وفاء فراج تعبيرا عن الغضب أم يأس اجتماعى انتشرت ظاهرة الانتحار للشباب المصرى، ففى السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن، لم نكن نقرأ فى الصحف أو نسمع فى وسائل الإعلام عن حالات لانتحار شباب، كما نسمع ونشاهد ونقرأ اليوم بشكل يومى عن عدد ليس بالقليل من شباب وفتيات فى أجمل سنوات عمرهم، اختاروا أن ينهوا حياتهم بشكل مأسوى ودرامى ليتركوا رسالة غضب تعكس ما يجرى فى المجتمع من مشاكل وأزمات، فاليوم انتحرت فتاة من فوق كوبرى قصر النيل هربا من متحرش، وبالأمس انتحر شاب يعانى من البطالة شانقا نفسه خارج غرفة منزله، وآخر شنق نفسه من أعلى لافتة إعلانية فى الطريق العام وغيره حرق نفسه وغيرها من الأمثلة الكثيرة . ولعل أشهر نموذج لانتحار لشاب مصرى تعبيرا عن غضبه من المجتمع كان انتحار عبدالحميد شتا.. ذلك الشاب الفقير ابن الفلاح البسيط الأول على دفعته فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والذى حلم بالعمل بالسلك الدبلوماسى. لكن تم رفضه بحجة أنه غير لائق اجتماعيا، هذا الرفض الذى خرج على إثره ليلقى بنفسه من أعلى كوبرى قصر النيل فى أبلغ وأقسى رسالة احتجاج على وضع اجتماعى ظالم . وعلى الرغم أن مصر والعالم العربى لم يكن أبدا من ثقافتهم الانتحار نظرا لعوامل التدين والروابط الأسرية ولم يكن ينتهج أبناؤه رفاهية الانتحار، كما فى الدول الإسكندافية والمتقدمة مثل دول كالنمسا والنرويج وهولندا وفلندا وغيرهم، فإن عوامل الغضب السياسى والاجتماعى باتوا السبب الأول لاتجاه الشباب المصرى والعربى على الأقدام على الانتحار، حيث كشف تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية عن أن الانتحار أضحى مشكلة خطيرة على الصحة العامة فى جميع أنحاء العالم، وأنه فى كل عام، يقضى أكثر من 800 ألف شخص نحبهم منتحرين، وهو ما يعنى حالة انتحار كل 40 ثانية تقريباً، بمعنى أنه فى كل عام، يزهق الانتحار أرواحاً أكثر من ضحايا جرائم القتل والحروب معاً. وكشف التقرير بالإحصائيات أن معدلات الانتحار مرتفعة نسبياً بين فئات عمرية محددة فى الإقليم الشرق أوسطى (مصر و15 دولة عربية) خصوصا بين الشباب من الرجال والنساء الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة ، كما تشير دراسات اجتماعية إلى أن العنوسة والبطالة هما أبرز أسباب الانتحار لدى الشباب المصرى بجانب قصص الحب الفاشل بين المراهقين. وجاءت دراسة صادرة من المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، لتؤكد أن هناك زيادة فى أعداد المنتحرين تم رصدها بداية من عام 2009 وإلى اليوم والتى تتناقض مع تدين المصريين بشكل عام ودرايتهم واقتناعهم بأن إزهاق الروح حرام شرعا، وتشير الدراسة إلى أنه بلغت حالات الانتحار فى عام واحد نحو 104 آلاف حالة تمكن 5 آلاف منهم من التخلص من حياتهم، وأن الفئة العمرية الأكثر إقبالا على الانتحار، هى ما بين 25 و40 عاما حيث تمثل النسبة الأكبر لانتحار الرجال، وأن معظم حالات الانتحار يرجع إلى الظروف الاقتصادية وعدم القدرة على الإنفاق على الأسرة. وذكرت الدراسة إلى أن المرتبة الثالثة فى إحصائية المنتحرين، جاءت ممثلة فى الفئة العمرية من 7 إلى 15 عاما وكانت البنات فى هذه المرحلة ثلاثة أمثال الأولاد المنتحرين. وجاءت السنوات الأخيرة فى عمر مصر والدول العربية لتعكس واقعا جديدا من خلال انتحار الشباب رفضا للوضع السياسى والاجتماعى والاقتصادى للدول، والذى جسدته حالة انتحار الشاب التونسى أواخر عام 2010 (محمد بو عزيزى) الذى حرق نفسه رفضا لإهانة ضابط شرطة، فكانت الشرارة التى أشعلت غضب ملايين الشباب فى دولة تونس، ومن ثم بقية الدول لتبدأ مرحلة ثورات بدأت هناك، واستكملت خطواتها فى مصر، لدرجة أن انتحار بو عزيزى) الدرامى تكرر أكثر من مرة فى مصر بعدها فعلى سبيل المثال فى يوم 21من يناير 2011 قبيل ثورة 25 يناير مباشرا وقعت 7 محاولات للانتحار توفى منها 4 حالات، ونجحت قوات الأمن فى منع 3 حالات منهم قاموا بحرق أنفسهم أمام مجلس الشعب وتتالت حوادث الانتحار فى مصر طوال الأيام التالية وفى يوم 24 من يناير 2011 شهد 4 محاولات انتحار، فكان سبب أكبر لغضب الشباب وخروجهم للمطالبة بالتغيير السياسى والاجتماعى والاقتصادى الأفضل للدولة . وعن رأى علم الاجتماع فى تلك الظاهرة التى باتت منتشرة فى كل ربوع مصر وفى جميع طبقات مجتمعها تقول الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الزقازيق: إن ظاهرة الانتحار ليست بجديدة، فقد تم اكتشافها فى القرن الثامن عشر على يد عالم الاجتماع "دوركين" والانتحار نوعان انتحار فردى، وهو الشخص الذى ينتحر لإنهاء حياته بسبب مشاكله أما النوع الثانى، وهو وطنى فهو الشخص الذى يضحى بحياته للوطن، مؤكدة أنه من المستحيل أن ينتحر المتدين والمتزوج والذى لديه أطفال، لأن الأول يفهم معنى الانتحار وأنه حرام شرعا، والثانى لديه مسئولية لا يستطيع التخلى عنها والثالث يحتمل كل ظروف الحياة من أجل أولاده وتضيف (زكريا ) قائلة: إن ظواهر الانتحار على عكس المفهوم أنها تنتشر فى المجتمعات الفقيرة بسبب ما تمر به من مشاكل اجتماعية واقتصادية، لكن هذا خطأ لأن ظواهر الانتحار تنتشر أكثر فى المجتمعات الغنية، لأن هؤلاء لديهم كل شيء يحتاجونه، فيملون من الحياة وينهون حياتهم والنساء هن أكثر ابتعادا عن فكرة الانتحار فهن قادرات على تحمل الظروف السيئة أكثر من الرجال، فالمرأة تفضفض عن مشاكلها وعن ضغوطها النفسية، لكن الرجل لايستطيع التحدث عن مشاكله وضغوطاته، لأن مجتمعنا يحاكم الرجل إن فضفض أو حتى بكى من كثرة الضغوط لأنه رجل، ومن المستحيل أن يضعف مع أن كل هذا ليس ضعفا، ولكنه أفضل من أن يصل به الحال للانتحار. وتستكمل أستاذ علم الاجتماع: إن ظاهرة الانتحار خصوصا بين أوساط الشباب لتترك رسالة احتجاج أصبحت ظاهرة، ويظهر هذا من خلال اختيار إعلان الشاب عن انتحاره كمن يعلق نفسه خارج شباك منزله أو يشنق نفسه فى لوحة إعلانات أو القفز فى النيل أمام الناس كلها يريد بها المنتحر ترك رسالة احتجاج للمجتمع، لإحساسه بالظلم والقهر واليأس فى التغيير للأفضل، مؤكدة أن الانتحار ليس بحل لأى مشكلة بل هو أمر يزيد الوضع تعقيداً وسوءاً ويصبح كالموضة بين الشباب اليأس لينهجوا نفس النهج . أما الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر فيقول: إن الانتحار هو نتيجة للاكتئاب والانتحار هو تفكير سلبى، والذى يقدم على الانتحار يكون شخصا سلبيا جدا وفاقدا للأمل وهو تفكير شخص محبط وليس للفقر يد فى ظاهرة الانتحار، فهناك أناس أغنياء ويفكرون فى الانتحار وهى فكرة تأتى لمن يشعر أنه ليس هناك حلول لمشاكله، لكنه ليس حلا مناسبا لحل المشاكل، فإن كل ما يفعله هو الاعتراض على حياته بشكل أو بآخر، وللمرأة أساليب مختلفة عن الرجال، فالمرأة ككائن رقيق تستخدم أساليب غير متعبة وفى نفس الوقت سريعة مثل الأقراص المنومة وسم الفئران، لكن الرجل يلجأ للأساليب العنيفة مثل الشنق وضرب نفسه بالرصاص، وما نصل إليه فى النهاية أن من يصل لمرحلة الإحباط والاكتئاب عليه أن يعيد التفكير فى مشاكله مرة أخرى فهى لها حلول وليس من ضمنها الانتحار، مشيرا إلى أنه فى الآونة الأخيرة أصبح تعبيرا عن غضب الشباب الذى لم يجد من يسمعه أو يشعر بوجوده فيدخل الشباب فى حالة اكتئاب ورفض للواقع يؤدى فى النهاية للانتحار، لذلك يحظر المهدي المجتمع والدولة من عدم الالتفات للشباب والنظر فى تحقيق مطالبهم التى طالبوا فيها فى ثورتي 25 يناير و30 يونيو، حتى لا نجد شباب الثورة عرضة للمرض النفسى، خصوصا بعد أن سجن واعتقل وخون من أصدقائهم وأنفسهم الكثير فلجأوا فى النهاية إلى هذا الحل السلبى.