الرئيس البوسنى خارجا من النفق السرى وهو قادم من العاصمة المجرية بودابست، حيث شارك فى قمة منظمة الأمن والتعاون الأوروبى.
لقاء مع الرئيس
وعندما وصلنا النفق، وجدت عددا من المقاتلين، وثلاثة من كبار مساعدى الرئيس يتحلقون حول فتحة النفق، وقد وضعوا مقعدا أمامه. ولم تمر دقائق حتى ظهر الشيخ الذى تخطت سنوات عمره السبعين، مبهور الأنفاس لكى يتكئ على أذرع مساعديه ليجلس على المقعد. بعد دقائق التفت الرئيس مخاطبا إياى: «... هل مازلت هنا منذ أجريت ذلك الحوار معى، أم أنك رحلت ثم قدمت مرة أخرى (وكان الرئيس بيجوفيتش رحمة الله عليه يتمتع بذاكرة حديدية)...؟». رددت على الرئيس قائلاً: «... لقد رحلت، ثم عدت مرة ثانية سيادة الرئيس...». ابتسم بيجوفيتش وقال: «... أعتقد أنك مؤمن بقضيتنا، ولست مجنونا...».
قلت له إننى مؤمن ليس فقط بالقضية، ولكننى على يقين بأن الله سينصر البوسنيين، بالرغم من أن كل الظروف والقوى تبدو ضدهم، لدرجة أن يسمح المجتمع الدولى للصرب أن يجبروا رئيسا منتخبا بشكل ديمقراطى أن يدخل عاصمة بلاده بهذا الشكل! وعند هذا الحد، سمعت من بيجوفيتش هذا الرجل العظيم الذى لم يتخل عن شعبه فى أحلك الظروف ما لن أنساه ما حييت! أشار الرئيس إلى لكى أقترب منه، قبل أن يقول لى: «... وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، أنا لا أضيق من اضطرارى أن أدخل عاصمة بلادى بهذه الطريقة، فبعد كل شىء، ألا تتفق معى بأن سراييفو تلك المدينة العظيمة الشامخة، تستحق من أى شخص أن يحنى هامته لها وهو يدخلها، حتى لو كان هذا الشخص رئيس الدولة... يا بنى، انظر دائما إلى الجانب المشرق من الأشياء...». فى تلك اللحظة، شعرت بأن العالم كله يجب أن ينحنى ليس لعظمة يراها بيجوفيتش فى مدينة سراييفو، وإنما أن ينحنى لعظمة ذلك الرجل الذى آمن بقضية شعبه وبلاده، فملكت عليه روحه، فضحى، وجاهد قبل أن يكافئه الله هو وشعبه بأن
مَنّ عليهم بالنصر.
الشاهد، أننى استحضرت هذا المشهد من مشاهد تلك المذبحة التى أقيمت للشعب البوسنى على مدار ما يزيد على أربع سنوات، أثناء متابعة المحرقة التى أقامتها إسرائيل للشعب الفلسطينى المجاهد فى غزة. إلا أن نفس هذا المشهد يستحضرنى هو، كلما استمعت ورأيت أطرافا تهاجم الضحية لمحاولتها رفع سكين الاحتلال والحصار، وأخيرا العدوان عن رقبة شعب بأسره، تماما كما خبرت نفس الهجوم الشرس الذى شنته أطراف عديدة على المقاومة البوسنية.
ومن واقع معايشتى للمقاومة البوسنية، فقد وقعت فى أخطاء بسبب الحصار النفسى والمعنوى والمادى الرهيب التى كانت واقعة تحته، وهو الأمر الذى قد ينسحب على المقاومة الفلسطينية فى غزة، وإن كان يجب التأكيد على أن الحرب والحصار على الأخيرة أشد فى وطأته أضعاف ما رأيته من معاناة المقاومة فى البوسنة. إلا إنه يبقى أن الحساب لا يجب، ولا يمكن أن يكون بالمشاركة فى ذبح المقاومة، سواء بالتعامل الدبلوماسى (البارد) مع العدوان، أو بمحاولة جز رقبتها من الأذن إلى الأذن بتدجينها.
البوسنة والهرسك
هى إحدى جمهوريات يوغوسلافيا السابقة. تقع فى جنوب أوروبا. يحدها من الشمال والغرب والجنوب كرواتيا، من الشرق صربيا والجبل الأسود، لها منفذ من جهة الجنوب الغربى على البحر الأدرياتيكى (تحتله كرواتيا).
تمثل البوسنة المناطق الوسطى والشرقية والغربية، أما هرسك فهى اسم منطقة حوض نهر نيريتفا، ومن الناحية السياسية فالبوسنة والهرسك كانتا فى السابق منطقتين تفصل بينهما سلسلة جبال إيفان ثم اندمجتا على يد ملك البوسنة بان كوترومانيتش (1322-1353) ومنذ ذلك الوقت ظلتا دولة واحدة، وإن كثر الكروات فى الهرسك. وبالقرب من مدينة موستار يمكن زيارة منبع نهر نيريتفا ورؤية قلعة حجرية فى أعالى الجبال كانت تعود للملك هرسك الذى سميت الأراضى التابعة له باسمه.
لمعلوماتك...
◄1994 وقعت أبشع المذابح فى آخر هذا العام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.