لا شك أننا نعيش مرحلة ضعيفة من مراحل الأدب العربي، ومن سمات هذا الضعف، ليس الإبداع وحده، بل اختفاء الموثقين وجامعي التراث الأدبي العربي، وقد كان آخر موثِّق صحفي عربي هو "محمد حسنين هيكل" بصفته عملاق العماليق العرب في هذا المجال، ولم يبق في هذه الأيام سوى بعض الباحثين والموثقين المتختصين بتوثيق حياة الأمراء والسلاطين، وأصحاب رؤوس الأموال، الذين يكلفون الكاتب بالكتابة، مقابل فتات من النقود تصرف لهم من الجهات المانحة، مع العلم أنني لا أعمم، بل أصف مرحلة ضعف عام. ولكن يبدو أن الدكتور نضال الشمالي قد نجا من هذا اليمّ؛ إذ أصدر مؤخرًا في عالم التوثيق مجلد "الأعمال الكاملة.. بدر عبدالحق. وبدر عبدالحق، الذي أصدر ثلاث مجموعات قصصية، وعمل صحفيًا قياديًا في الخليج، إذ أنه أسس جريدة "الوحدة" الإماراتية هناك، وعمل سكرتير تحرير لها، وتم ترحيله من هناك إلى باريس عام 1979 بسبب كتابة مقال سياسي. ومن هناك عمل في عدة صحف ومجلات عربية ودولية، وتبوأ عدة مواقع إدارية رئيسة في نقابة الصحفيين الأردنيين ورابطة الكتاب الأردنيين، وحصل على جوائز عديدة، وحيثما حل كان نجمًا صحفيًا وأدبيًا ومفكرًا لامعًا ومحبوبًا. كان قد التقى خلال عمله بشخصيات سياسية وثقافية مهمة منهم: الملك حسين، شاه إيران، أنديرا غاندي، صدام حسين، ياسر عرفات، الشيخ زايد آل نهيان، الشيخ سلطان القاسمي، الشيخ راشد آل مكتوم، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، القس جاكسون، محمد حسنين هيكل، طارق عزيز، ناصر الدين النشاشيبي، محمود درويش، صلاح عبد الصبور، والروائي السوداني الطيب صالح..(صفحة 10 من المجلد الأعمال الكاملة). مشهور بابتسامته الدائمة مع الجميع، وقلبه الذي كان ينبض بالمحبة، وبوطنيته التي ندر من يتسلح قلمه بها، وبكتابته المدهشة الممتعة المثقِّفة المُعلِّمة لمن بعده، والتي أدى أحدها بعنوان "حكاية الولد الفصيح" إلى فصله من سكرتارية جريدة الرأي الأردنية. وأشهد أنني أحد الذين تأثروا بأدب ومقالات بدر عبد الحق الذي كنت أحب دفء علاقته معي ومع كل زملائه الآخرين. ولكن مرض الزهايمر هاجمه بشراسة، فقضى عليه في وقت مبكر من عمره، إذ ولد عام 1945، وأصدر الزهايمر قراره بإيقاف بدر عن الكتابة تمامًا عام 1994. وبوفاته عام 2008. لا أعرف من هو المحظوظ، د.نضال الشمالي، في جمعه وتدقيقه وتقديمه للأعمال الكاملة للكاتب العربي الأردني المبدع بدر عبدالحق، أم بدر الذي وجد بعد وفاته من يرمم أعماله ويجمعها في مجلد يضم حوالي تسعمائة صفحة. لا شك أن أي كاتب يكتب بهدف تحقيق ذاته، وتوصيل رسالته إلى جمهور قرائه، والتأثير في مجتمعه بما يراه. وفي النهاية هو بحاجة لمن يخلده. قل إن إقامة التماثيل للفنانين والمبدعين الكبار محارَبةٌ فنونها في هذا العصر النزق المتوتر دينيًا، فلا يبقى أمام الكاتب المبدع سوى جمع كتاباته في مجلد ضخم بهدف دراسته من قبل الأكاديميين والباحثين والقراء المثقفين. وهذا ما تبرع به الدكتور نضال الشمالي، وصرف له جهدًا من طاقاته، ووقتًا من عمره لجمع مواد نوعية تستحق التوثيق. يقول د.نضال الشمالي في خاتمة مجلده الضخم "الأعمال الكاملة- بدر عبد الحق- القصة المقالة": "لم يستطع بدر عبد الحق احتمال تسارع الأحداث في المنطقة، ولا تخاذل المتخاذلين، ولا تكالب المتناقضات؛ إذ كان صريحًا وواضحًا وملتزمًا بكل ما كتب وعبّر وصرح". وفي عجالة هذا المقال لا أستطيع أن أوفي بدر عبدالحق حقه، ولا الدكتور الباحث نضال الشمالي تقديره؛ إذ أنه يندر وجود هكذا باحثين أدبيين في عصر انطفاء الإبداع الأدبي العربي، وانتهاء عصر العمالقة الكبار، عصر طه حسين، وعباس العقاد، وإحسان عباس، ومحمود أمين العالم ، ودريني خشبة، وغيرهم وغيرهم كثير. والولوج في عصر يتراكض فيه كل كاتب لقضاء حاجاته اليومية المستعجلة. ولكن نضال الشمالي قام بالواجب ولم يترك للأجانب جمع بعض تراثنا بعد أن يعيدوا تبويبه كما يشاؤون، إذ لفتني ذات مرّة وأنا أقرأ ديوان الفرزدق، أن أول من نشره عام 1870 هو الفرنسي بوشير، والألماني هيل، وذلك بعد أن جمعه ابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب البصري. وأن الذي جمع "ألف ليلة وليلة" وترجمها للفرنسية ونشرها هو المستشرق الفرنسي أنطوان غالان عام 1704م بعد أن أمعن العرب في تسفيهها، ومحاولات متعددة لحرقها. قل إن منجز بدر عبد الحق لن يصل إلى مراتب من ذكرت، ولكنني أقول ذلك لشعوري بتقصير العرب بحق أنفسهم في الوقت الذي يولون فيه المبدعين الأجانب الاهتمام العظيم. وهذا المقال ليس سوى إشارة تفتح النفس للبحث عن مجلد "الأعمال الكاملة.. بدر عبد الحق" وقراءته لتحقيق المتعة والمعرفة، هذا الكتاب الذي يستحق القراءة والتمعن والتبيُّن. غلاف الكتاب