تنسيق مدارس البترول 2024 بعد مرحلة الإعدادية (الشروط والأماكن)    مساهمو تسلا يقرون حزمة تعويضات لإيلون ماسك بقيمة 56 مليار دولار    القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير جهاز استشعار للدفاع الجوي في منطقة للحوثيين    ترامب: علاقاتى مع بوتين كانت جيدة    طاقم حكام مباراة الزمالك أمام سيراميكا كليوبترا في الدوري    إنبي: نحقق مكاسب مالية كبيرة من بيع اللاعبين.. وسنصعد ناشئين جدد هذا الموسم    مصطفى فتحي يكشف حقيقة بكائه في مباراة سموحة وبيراميدز    فريضة الحج.. انطلاق أولى رحلات قطار المشاعر المقدسة (مباشر)    للمسافرين.. تعرف على مواعيد القطارات خلال عيد الأضحى    هاني شنودة يُعلق على أزمة صفع عمرو دياب لمعجب.. ماذا قال؟    برفقة أولادها.. حنان ترك توجه رسالة لجمهورها بمناسبة عيد الأضحى (فيديو)    "هذه أعمالهم" ماذا يفعل الحجاج في يوم التروية؟    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مدينة قلقيلية وتداهم منازل المواطنين    الدخان وصل للسماء.. شاهد حريق هائل في منطقة الزرايب بالبراجيل    صلاح عبد الله عن صداقته بعلي الحجار: أنا الأصغر.. ولكنه يصر على مناداتي ب «الأستاذ»    باستعلام وتنزيل PDF.. اعرف نتائج الثالث المتوسط 2024    باسل عادل: لم أدع إلى 25 يناير على الرغم من مشاركتي بها    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    سبب ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير مسبوق.. القبة الحرارية (فيديو)    الخارجية الأمريكية: نضغط على إيران لتتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    حزب الله يحول شمال إسرائيل إلى جحيم ب150 صاروخا.. ماذا حدث؟ (فيديو)    مودرن فيوتشر يكشف حقيقة انتقال جوناثان نجويم للأهلي    سموحة يرد على أنباء التعاقد مع ثنائي الأهلي    فيديو| مشادة بين محمود العسيلي ومسلم.. والجمهور: "حلو الشو ده"    «زد يسهل طريق الاحتراف».. ميسي: «رحلت عن الأهلي لعدم المشاركة»    ضبط مريض نفسى يتعدى على المارة ببنى سويف    هشام قاسم و«المصري اليوم»    الحركة الوطنية يفتتح ثلاث مقرات جديدة في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري    سموحة يعلن موافقته على تطبيق نظام الدوري البلجيكي في مصر    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    ننشر صور الأشقاء ضحايا حادث صحراوي المنيا    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 14 يونيو: انتبه لخطواتك    تحرير 14 محضر مخالفة فى حملة للمرور على محلات الجزارة بالقصاصين بالإسماعيلية    أهم الأعمال التي يقوم بها الحاج في يوم التروية    عيد الأضحى 2024| هل على الحاج أضحية غير التي يذبحها في الحج؟    ما ينبغي على المسلم فعله في يوم عرفة    إصابة 11 شخصا بعقر كلب ضال بمطروح    صحة دمياط: تكثيف المرور على وحدات ومراكز طب الأسرة استعدادا لعيد الأضحى    بايدن يكشف العائق الأكبر أمام تنفيذ خطة وقف إطلاق النار    أماكن ذبح الأضاحي مجانا بمحافظة الإسماعيلية في عيد الأضحى 2024    جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 عمليات عسكرية بالصواريخ خلال ال 24 ساعة الماضية    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    مصطفى بكري يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة.. ومفاجآت المجموعة الاقتصادية    جامعة الدلتا تشارك في ورشة عمل حول مناهضة العنف ضد المرأة    بشرة خير.. تفاصيل الطرح الجديد لوحدات الإسكان الاجتماعي    5 أعمال للفوز بالمغفرة يوم عرفة.. تعرف عليها    بعد استشهاد العالم "ناصر صابر" .. ناعون: لا رحمة أو مروءة بإبقائه مشلولا بسجنه وإهماله طبيا    تحرك نووي أمريكي خلف الأسطول الروسي.. هل تقع الكارثة؟    رئيس "مكافحة المنشطات": لا أجد مشكلة في انتقادات بيراميدز.. وعينة رمضان صبحي غير نمطية    عماد الدين حسين يطالب بتنفيذ قرار تحديد أسعار الخبز الحر: لا يصح ترك المواطن فريسة للتجار    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية بالأسواق الجمعة 14 يونيو 2024    عماد الدين حسين: قانون التصالح بمخالفات البناء مثال على ضرورة وجود معارضة مدنية    وكيل صحة الإسماعيلية تهنئ العاملين بديوان عام المديرية بحلول عيد الأضحى المبارك    دواء جديد لإعادة نمو الأسنان تلقائيًا.. ما موعد طرحه في الأسواق؟ (فيديو)    نقيب "أطباء القاهرة" تحذر أولياء الأمور من إدمان أولادهم للمخدرات الرقمية    تراجع سعر السبيكة الذهب (مختلف الأوزان) وثبات عيار 21 الآن بمستهل تعاملات الجمعة 14 يونيو 2024    محمد صلاح العزب عن أزمة مسلسله الجديد: قصة سفاح التجمع ليست ملكا لأحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحاوي
ألعاب سحرية داخل قاعة المحكمة!
نشر في أخبار الحوادث يوم 07 - 07 - 2010

ما من شيء استطاع أن يضيء لي معني كلمة »الفن« في مراميها الحقيقية مثل ذلك الموقف البسيط من مواقف »العدالة« في جلسة من جلسات الجنح والمخالفات..
كنت في مقعد النيابة العامة في تلك المحكمة الصغيرة من محاكم الاقاليم، أستمع في ضجر وفي نصف وعي إلي صوت القاضي ينطلق في رتابة مملة بأحكام الغرامات علي من مارس حرفة سقا بدون رخصة واستعمل الصفائح بدل القرب، وعلي من »تعاطي« مهنة شيال بدائرة المحطة بدون تصريح، وعلي من باع عجلا مذبوحا خارج السلخانة، وعلي من ذبح أنثي جاموس أو بقر لم تستكمل نمو الاربعة القواطع الدائمة، وعلي من أخرج جثة متوفي أو نقلها قبل مضي الميعاد القانوني، وعلي من كسح مرحاضا في غير المواعيد المقررة، وعلي من لم يبلغ عن ظهور الدودة، ومن لم يقلع جذور شجيرات القطن في الميعاد القانوني« وعلي من فتح محلا لعمل العرقسوس والخروب والشعير بدون رخصة، وعلي من.... وعلي من.... وعلي من... وعلي من...
لم أجد وسيلة للتسرية عن نفسي - حتي لا أقع في التثاؤب والنعاس - الا التشاغل بالنظر إلي تلك النقوش العجيبة فوق منصة النيابة التي أمامي.. أنها نقوش عجيبة حقا. ليست من صنع فنانين، ولا من صنع عاشقين، ولا من صنع أطفال عابثين.
لقد كانت من صنع حضرات أصحاب العزة أعضاء النيابة الذين كانوا يجلسون هاهنا في مجلسي هذا منذ سنوات وسنوات.. كان الضجر ولاشك يقتلهم مثلي، ولكنهم استعانوا بمطواة جعلوا يحفرون بها علي خشبة المنصة أسماءهم بالثلث والفارسي والرقعة والنسخ، وتواريخ مرورهم بالحكمة. عرفت منها أسماء اشخاص أصبحت فيما بعد لامعة مرموقة في سلك القضاء العالي. لقد خلدوا أسماءهم علي الخشب بالمطواة علي تلك المنصة العتيقة في المدينة الصغيرة من مدن الاقاليم.
حبذا لو جمعت مثل تلك المنصات وجعلت في متحف لرجال القضاء.. انها خير رمز نابض لمعني الملل أو الاستهتار أو الرغبة في الخلود..
لست أدري لماذا لم أفعل فعلهم؟..
ليس الاستنكار أو الاستهجان قطعا. ولا هو الزهد في الخلود طبعا. ولا حتي عدم وجود المطواة التي ما حملتها قط. لعل السبب هو أني كنت أكسلهم جميعا عن فعل شيء. كان النعاس يدهمني أحيانا ويخدر عضلاتي. وكان التأمل في السجن والوجوه وحركات المحامين وإشارات المتقاضين وأشكال الحاضرين من لابسي الطواقي واللبد والشيلان والمبلغ يرسم لي صورا متحركة بدون شريط ولا تأليف ولا اخراج.. صورا مسلية في بعض الاحيان، ومليئة بالمغازي والمعاني في أحيان أخري. ولم يكن ذلك بالنسبة إلي وحدي، لقد كنت أشعر وألحظ أن كثيرين غيري من الحاضرين في القاعة، الجالسين علي الدكة الخشبية المرصوصة في صفوف، والمخصصة للجمهور قد تناولوا الامور التي تجري أمامهم علي النحو الذي أتناوله أنا، من حيث التسلية والاستمتاع.. أقصد بهؤلاء طبعا فئة الحاضرين المشاهدين ممن لاناقة لهم في الامر ولاجمل. تلك الفئة التي اعتادت أن ترتاد قاعات المحاكم للفرجة ليس الا. ذلك أن الفئة الاخري من المتهمين أو المتقاضين أو الشهود أو الاصدقاء، قلما تتاح لهم هذه المتع الخالصة، فهم مشغولون مهمومون بما تعنيه القضايا بالنسبة إليهم وحدهم. كل بحسب ظروفه، وعلي قدر النتائج والعواقب التي ستسفر عنها قضيته.
هؤلاء المساكين لايتمتعون من الجلسة بمثل ما نتمتع بها نحن الفارغين..
أما القاضي فهو الوحيد في الجلسة الذي لايجد لحظة واحدة يهرش فيها. فيده اليمني تدون بالقلم الاحكام والحيثيات التي تتلاحق، ويده اليسري تقلب أوراق الملفات، وعينه لاتري الا المتهم باعتباره متهما، والشاهد باعتباره شاهدا، والمحامي باعتباره محاميا، ولاشيء غير هذا يراه في الجلسة التي أمامه.. فلنكن اذن علي ثقة في أن منصة القاضي نظيفة كل النظافة من أي خدش أو نقش..
انقضت المخالفات، وبدأت الجنح، وكلها أيضا مضي علي وتيرة واحدة، ولايخرج نوعها عن السرقة البسيطة المألوفة والضرب البسيط وتبديد المحمولات الصغيرة، ونحو ذلك. علي أن هنالك قضية سرقة استرعت انتباهي وأخرجتني من الملل قليلا. انها جلسة سرقة عادية. سرقة دجاجة. انها شيء عادي طبعا. ولكن الطريقة التي اتبعت في السرقة، والمناقشة التي جرت بين القاضي والمتهم كان فيها ما يستحق الاصغاء والمشاهدة.
اعترف المتهم بأنه استخدم خيطا طويلا متينا ربط في طرفه حبة قمح، وجعل يتربص بدجاجة مارة في أحد الأزقة، فما أن عثرت الدجاجة بحبة القمح حتي ابتلعتها، وعندئذ جذب المتهم الخيط، واذا الدجاجة قد صارت في يده بلا مشقة.
نظر القاضي إلي المتهم وقال معقبا:
- يعني اصطدت الفرخة بطعم وشبه سنارة كأنها سمكة؟!..
- وهل صيد السمك حرام ياسعادة القاضي؟!..
- صيد السمك مش حرام.. لكن صيد الفراخ حرام.
- ايش عجب؟!..
- لان السمك في البحر ليس له صاحب.. لكن الفرخة لها صاحب.
- ما كانش لها صاحب.. كانت ماشية تايهة في الحارة.. يعني ياسعادة البك لو لقيت من غير مؤاخذة كلب تايه في الحارة وأخدته أبقي حرامي؟!..
- الكلاب غير الفراخ.
قالها القاضي وهو مشتغل بكتابة حيثيات الحكم الذي سيصدره عما قليل، ولكن المتهم استمر في المناقشة:
- الكلاب والفراخ كلها حيوانات..
- سمعنا عن كلاب ضالة، لكن فراخ ضالة لم يحصل أبدا..
- يعني الكلب يضل والفرخة ما تضلش؟!.. تبقي الفرخة افطن من الكلب؟!..
- يارجل وقت المحكمة ضيق.. انت متهم بسرقة فرخة..
- أنا ياحضرة القاضي ما سرقتهاش. هي التي بلعت قمحتي من جوعها. ولو كان لها صاحب، كان يسيبها في السكك تلقط قمح الناس؟!..
- ظهر لها صاحب.
- وأنا أعرف منين.. كان يعمل لها طوق عليه اسمه في رقبتها زي الكلاب اللي لها أصحاب.. والا أنا غلطان؟!..
- طوق في رقبة الفرخة؟!.. وسلسلة بالمرة؟!..
- يكون احسن..
- انت متهم بالسرقة.
- السرقة لما اكون أخذت حاجة من بيت واحد أو من جيبه.. لكن اللي يرمي حاجة في السكة، كأنه رماها في البحر.. تبقي من نصيب أي واحد فقير زي حالاتي..
- كفاية يارجل كلام فارغ..
الكلام بالعقل ياسعادة القاضي.. أنا رحت للفرخة والا الفرخة جاءت لي؟!.. لو كنت رحت بنفسي للمسروق كنت أكون صحيح حرامي، لكن المسروق حضر بنفسه لحد عندي.. أكون سارقه بأي صفة؟!..
وكان القاضي قد انتهي من تحرير حيثيات دون أن يعطي وزنا لحجج المتهم، وختم الموضوع سريعا بقوله:
- انتهيت من دفاعك؟.. ثلاثة أشهر حبس مع الشغل.. والتفت إلي الحاجب صائحا: غيره..
واقتاد رجل البوليس المتهم، واستأنف القاضي نظر الجنح التالية، وأنا أفكر في حجج سارق الدجاجة، وأري - علي الرغم مما فيها من سفسطة - شيئا من البراعة التي قد تشكك في انطباق وصف السرقة. ولكن الابرع من حجج المتهم طريقته في صيد الدجاجة بدون أن يجري خلفها ويستثير صياحها.
استمر كل شيء في الجلسة بعد ذلك علي الوتيرة السابقة، وجعل النعاس يلعب من جديد بأجفاني، إلي أن تنبهت مرة أخري علي صوت غريب لرجل غريب. كانت جنحة تشرد. قال القاضي للرجل الغريب:
- انت متهم بالتشرد، علي الرغم من انذار البوليس.
فقال الرجل بنبرة استنكار واحتجاج:
- أنا متشرد؟!.. عيب..
وقلب القاضي صفحات الملف الذي أمامه وقال:
- وارد في محضر البوليس انه ليست لك وسيلة مشروعة للتعيش.
فقال الرجل باعتزاز:
- أنا حاوي ياسعادة البك.
- والحاوي يعتبر صاحب صنعة مشروعة؟
- طبعا ياسعادة البك.. هو كل واحد يقدر يكون حاوي؟!.. أنا ضيعت عمري كله فيها.. تعلمتها وأنا صغير ابن عشر سنين. تحب أفرج سعادتك؟..
- تفرجني؟!
- لما تشوف الشغل يابك تحكم انها صنعة ولا كل صنعة.. صنعة شطارة وحداقة!
وقبل أن ينتظر رأي القاضي شمر الحاوي عن كم ساعده الايمن، واقترب من المنصة قائلا: »بسم الله الرحمن الرحيم« ثم مد أصابعه إلي ذقن القاضي فأخرج منه كتكوتا أصفر. واذا الكتكوت يقفز أمام اعيننا المندهشة فوق منصة القاضي. فضج جمهور الحاضرين بأصوات يختلط فيها الاعجاب بالضحك، وعلا التهليل والتكبير: »الله أكبر«. ولم يدر القاضي أيضحك هو أيضا أم يعجب أم يغضب؟!.. ونظر إلي جمهور القاعة فايقن من مظهره سروره وابتهاجه أنه يكاد ينسي أنه في قاعة محكمة، وأن المتعة قد استولت علي لب الجمهور الساذج من القرويين، ممن لم تتح لهم كثيرا مثل هذه الالعاب، فجلسوا مبهورين ناسين أنفسهم، راجين أن تستمر الجلسة علي هذا النحو من الفرجة المجانية. ورأي القاضي أن يضع حدا لهذا السرور الغامر، فآثر الغضب ودق بقلمه دقا شديدا علي المنصة، آمرا بالسكون التام والا أخرج الجمهور من القاعة. فخيم الصمت في الحال علي القاعة. وعادت السحن والوجوه إلي الكآبة بعد الابتهاج. وصوب القاضي نظرة نارية إلي الكتكوت الذي لم يزل يتبختر فوق المنصة غير مصغ إلي الاوامر. وعندئذ فطن الحاوي إلي الموقف فمد يده، وسرعان ما اختفي كتكوته. واستأنفت الجلسة سيرها الجاد الوقور كأن شيئا من هذا لم يحدث.
لا حاجة بي إلي القول اني كنت أول المستمتعين بما حدث في الجلسة، وأول الضاحكين - في كمي طبعا - لمنظر الكتكوت وهو يخرج من ذقن زميلنا القاضي، وأول الآسفين علي انتهاء هذا الفصل المضحك بهذه السرعة. ولكنني أيضا كنت أول الخائفين علي مصير هذا الحاوي المسكين. فان فعلته هذه التي ظنها تؤيد حجته، قد تنقلب وبالا عليه، وتسخط القاضي علي حرفته. ولكن من حسن حظه أن القاضي كان من أولئك الطيبين الاخيار، الذين لايسمحون لانفعالهم الطاريء بالطغيان علي شعور العدالة. فسرعان ما عاد الهدوء والصفاء إلي وجه القاضي ونفسه، وبدأ يناقش القضية بروح الراغب في الوصول إلي الحقيقة والحق. والتفت إلي الحاوي وقال له:
- اقتنعنا أنك بارع. وأن براعتك في خفة اليد.. لكن هل كل خفة يد تعتبر صنعة شريفة؟.. النشال أيضا بارع في خفة اليد.
فقلت:
- البراعة شرط من شروط الفن. ولكن هل البراعة وحدها يمكن أن تصنع فنانا؟!..
فقال القاضي:
- تقصد ان ليس كل بارع في عمله يعتبر فنانا؟..
قلت:
- ان الفن هو الشيء الزائد علي البراعة. والفنان هو الذي يبقي بعد البراعة.
فسألني القاضي السؤال الطبيعي الذي يقتضيه التسلسل المنطقي المعتاد في مجال التحقيق القضائي:
- وما هو هذا الشيء الزائد أو الباقي؟
فقلت وأنا أحاول البحث عن أبسط الالفاظ وأيسر الصور التي يمكن أن توضح فكرتي:
- لست أدري كيف أقول.. ربما كان هو الاشعاع الخاص الذي له القدرة علي النفوذ خلال طبقات الاجيال.
فبدا علي وجه القاضي أنه لم يفهم. وله الحق فاستأنفت مفسرا:
- ما هو الفرق بين خاتم من الزجاج وخاتم من الماس، لهما نفس البراعة في الصياغة؟.. الفرق ولاشك هو في قوة اشعاع الماس.
فارتاح القاضي قليلا لهذا التشبيه. وقال:
- معقول.. ولكن هذا الحاوي؟..
فاستطردت في الحال، وقد شجعني حسن تقبل القاضي للتشبيه علي أن أتوسع فيه، فقلت:
- ثم ان لاشعاع الماس درجات أيضا وأنواعا متعددة.
فهناك مثلا الوان الماس، بعضها ناصع البياض، والاخر مائل إلي الصفرة، وهكذا.. وعلي اختلاف الالوان والدرجات تختلف قوة الاشعاع، وقوة التأثير. كذلك الحال في الذهب والنحاس. هنالك خاتم من ذهب وآخر من نحاس، قد يصنعهما صائغ واحد بعين الشكل وعين البراعة، ولكن النحاس يصدأ بعد وقت، والذهب يبقي. والذهب نفسه طبقات ودرجات.. ذهب عشرة قراريط، وذهب عشرين أو أربعة وعشرين قيراطا..
وهنا التفت المتهم الي القاضي قائلا:
- أنا قلت اني جواهرجي.. اني صايغ؟.. أنا قلت اني حاوي ياسعادة البك!..
فقال له القاضي:
- اصبر!.. اصبر!..
وكان في نبرة القاضي ما ينم علي أنه يريد أن يقول: »انتظر معي!.. انتظر!.. حتي نري آخرتها!..« ونظر إلي نظرة من يدعوني الي استكمال حديثي وقال في شيء من الضيق المغلف بالادب:
- تفضل!..
فاستأنفت أشرح:
- في الواقع ان الفوارق بين الماس والزجاج والذهب والنحاس هي فوارق في الاشعاع والزمن.. والامر كذلك في مجال الفن.. فهناك عمل فني بارع جدا ولكن اشعاعه ضعيف. والاشعاع غير البريق.. فقد يكون له بريق خاطف حقا، كبريق النحاس المجلو، ولكنه يصدأ بعد حين. وتاريخ الفن يدلنا علي أعمال فنية كانت غاية في البراعة والبريق في عصرها، ثم صدأت وانطفأت بعد ذلك انطفاءة الي الابد، كما يدلنا علي أعمال فنية أخري لم يكن لها مثل تلك البراعة والجاذبية واللمعة في وقتها، ولكنها استطاعت ان تحتفظ بما لها من اشعاع داخلي علي مدي العصور التالية. ان البريق وحده يخطف البصر، ولكنه لاينفذ الي الاعمال. أما الاشعاع فقد لايخطف البصر كثيرا، ولكنه ينفذ الي اعماق النفس والي أبعاد الزمن: أي طبقات الاجيال.. »الزمن« هو البعد الرابع عند »اينشتين«، ولكنه ربما كان البعد الأول في الفن الحقيقي.. لانه هو المقياس الملموس لقيمة الفن.. وكما ان اشعاع »الراديوم« يؤثر في خلايا الجسم كذلك قوة الاشعاع في عمل فني اصيل تؤثر في خلايا المجتمع، جيلا بعد جيل، تعلمه وتهذبه وتثقفه وتطوره وتنير له سبل حياة تتجدد باستمرار.. ان البراعة الفنية في ذاتها عقيم لا تولد شيئا ولا تقوم إلا بذاتها. ان اهمية الاشعاع الفني هي انه يحدث طاقة تتولد منها طاقات يولد بعضها بعضا.. الي ما لانهاية. ان ماضي الفن يعج بالبراعات الفنية الباهرة التي نجحت النجاح الساحق في وقتها، ولكن التاريخ لم يحتفظ لنا منها بشيء يذكر، ولم يحفل بأن ينقلها الينا، لماذا؟.. لان باب التاريخ من بللور سميك لا ينفذ منه مجرد تصفيق النجاح، ولكن الذي ينفذ منه شعاع الجوهر الذي ينفع الناس في كل عصر ويولد طاقات.. ذاكرة التاريخ الفني لاتشحن إلا بالاشعاعات والطاقات، لانها هي التي تدفع المحركات التي تسير بها الانسانية..
وأنساني التدفق والتحمس نفسي، فلم أفطن الي أن مثل هذا الكلام ليس مما يقال في جلسة كهذه، فقد كان وقع هذا الكلام غريبا علي الحاضرين جميعا. فقد كنت في نظرهم كمن يرطن رطانة لا عهد لهم بها. واستوي في ذلك الجميع، من القاضي الي المتهم. وقد صمتوا جميعا كأن علي رؤوسهم الطير. لا هم مستطيعون استيضاحي فيما أنا أهرف به، خوفا من أن يجيء التوضيح أسوأ مما سمعوه، ولا هم قد فهموا شيئا مما قلت حتي يقيموا علي أساسه معني من المعاني. كل ما بدا علي وجه المتهم هو أنه فهم أني اترافع ضده.. ولكنه عاجز عن أن يمسك بخيط ضئيل من أقوالي يتيح له دفع التهمة أو دحضها.. وأسلم أمره الي الله وسكن.. أما القاضي فقد جعل يعبث بالقلم بين أصابعه وهو مطرق يفكر فيما ينبغي له أن يحكم به، وهو لم يخرج من كلامي الطويل بشيء مفهوم.. وطالت به الحيرة، واستبد به التردد. وتململ في كرسيه من الضيق.. وأخيرا رفع رأسه بقوة وصاح في المتهم:
- روح يارجل.. براءة!..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.