«اقرأ» هكذا بدأ الأمر الإلهي، فى محكم التنزيل، مثلما كانت كلمة عيسى ابن الإنسان فى الإنجيل: «فى البدء كان الكلمة» لكننا فرطنا فى هذا وذاك، ولم نعد نقرأ، وكأن القراءة باتت موضوعا، ينتمى إلى حالة من حالات الرفاهية، وكأن أسوأ سؤال يمكن أن تواجهه هو: ما هوايتك؟ وتكون الإجابة: القراءة، القراءة ليست هواية، إنها ذروة لحظات بناء الإنسان، ولا داعى لتكرار ما قيل إن الأهم من بناء المصانع هو بناء الإنسان، لا داعى لتكرار أن وزير دفاع الدولة العبرية «موشى دايان» سئل ذات مرة: لماذا جاءت خطط حرب 67 هى بالضبط ما جرى فى حرب السويس فى 56؟ وكانت إجابته: إن العرب لا يقرأون. واليوم يمر العرب بظروف قاسية، ولحظة تحولات، مخاضها عسير، فلا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، تعطلت المطابع عن الدوران فى غير بلد عربي، وأجهضت مشروعات دول تدعو للقراءة (مصر) ونهضت تجارب أخرى (الإمارات) كانت طوابير الشباب على إصدارات مكتبة الأسرة تدعو للفرح، الآن توقف المشروع، وتراجعت معدلات القراءة، فلا بأس من أن نتذكر ما جرى فى إسبانيا زمن الحرب الأهلية، وهزيمة الجمهوريين على يد قوات الديكتاتور فرانكو. كانت تلك القوات تحاصر أحد المواقع، التى يتحصن بها الجمهوريون، وكان الرصاص ينهال من جميع الاتجاهات، إلى أن خيم الصمت والهدوء الحذر على المكان، وتقدمت قوات فرانكو من الموقع، وفوجئ الجنود بأن رجلا واحدا، هو الذى كان يطلق كل هذا الكم من الرصاص. سأله قائد المجموعة المهاجمة: عم كنت تدافع يا رجل؟ أنت واحد ونحن كثر، ولا شك أنك كنت ستنهزم فى النهاية، قال الرجل: كنت أدافع عن هذين، وأخرج من جيبه كتابا ورغيف خبز، بالتأكيد نحن نحتاج الآن، أكثر من غيرنا، إلى ترديد إجابة هذا الرجل الإسباني، وها نحن نفعلها، ونأتى إليكم ب “سور الأزبكية”!
ثلاثية الشر فى مصر «الاحتكار، مافيا التجار، صندوق النقد الدولى.. ثلاثية الشر في مصر» عنوان الكتاب الذي أصدره حمدي الجمل، عن مؤسسة بتانة الثقافية، حيث يذهب المؤلف إلى لب المشكلة مباشرة، ولا يتعامل مع النظريات الاقتصادية في ذاتها، ولا يقيم لها اعتبارا، بل يتعامل مع الاقتصاد على أنه إدارة موارد الدولة بشكل يخدم مصلحة مواطنيها، بصرف النظر عما تنتهجه الدولة من نظريات، فهدف الدولة والنظريات الاقتصادية قبلها خدمة المواطن، إذا تحققت هذه الخدمة وشعر المواطن بالرضا تكون الدولة ناجحة، والنظرية موفقة، وإذا حدث العكس يكون كل شيء بلا معنى. الدولة، أى دولة، كما يرى حمدى الجمل، تأخذ جزءًا من حرية المواطن فى مقابل أن تعمل على تحقيق الرفاه الاقتصادي، اعتمادا على نظريات اقتصادية عدة تستخدمها أداة ووسيلة للحكم، أى أن النظريات الاقتصادية ليست لها قيمة فى حد ذاتها، بل تستمد هذه النظرية قيمتها عندما تنجح الدولة فى استخدامها لخلق حالة من الرفاه الاقتصادي، وصولا إلى مفهوم العدالة الاجتماعية. الكتاب يحتوى على سبعة وعشرين فصلا، وقدم له الكاتب الصحفى مهدى مصطفى، وتدور كلها حول الانهيارات المتوالية للوضع الاقتصادى فى مصر، بدءا من تآكل الطبقة المتوسطة، والأسباب التى أدت إلى ذلك، والتضخم جراء تعليمات صندوق النقد الدولي، الذى يشكل أهم ضلع فى مثلث الشر للإضرار بمصر اقتصادا ومجتمعًا، وهو يشكل مع مافيا التجار والاحتكارات أوجه الكارثة فى مصر، ولا حل للأزمات الاقتصادية - كما يرى مهدى مصطفى فى مقدمته - إلا باستعادة الهوية القومية، ثم الخروج من عالم القروض وولاية صندوق النقد الدولى والبنك الدولى والهروب من ضحالة الرأسمالية والعودة إلى التصنيع والإنتاج والابتكار ونشر العلم والتعليم، وضرب حالة السعار الاستهلاكى وخلع الوسطاء والوكلاء للشركات العابرة للقارات. فى فصل «رأسمال مصر تحت المقصلة» يرصد حمدى الجمل الآليات الخبيثة التى ينتهجها صندوق النقد الدولى لإيقاع الدول فى شباكه ويستشهد على ذلك بمهاتير محمد عندما سئل كيف نهضت ببلدك ماليزيا؟ فقال: خالفت توصيات صندوق النقد الدولي، وفعلت عكس ما طلبه من إجراءات، وفى المقابل يذكّر حمدى الجمل بما جرى من انهيارات فى الأرجنتين عام 1996، بسبب تنفيذ توصيات صندوق النقد، وعندما تراجعت مصر عن الاقتراض بعد أزمة الأرجنتين غير الصندوق بعض إجراءاته، ليجبر مصر على الاقتراض. لا يكتفى الجمل بالرصد بل يضع روشتة للعلاج على رأسها كسر الاحتكار ومحاسبته تتطلب إرادة سياسية صادقة وجادة، وبعدها يتطلب الأمر وضع رؤية طويلة لكسر هذا الاحتكار ووضع تشريعات تجرمه، وأن هناك حصة فى السوق لا ينبغى أن يصل إليها أحد ولتكن 15 % من حجم السوق، مع تغليظ العقوبة على المحتكر لتصل إلى السجن والغرامة ومصادرة السلعة موضوع الاحتكار، كما هو متبع فى كل دول العالم التى تأخذ بنظام السوق الحر، وإصدار قرار بإعادة ما تبقى من شركات القطاع العام إلى العودة بقوة إلى العمل بالسوق. يذهب حمدى الجمل فى كتابه إلى معالجة أوجه الاقتصاد فى مصر مثل قناة السويس ومفاجآت التاريخ والجغرافيا الجديدة، لمصر ومخزن مصر المفقود والعلاقات الاقتصادية بين مصر وإيطاليا واكتشافات الغاز الجديدة وفى كل ذلك لا يكتفى بتحديد المشكلة بل يقدم الحلول، ويقترح سبل المعالجة وصولا إلى اقتصاد متوازن، فى دولة عادلة، ترعى جميع شرائح المجتمع، دون أن تتغول طبقة على أخرى.
«مسجد ميونيخ» وجماعة الإخوان والنازى والمخابرات الأمريكية فى شتاء 2003 كان الكاتب “إين جونسون” يتجول بين صفوف الكتب فى إحدى مكتبات لندن، وكانت تبيع كتبا عن “الإسلام الراديكالي” ومكدسة بلافتات وملصقات تدعو لسقوط المجتمعات الحرة، فضلا على انطوائها على تجسيد للمصاعب والمشاكل التى تواجه المجتمعات المسلمة فى أوروبا، وأخذ الكاتب يتجول فى المكتبة فاسترعى انتباهه خريطة غريبة، لونت بلدانها وفقا لنسبة المسلمين بها، فالأخضر للبلدان ذات الأغلبية المسلمة، أما الأخضر الخافت وكذا الأصفر والبيج فللبلدان الأقل كثافة فى أعداد المسلمين بها، أما حواف الخريطة فترصعها تصاوير للمساجد الأكثر شهرة، ما يعنينا منها هو “المركز الإسلامى فى ميونيخ” وهو موضوع كتاب المؤلف الصادرة ترجمته العربية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وعنوانه “مسجد فى ميونيخ” ويعطيه المترجم أحمد جمال أبو الليل عنوانا فرعيا دالا هو “النازيون.. وكالة الاستخبارات المركزية.. وبزوغ نجم الإخوان المسلمين فى الغرب”. يقول المؤلف: “إننى أكتب فى الدين منذ سنوات ليست بالقليلة، كذا فقد أمضيت سنوات فى ألمانيا، ولقد علمت بأمر هذا المسجد كمقر لواحدة من المنظمات الإسلامية الصغيرة هناك، إلا أنه يصعب تخيل أن يدرج المسجد مع تلك المساجد الجليلة المهيبة كتفا بكتف، إذ ليست ميونيخ مركزا للإسلام وليس المسجد هو الأكبر فى ألمانيا ناهيك عن أوروبا بأسرها”. بعد أسابيع كان المؤلف هناك، أمام المسجد يسأل حارسه أسئلة بسيطة، لم تكن لديه إجابات عنها، ما قاد المؤلف إلى رحلة بحثية، أخذته إلى أماكن لم تكن فى حسبانه، والتقى مسلمين، ممن هاجروا إلى أوروبا خلال ستينيات القرن العشرين. عاد الكاتب إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ونقب فى خفايا مواد أرشيفية أمريكية وأوروبية، وجمع الوثائق وشتات الوقائع، ليصل إلى قصة “أناس ذوى منزلة وشأن أرسيت على أيديهم الدعائم الأيديولوجية للمسجد، ليعقب ذلك حرب اشتعل فتيلها واستعر أوارها فيما بينهم حول مدى أحقية فصيل دون آخر فى الاستئثار بالمسجد والتحكم فيه”، جاء الواقع منافيا لتوقعات الكاتب فلم يكن لمؤسسى مسجد ميونيخ ما يربطهم بكتلة المهاجرين إلا لماما، وخلص المؤلف إلى قيام مجموعات ثلاث بدعم المسجد، وتوطيد أركانه، بغية بلوغ مآرب بعينها، فكانت طائفة تضم مفكرين نازيين عمدوا إلى التخطيط لاستخدام “الإسلام” سلاحا سياسيا إبان الحرب الكونية الثانية، ليستأنفوا الاستراتيجية ذاتها خلال سنى الحرب الباردة، وطائفة كان سوادها أفرادا من وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، شرعوا فى انتهاج المنحى النازى ذاته، والإفادة منه أملا فى استخدام “الإسلام” لمحاربة الشيوعية، وكسر شوكتها، وطائفة ثالثة كان فى قوامها حفنة من إسلامويين راديكاليين، رأوا فى المسجد موطئ قدم لهم فى الغرب، لم يكن هدف الطوائف الثلاث إنشاء دار عبادة، بقدر ما كان إرساء قاعدة لأنشطة سياسية، قد لا تخلو من عنف. يتعرض المؤلف لنشاط المسجد، بداية من تأسيس تنظيم القاعدة لمحاربة السوفييت فى أفغانستان، ولكن كل التكتيكات أتت بنتائج عكسية، فالحرب التى خاضها مسلمو ميونيخ، تمخضت عنها أيديولوجية ضد الغرب، واكتوت أمريكا بنيران الإرهاب فى أحداث سبتمبر 2001 ويوضح المؤلف أن التنظيم الأبرز فى مسجد ميونيخ، هو جماعة الإخوان “تلك الجماعة التى جعلت المسجد خلية سياسية لخدمة أهدافها، وفى الأغلب الأعم فقد تولد الجانب الأكبر من أنشطة جماعة الإخوان، فى الغرب، جراء ممارسات حفنة قليلة من أناس، عهدت إليهم مهمة إدارة المسجد، لقد كانت ميونيخ نقطة انطلاق تلك الجماعة وتوغلها، فى داخل المجتمعات الغربية. يطالب المؤلف فى كتابه الولايات المتحدة بأن تفرج عن الوثائق الخاصة بهذه الجماعات، للوصول إلى رؤية شاملة، بشأن تعامل الولايات المتحدة مع الجماعات الإسلاموية، وتعاطيها مع شؤون تلك التنظيمات، مثلما استصدرت قرارا بالإفراج عن الملفات، التى تخص النازيين، الذين نجوا من الحرب الكونية الثانية.
ست ترجمات لرواية واحدة تعتبر رواية “آلام الشاب فرتر” لجوته أول رواية معاصرة، ولأنها بهذا الشكل تستولى على قلوبنا، كما لو أنها تعاش اليوم، كما لو أنها كتبت اليوم، نعم هذا هو سرها، بأنها تجعل بشرا من أزمنتنا الحاضرة، ليسوا بخصال فرتر، يشعرون بأنفسهم كما لو كانوا فى قلب الرواية، لأن الأمر كما هو مع العنف القديم، يستعاد هنا ما هو إنساني، ويعاد على الحياة متوجا بالحب، هذا الحب يقود إلى الموت، لأنه غير مشروط كيف يحدث ذلك، هذا ما تصفه الرواية. أحدث ترجمات “آلام الشاب فرتر” يقدمها لنا “نجم والي” عن الألمانية مباشرة، وهى الترجمة الأولى عن الأصل، وقد أصدرتها دار صفصافة للنشر والتوزيع، وحاول “والي” رصد الترجمات السابقة للرواية، مع تسجيل ملاحظاته عليها، فقد ترجمت الرواية ست مرات، وكما يقول: “لا حاجة للبحث طويلا فى سيرة المترجمين، إذا كانوا أتقنوا الألمانية أم لا، لا يهم أن بعضهم سيدعى أنه ترجم أعماله عن الألمانية، كما فى حالة عبد الرحمن بدوي، إذ يكفى إلقاء نظرة على عنوان الكتاب، أو على الشكل الذى نقل فيه اسم جوتة، حتى نعرف أن الترجمة كان من الممكن أن تأتى عن أية لغة، باستثناء اللغة الألمانية، فهو مرة جيته عند أحمد حسن الزيات، أو جان فلفجنج كما عند نخلة ورد، فيما عنوان الكتاب يصبح مرة “أحزان فرتر” كما عند أحمد رياض (القاهرة مطبعة التقدم 1919) أو “فرتر مأساة غرامية” (ترجمة عمر عبد العزيز أمين الدار القومية للطباعة والنشر 1961) برغم أن الطبعة الأولى من الكتاب التى صدرت عام 1927 لنفس المترجم حملت عنوان “آلام فرتر”. إذن نحن أمام ست ترجمات، أشهرها ترجمة الزيات، التى نقلها عن الفرنسية، وقدم لها طه حسين، وفى الطريق يتحدث المترجم عن محمد لطفى المنفلوطى أكثر من مرة، وصحة الاسم مصطفى لطفى المنفلوطي، وكان تركيز المترجم على ترجمة الزيات بما أنها الأشهر، فهو تبعا لرأيه: «يحذف ويضيف على هواه».
الجائزة الكبرى.. معايير «بوب ديلان» المزدوجة فى رؤية المضطهدين فى نهاية عام 2016، وفى الموعد السنوى لإعلان الفائز بجائزة نوبل فى الأدب، خرجت سارة دانيوس – سكرتيرة مؤسسة نوبل – على الأوساط الأدبية العالمية، لتفاجئ الجميع بالدهشة والصدمة، حد الاستنكار، قالت سارة: “لقد استحق الجائزة لأنه أوجد تعبيرات شعرية جديدة فى الأغنية الأمريكية التقليدية، فهو شاعر عظيم، ضمن التقليد الشعرى للناطقين بالإنجليزية”. كثيرون رفضوا فوز “بوب ديلان” بالجائزة الكبرى، رغم إيمانهم بما رددته سارة دانيوس، هى وغيرها من أعضاء الأكاديمية السويدية، التى رأت أن “ديلان يمثل رمزا، تأثيره عميق فى الموسيقى المعاصرة” وهو فى الأغلب أعظم شاعر على قيد الحياة، وكان هناك توافق رائع فى قرار اللجنة لمنح ديلان الجائزة. إذن ما الذى قدمه بوب ديلان للقصيدة الأمريكية حتى إنه وصف بأنه أعظم شاعر على قيد الحياة؟ هكذا تسأل د. هويدا صالح فى الكتاب الصادر عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع وبردية للنشر تحت عنوان “أطرق باب السماء” وقد ترجمه إلى العربية الحسين خضيري، تقول د. هويدا صالح إجابة عن هذا السؤال: “لقد قدم ديلان تفسيرا جديدا لتقاليد كتابة الشعر الأمريكي، ثمة تجسيد لقيم فنية استحق عنها الجائزة، غير أن اكتناه هذه العبارات بما تختزنه من دلالات يحيلنا إلى أنها تتصل بمنتج ثقافى شائع كمسوغ لمنح الجائزة”. تعنى د. هويدا صالح بذلك الكتابة الشعرية الخاصة بالأغانى أو التى تتخذ من منصات الغناء أداة للتأثير، وهذا يعنى أن ثمة تأثيرا واضحا لهذا النوع من الكتابة فى ثقافة أمست لا تعترف كثيرا بالحدود، علاوة على أنها ترى أن الفنون والآداب لم تعد تحتفى بالتخصيص أو التوصيف النوعى الأجناسى النخبوي، فهى تنظر للأثر الذى أحدثته أغانى ديلان، بل تنظر إلى أدائه الفنى الذى استطاع أن يضيف تقاليد شعرية جديدة فى الغناء. وهذا يعنى أن ثمة تكوينا جديدا لمدرسة ابتكرها بوب ديلان استطاعت أن تشق طريقها فى المشهد الغنائى الأمريكي، إن ثمة نموذجا لخصوصية محلية تتصل بالثقافة الأمريكية التى لا يمكن أن تتجاهل حجمها، وبهذا فإن لجنة الجائزة استجابت لأثر هذا الحضور الغنائى فى اللغة الإنجليزية أو الثقافة الأنجلو أمريكية. أيا كان الأمر فإنها المرة الأولى التى تشذ فيها اللجنة عن قواعدها وتغض الطرف عن الشعراء النخبويين، بينما تمنح جائزتها لشاعر كتب الأغنية المتمردة، وصار رمزا لجبهة ثقافة الرفض، وأيقونة المهمشين والمضطهدين وضحايا التفرقة العنصرية والحروب، بتعبير المترجم الحسين خضيري. وكما يرى المترجم فإن بوب ديلان المولود فى 24 من مايو سنة 1941 موهبة فطرية وقيثارة وحقيبة ثياب، وبعض طموحات، هى كل ما تسلح به، للانتقال إلى عالم الأضواء والمشاهير، إلى نيويورك، ودخل معترك الحياة الثقافية، والتقى شعراء حركة البيت فى نوادى الجاز، حيث كانوا يلقون قصائدهم، وأدرك فيه آلن جينسبرج عبقرية موسيقية نادرة، وشجعه على نبرة الاحتجاج فى كتاباته. امتازت أغانى بوب ديلان بنبرات الحزن والشجن الذى يعبر عن هموم المشردين والمضطهدين، ولذا لقيت أغانيه رواجا كبيرا منذ أن أصدر ألبومه الأول عام 1962، فقد باع إلى الآن أكثر من 100 مليون أسطوانة، واختيرت بعض أغانيه ضمن أحد أهم 100 أغنية على مدى التاريخ الإنساني، ولأنه جاء من أوساط عمالية أمريكية، فقد تبنى أحلام العمال وأضحت أغانيه نشيدا لحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين والحركة المناهضة لحرب فيتنام وحركات الاحتجاج الشبابية، غير أن هذا الرجل الذى ولد لأبوين يهوديين مهاجرين من أوكرانيا، وناصر المقهورين كان عنصريا ضد العرب والفلسطينيين، فلم يحرك ساكنا تجاه ضحايا المذابح التى ارتكبتها وترتكبها إسرائيل يوميا ضد الفلسطينيين، بل إنه يغنى بكلمات تدعم “البلطجة الصهيونية”. تدعونا د. هويدا صالح إلى فهم السياق الثقافى والسياسى العام الذى صعد فيه نجم بوب ديلان، فبداية السبعينيات لم تشهد فقط تحولات سياسية كبرى، بل صاحبها تحولات اجتماعية وثقافية كثيرة، ما بين تأثيرات وإخفاقات أمريكا فى فيتنام وبدايات الحرب الباردة، ثم ثورة الطلاب فى فرنسا عام 1968، لذا فقد آمن بقوة بدور المثقف الملتزم، بل حرص على تبنى النظرية الأخلاقية للفن، بتعبير هويدا صالح، فهو يرى أن الفن عليه أن يتبنى القيم العليا التى تدعم وجود المجتمع صامدا فى مواجهة تغييب الهوية والانسحاق أمام قيم العولمة. إن بوب ديلان مارس موقفا وانحيازا جماليا فى قصائده الغنائية، كما تجلت فيها مواقفه من الحروب، والدفاع عن المهمشين والمضطهدين وهذا ما يعنى أنه ليس مجرد كاتب أغان، إنما هو شاعر انحاز لمنهج تعبيري، رأى فيه القدرة على التأثير، وبهذا فقد كرس ديلان موهبته بالكتابة فى مجال الأغانى لصالح قضايا محورية مهمة فى الثقافة الأمريكية. وكما تشير د. صالح فإن بوب ديلان يتمتع بحس شعرى رفيع برهنه عبر كتابته لأغانيه المحملة بالتناص التاريخى والشعري، الميثولوجيا والإيقاع الخاص حتى إن الناقد والمنظر الأدبى اللامع كريستوفر ريكس ضمنه كأحد أعظم الشعراء فى التاريخ إلى جانب ملتون وليكتس، بوب ديلان ليس مجرد فنان أو كاتب أغان فحسب، وإنما هو وعى قائم بذاته، فهو يتبع الحياة بتكوينها وإعادة تشكيلها، والذى يكفل لها أن تبقى فى حدود التأثير وعدم الانكفاء، مع الحرص على تجسيد وعى جمالى فى عالم بات يمزج الثقافة بروح العصر المتسارع.
رسالة الإسلام: رحمة عدل حرية سلام من يتذكر «الرحمة» من يتذكر الآية العظيمة «كتب ربكم على نفسه الرحمة»، أو الراحمون يرحمهم الرحمن، أو: لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقى، هذه المعانى الراقية التى تسهم فى سعادة البشر، دون تحديد جنس أو لون أو دين ينطلق منها كتاب: رسالة «الإسلام.. رحمة وعدل وحرية وسلام»، الذى أعده: على محمد الشرفاء الحمادى، مدير ديوان الرئاسة السابق الإمارات العربية المتحدة أبو ظبى، والكتاب على صغر حجمه، زاخر بالقيم الإسلامية الأصيلة والجوهرية لا القيم الوضيعية التى يرسخها من جعلوا من الإسلام مصدرا للاسترزاق والشهرة والوجاهة فالكتاب، بالأساس ينطلق من التفريق بين الخطاب الإلهى، دعوة للرحمة والتفكير، صادر من الله جل جلاله، مثبت فى القرآن الكريم، منزل على النبى محمد صلى الله عليه وسلم، فيما الخطاب الدينى هو دعوة للقتل والتكفير، معتمد على روايات تواترت عن الصحابة تناقلتها أجيال متتابعة، ثم تلقفها شيوخ الدين، ليسيطروا على عقول العامة والدهماء، بغية تجييشهم وحشدهم لمكاسب سياسية، وقد وضع المؤلف فى الشكل التوضيحى المشار إليه الخطابين فى مواجهة بعضهما البعض لأن هذا خطاب إلهى، والآخر خطاب بشرى، وفى لمحة بالغة الدقة، بالغة الخفاء يحملها ذلك الشكل التوضيحى، نجد أنفسنا أمام إسلاميين، إسلام نعرفه من القرآن، وإسلام وضعى، وهو تراكم التفسيرات البشرية للإسلام، وتراكم التفسيرات البشرية للقرآن، وبعض كتب الحديث التى يقدسها الناس أكثر من من النص الدينى الأساسى نفسه، حتى تعامل الناس مع هذه التفسيرات على أنها الدين، وهى عن الدين أبعد ما تكون، وكأن الكتاب بتركيزه على الخطاب الإلهى الذى يحمل قيم العدل والحرية والسلام والرحمة يوضح موقفه من الخطاب الأخر. ورسالة الإسلام للبشرية كما رصدها المؤلف تتمثل فى أربع قيم مرتبة ترتيبا يضمن عالمية الدعوة والرسالة، وشمولها، فالرحمة تأتى على رأس تلك القيم، ثم يأتى العدل تاليا، والحرية ثالثا، والنتيجة وهى القيمة الرابعة: السلام فالقيم الثلاث الأولى إن تحققت وانتشرت ساد السلام بين عموم البشر فى أرجاء المعمورة كلها، وليس بين المسلمين المؤمنين بالدين فقط، وهذه هى عالمية الإسلام، كما أرادها الله سبحانه وتعالى، لا كما يروج لها الأدعياء، الذين يتشدقون بعالمية دينهم، من جهة ويحرضون على القتل والكراهية من جهة أخرى حتى أصبح الإسلام بسببهم مرادفا للعنف والقتل والتخريب فى نظر الشعوب غير المسلمة، مع أن النص القرآنى يقول:«وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». بدأ المؤلف على محمد الشرفاء، كتابه بتحديد عناصر الرسالة كما نزلت على الرسول وهى: خطاب الهدى، كما فى قوله تعالى:«ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين». وحدة الرسالة، كما فى قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» سورة البقرة الآية 136. ثم التكليف الإلهى، كما فى قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدى القوم الكافرين». ثم يستمر المؤلف فى رصد عناصر الرسالة الإسلامية، كما وردت فى النص الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيذكر أيضا: التذكير بالقرآن، أسلوب الدعوة، وحدة البشر، العدل الإلهى، حرية الاعتقاد، لا وصاية فى الدين، ليقف بعد ذلك أمام كل هدف من هذه الأهداف بالشرح والتحليل وبيان عظمة الدين الإسلامى، «إن رسالة الإسلام كما يشرح الشرفاء ص 6 من الكتاب التى بعث بها الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا، يحملها فى كتاب كريم ليهدى الناس كافة سبيل الخير والصلاح، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليحررهم من استعباد البشر للبشر، واستعباد الأصنام لعقول الناس. إن دعوتنا -كما يراها المؤلف -كمثقفين، وردت فى كتاب الله فى الآية 13 من سورة الحجرات: «يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، ويرى أنها دعوتنا الآن، بحكم ما يجرى حولنا من مشكلات تتعلق بديننا: تلك دعوة لمثقفى الأمة وعلمائها المنوط بهم الآن إخراج الأمة من مأزقها فى المفاهيم المغلوطة، وتقديس تراث الأولين، واجتهادات لا تلزم المسلمين اتباعها، ولا تتفق مع ما أنزل الله على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم على حساب القرآن، فهى وقفة إذن مسئولة من دون تمييز لطائفة، أو مذهب أو فرقة أو حزب يرتجى منها التعاون والبحث الجاد المتجرد، وصولا لمفهوم موحد تلتئم عليه الأمة، حين الوقوف على أصل ما عنته وقصدته وبينته آيات القرآن الصريحة فيما هو خير للإنسانية، وترك ورفض لحشد الروايات المبعثرة والمزعومة. ينتقل المؤلف بعد ذلك شارحا ومحللا، ومستندا إلى القرآن الكريم، ليفرق بين خطابين، فى قسم: الخطابان والمقصود بهما، الخطاب الإلهى، والخطاب الدينى، فالأول رحمة وعدل، والثانى كراهية وتكفير، وهما فى رأيه: طريقان لا ثالث لهما، طريق الحق، وطريق الضلال، فمن اتبع طريق الحق، وهو الخطاب الإلهى للناس كافة بلغه رسول أمين سيكون حسابه كقوله تعالى:«ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما»، ومن اتبع طريق الضلال فى الخطاب الدينى البشرى، فسيكون عقابه كما قال تعالى:« ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى». فى الفصل الثالث والأخير من الكتاب، يحدد المؤلف أركان الإسلام، وهى كما يرى تتمثل فى ثلاثة محاور، الأول العبادات كما هى معروضة فى حديث بنى الإسلام على خمس، والمحور الثانى منظومة القيم والأخلاق، وتشمل بر الوالدين والعلاقة الزوجية وحقوق اليتامى، وضوابط الميراث والإنفاق فى سبيل الله، وسلوك المسلم، ثم المحور الثالث والأخير وهو المحرمات.