سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم هكذا صور الشاعر العربي زهير بن أبي سلمي سأم الوصول إلي عتبة الثمانين من العمر في حياة البادية العربية في الجاهلية أما الفنان المصري أنطون ألبير شيخ المصورين المصريين فيكاد يقول بما أبدعه من صور تلامس الفن وهي ملموسة بصبر المطابع, وإيقاع الصحافة, وبلغة الكاميرا عشقت تصاوير الحياة ومن يعش ثمانين حولا يفرح هذا الفرح الطاغي بالحياة, يمارسه أنطون ألبير المولود في1930 في الحياة, فينعكس علي لقطاته التي انفرد بها وانفردت بالحيوية وكأنه كان يقاوم الزمن في كل لقطة, ويتحداه مع كل ضغطة زر, يلتقط بها صورة, ويحنط الزمن في قارورة الفن. انطون البير عاش ليري ويصور ورأي لكي يجعلنا نري فكيف يدركه السأم والملل وكيف تدرك اللقطة كهولة المشهد أو شيخوخة الصورة. وإذا كانت القاعدة الصحفية تقول إن الصورة بعشرة آلاف كلمة, فلنا أن نتصور حجم الديوان البصري الذي كتبه أنطون ألبير منذ عشقت أنامله مداعبة الكاميرا منتصف الأربعينيات من القرن الماضي. وخلال06 عاما عمل بها في الأهرام. أنطون ألبير احتفل معنا بعيد ميلاد الأهرام رقم135 بطريقة خاصة فتح فيها خزائن الذكريات وأخرج صوره كساحر تلقف ما يدعيه غير المبدعين. هذه قراءة عاجلة في سفر الصورة, وأبجدية لا تعرف الحروف. اللقطة الأولي قبل أن يبدأ أنطون ألبير قال الفنان أنا ابن مؤسسة لها ارث طويل مع الصور فقد نشرت الأهرام في الرابع من مايو عام1891 أول صورة صحفية في مصر وربما في الشرق الأوسط, وكانت للمسيو فردينان دي ليسبس هذا التاريخ الطويل مع الكاميرا عاشه المصورون العظام في الأهرام حتي دخلت الصورة عصر الديجتال ومنذ ان كان المصور يرسل لقطاته للجريدة في يوم كامل صار يرسلها في دقائق. اللقطة الثانية عشقت الكاميرا بسبب والدي الذي كان يهوي الكاميرات وقد وجدت كاميرا غريبة من أيام0291 في البيت مازلت أحتفظ بها للآن التقطت بها أولي لقطاتي وأنا ابن الثالثة عشرة. كانت هذه الكاميرا تعمل بواسطة شرائح دقيقة من الزجاج يتم تعبئتها في صندوق بالكاميرا تتحرك مع كل لقطة, وعلي المصور إفراغ صندوق الكاميرا من هذا الزجاج عقب عملية التصوير, ثم الذهاب إلي المعمل لطبع الصور. اللقطة الثالثة عندما نزحت الأسرة من السويس إلي دمنهور بسبب عمل الوالد هناك عملت مدرسا في التعليم الابتدائي في مدرسة النهضة عن عام1950, وبدأت في الوقت نفسه أراسل الصحف, وأمدها بالأخبار والصور, ومنها صحيفتا المصري والأساس حتي تم الاتفاق مع الأهرام للعمل كمراسل ومصور لها من دمنهور في عام.1952 سألته: كيف كنت ترسل المواد الصحفية والصور إلي الجريدة. قال: كنت أتفق مع أحد فراشي القطار المتجه من دمنهور الي القاهرة, وأعطيه مظروفا به الصور والأخبار, والبقشيش طبعا ثم أتصل بالأهرام وأخبر المسئولين بموعد القطار فيرسلون سائقا بدراجة نارية إلي محطة السكك الحديدية لتسلم مظروف الصور. واستمر الأمر علي هذا المنوال سبع سنوات حتي انتقلت إلي المبني الرئيسي للأهرام في شارع مظلوم بوسط القاهرة, وكان ذلك في عام1959, حيث تقدمت بطلب للاستاذ محمد حسنين هيكل الذي كان رئيسا للتحرير آنذاك وافق عليه. وهناك التحقت بالعمل مع الاستاذ ارشاك مصرف الذي تعلمت منه كثيرا, ثم عملت مع الاستاذ محمد يوسف كبير مصوري الاهرام, الذي اختلفت معه في أحد الأيام, ووصل الأمر إلي الأستاذ هيكل فاستدعاني بعد اجتماع الديسك المركزي وقال لي: يا أنطون لقد منحت محمد يوسف تفويضا كاملا( كارت بلانش) ليفعل ما يريد, ثم التفت وقال للأستاذ محمد يوسف: يا محمد استوعب انطون, فعرفت سر قوة هيكل التي تستند علي الحزم والحكمة في آن وهذا ما كان يظهر في صالة تحرير الاهرام التي لم يكن يسمح بارتفاع صوت فيها خاصة خلال اجتماع الديسك المركزي الذي كان يضم كبار الصحفيين بالأهرام. اللقطة الرابعة مع هيكل عرفت قيمة لقطاتي, فقد منحني الأستاذ شرف نشر صوري مع مقاله الشهير بصراحة, الذي كان يكتبه صباح الجمعة, إذ كان يختار لقطة من صوري تعبر عن مضمون المقال, وفي عام1961 عندما أعلن جمال عبد الناصر انفصال مصر وسوريا بعد الوحدة, من خلال الإذاعة في مقرها القديم في الشريفين اندفعت الجماهير إلي هناك وتحلقت حول عبدالناصر, وأعلنت رفضها للانفصال فالتقطت صورا كثيرا لهذا المشهد, وأعجبت الصور الاستاذ هيكل لأنها صورت الجموع وحركتها, وكان ذلك يوم الخميس فقرر الأستاذ إلغاء نشر مقاله بصراحة ونشر بدلا منه تلك الصور للجماهير مع ناصر. وفي صورة أخري لي لعبد الناصر كان فيها مع القذافي والسادات في زيارة لمصنع في شبين الكوم واقتحم أحد المشايخ موكب الرئيس فالتقطت الصورة بأسرع وقت ممكن, وجاءت لقطة نادرة. اللقطة الخامسة واجه أنطون ألبير الموت عدة مرات, لكنه نجا في كل مرة بلقطة, وقصة. ففي منتصف الستينيات تعرضت منطقة أبو زنيمة لسيول كبيرة, وقام الجيش بجهود كبيرة, لإنقاذ المتضررين, وتقديم معونات عاجلة لهم, وذهبت في مهمة عمل مع الأستاذ مكرم محمد أحمد لتغطية هذه الجهود, وحاولت التقاط صور للسيول وعمليات إلقاء المعونات من الجو للمتضررين, وفشلت فاقترح قائد الطائرة, أن يفتح لي باب الطائرة وأستخدم قدمي لتثبيت نفسي أثناء التقاط الصور وهو يدور بالطائرة, ودار الطيار دورتين وأنا ألتقط الصور, وفي المرة الثالثة ريحت قدمي ففلتت من الباب وكدت أطير في الهواء لولا سرعة تدخل الاستاذ مكرم, الذي سارع بالإمساك بحزام بنطلوني, وأنقذني من موت محقق ولم تكن لقطات السيول المرة الوحيدة التي تعرض فيها انطون للموت. اللقطة السادسة في الأول من يونيو من العام1967 تلقي أنطون ألبير تكليفا من إدارة تحرير الأهرام, بالتوجه إلي سيناء مع زميل من المحرريين( هو الأستاذ مكرم محمد أحمد) لتغطية جهود الجيش, واستعداداته للحرب.. وتوجه المصور مع فريق من الاعلاميين من الصحف القومية يذكر منهم الاستاذ أنيس منصور.. وبدأ الفريق عمله في العريش, وهناك أخبرهم أحد الضباط أن هناك قطارا حربيا يقل جنودا كويتيين انضموا للدفاع عن مصر خلال الحرب المحتملة, ولكن الفريق الاعلامي رفض ركوب القطار متعللا بوجود سيارات معه, وأن عمله يتطلب مرونة في الحركة. وجاء مسئول عسكري لملاقاة الفريق الإعلامي وعندما انتهت المقابلة اخبرهم أنه سيستقل طائرة ويعود الي القاهرة فطلب الاستاذ أنيس منصور أن يعود معه, ووافق القائد العسكري.. هنا كتب انطون البير خطابا الي خطيبته وزميلته ورفيقة الدرب في الأهرام اليس عياد يطمئنها علي أحواله, وبعد يوم من السفر اندلعت الحرب, وكان المصورون يلتقطون صورا في ضباب لا يكشف شيئا, فظنوا أن ما يصورونه هو تحركات للجيش المصري. وبعد فترة قصيرة انكشف المستور وتبين لهم أن ما صوروه هو مدرعات إسرائيلية تقصف البيوت والمنشآت بل إن قذائفها طالت الاستراحة التي كانوا يقيمون بها. عرف انطون البير أن القطار الذي كان يقل الاخوة الكويتيين أصيب بشدة واستشهد كل من فيه.. فعرف أنه نجا من الموت مجددا ولجأ الفريق الاعلامي الي بيت أحد ابناء سيناء الشرفاء ولكنهم وقعوا في أسر اليهود62 يوما. ولكي ينقذهم أبناء سيناء أخذوا منهم بطاقاتهم الشخصية لتغيير وظائفهم فيها واللافت كما يروي أنطون ألبير أن البطاقات تغيرت بأرقام مسلسلة رغم أن كل عضو في الفريق جاء من بلد مختلف فهذا من الجيزة, وذلك من المنوفية, واللافت أيضا أن القوات الإسرائيلية لم تلتفت لذلك. وعندما تفاقم الأمر وبدأت ملامح الهزيمة طلب منهم أحد أبناء سيناء الادعاء بأنهم مدرسون جاءوا للعمل في مدارس العريش وهم لم يتسلموا أعمالهم بعد, وبعد مفاوضات طويلة بعد انتهاء غبار المعركة تم نقلهم باتجاه القناة. يضحك انطون البير بشدة قبل أن يقول لي: هل تعرف بأي شيء تم تبادلنا قلت: بأسري أو بأموال فقال لا.. بالفواكه والخضراوات لم أتمالك نفسي وقلت ضاحكا: كيف؟ قال لقد بادلوني ببطيخة ونجوت من الاسر بسبب هذه البطيخة. وعندما عاد انطون الي القاهرة عرف أن الاهرام حاولت الاتصال به اكثر من مرة الا أن المحاولات فشلت, وان زميليه صلاح جلال ومحمد باشا اجريا اتصالات مكثفة مع الصليب الأحمر للإفراج عنه وعرف أيضا أن أنيس منصور لم يسلم خطابه إلي خطيبته خوفا من أن يصيبها القلق, فقد اندلعت المعركة بعد يوم واحد من عودة أنيس منصور الي القاهرة. اللقطة السابعة يتباهي انطون البير بأنه صور رفع العلم المصري علي عيون موسي, فقد طلبت منهم إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة مرافقة القوات المحاربة في عيون موسي, وذهب مع فريق إعلامي إلي هناك والتقط صورة يقول عنها إنها من اللحظات النادرة في حياته فقد شعر وهو يصوب الكاميرا نحو العلم أنه يرفع العلم بنفسه.. واشتهر أنطون مع عدد قليل من الزملاء المصورين بأنهم فريق مقاتل سلاحهم الكاميرا والفلاش و أنهم توقعوا النصر كما توقعوا الهزيمة, فكما صور انطون البير بقايا المدرعات المصرية في هزيمة1967, صور العلم المرفرف من نصر.1973 اللقطة الثامنة يملك انطون البير أرشيفا هائلا من الانفرادات الصحفية, والصور الخاصة التي لم تمنحها له الصدفة إذ يكره أن يقال إنه محظوظ لالتقاطه صورة غريبة. وقاعدة عمله تؤكد ذلك حيث يقول: لم أترك الكاميرا يوما ما, فهي صديقتي وسلاحي وعندما تكون الكاميرا معك دائما تأتيك اللقطة, التي يحتاج التقاطها إلي سرعة بالغة أو رؤية ثاقبة. فالصورة الثاقبة ليست ابن الكاميرا, أو الفلاش بل تصنعها عين المصور, ويذكر انطون البير كيف التقط صورة من زاوية معينة لمسجدين أو مئذنتين يحتضنان قبه كنيسة رغم أن الكنيسة كانت في الواقع بعيدة عن المسجد.. ولكن التشكيك الذي قام به في اللقطة. هو الذي جعله فنانا لا مصورا, ينتمي إلي الفنانين التشكيليين اكثر مما ينتمي الي المصورين فقط. من اللقطات الغريبة التي كنا نقف أمامها علي جدار الطابق الرابع في الأهرام ونحن صغار نتحسس وقع اقلامنا في بداية رحلة العمل صورة لسيارة راقدة علي سلم أحد كباري الزمالك بشكل لا يحدث ولا في الخيال, اللقطة الغريبة التقطها انطون البير بسرعة عندما وجد السيارة وكان في مهمة عمل بالزمالك تهبط الدرج بسبب سكر قائدها وكانت لقطة من اللقطات الغريبة, التي كان انطون يزركش بها الصفحة الأخيرة في الأهرام عندما كانت تلك الصفحة متنفسا صحيا للصور, وحديقة للقطات الجميلة. قبل أن تحتلها الإعلانات, أو الصور العادية كما يقول. النوبة ذهب انطون البير في مهمة عمل لتصوير النوبة, فأغواه المكان بالبقاء لفترة, ثم العودة الي النوبة مرة أخري كلما تيسر له الوقت, وقد أتاح له غرامه بالنوبة أن يلتقط صورا نادرة نصرة النوبة وتهجير أهلها, كما أتاح له فرصة اصدار كتاب مصور عن تجربته التي أنتجت صورا نادرة وانفرادات كبيرة للأهرام. .. وجه الست لأنه فنان بالنظرة أغوته الطبيعة بمداعبتها بالكاميرا فقد صور الغروب علي النيل في لوحات رائعة, ولكن اهتمامه بالفن قاده ليصور وجوه الفنانين والمشاهير, وكانت تجربته مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم شديدة التميز, فقد اتفق معها علي تصويرها عند الأهرامات, وفوجيء وهو يصورها هناك بأنها تزور تلك المنطقة الاثرية الخالدة للمرة الأولي. وهناك التقط أنطون صورة لأم كلثوم بمحاذاة ابي الهول وجاءت الصورة قصيدة في التقاء الصمت بالفصاحة, ولقاء الماضي بالحاضر, وكانت من اللقطات التي يفتخر بها انطون البير, مثلما يفتخر بلقطات أقرب للوحات للمبدعين الكبار من أمثال توفيق الحكيم, ونجيب محفوظ. الوجه الأجمل سألت انطون البير سؤالا ساذجا نسأله لكل فنان: أي الوجوه التي صورتها أحب الي قلبك فقال بتلقائية: صورت وجوها كثيرة لفنانين ومشاهير مثل سيدة الشاشة فاتن حمامة, وعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب ولكن الوجه الأجمل الذي صافحته الكاميرا وقرأته هو وجه السندريلا سعاد حسني, الذي يري انطون البير أنه وجه يختصر مصر كلها برقتها وعذوبتها وجمالها ومرحها وشخصيتها.