برغم الأهمية القصوى للجهود المبذولة حاليا من اجل استعادة اموال مصر التى يعتقد أن أركان النظام السابق نهبوها فإن هناك قضية أخرى لاتقل الحاحا فى المرحلة الراهنة وهى مسألة محاسبة المتورطين فى انتهاكات حقوق الإنسان والفساد السياسى على مدى الثلاثين عاما الماضية. وذلك من أجل استعادة السلم الاجتماعى وزوال إحساس الكثيرين بالظلم وفى هذا الأطار فأن أحد أهم الخيارات المطروحة هو اللجوء إلى تشكيل لجنة للحقيقة والمصالحة كما فعلت جنوب أفريقيا ودول أخرى عديدة منذ سبعينيات القرن الماضى وحتى اليوم. فعقب انهيار نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا أمر الزعيم العظيم نيلسون مانديلا باقامة لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية رقم 34 للعام 1995. وكانت تتمتع بصلاحيات واسعة واستثنائية قياساً "بلجان الحقيقة" التى تشكلت قبلها للنظر فى انتهاكات حقوق الإنسان فى الدول الأخرى.وجاء تأسيسها طبقا للقانون الذى عكس التوازن السياسى والعرقى الدقيق الذى كان قائماً فى مرحلة الانتقال بالبلاد من حكم الأقلية البيضاء العنصرى إلى حكم الأغلبية السوداء فى عام 1994. وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة عبارة عن هيئة لاستعادة العدالة على شكل محكمة وبموجبها فأن الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان تمت دعوتهم للادلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، واُختير بعضهم لجلسات إفادة عامة علنية وفى نفس الوقت فان مرتكبى أعمال العنف ضدهم كان بإمكانهم الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية وكان من سلطاتها أيضا منح عفو للمتهمين الذين يثبت عدم ارتكابهم جنايات وتحديد موعد منح الأهلية السياسية التى تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية. وكان من سلطات اللجنة التى ترأسها كبير اساقفة البلاد القس ديزموند توتو ونائبه البروفيسور ألكس بورين منح التعويضات للضحايا أو ورثتهم، كما اعتمدت تصور العفو المشروط أو الجزئى كسبيل لتحقيق العدالة بدلا عن العدالة العقابية، فعوضا عن تقديم المنتهكين لحقوق الانسان الى المحاكم اعتمدت اللجنة جلبهم للإعتراف بأخطائهم وطلب الصفح ممن ألحقوا بهم الأذى. وتلقت اللجنة حوالى سبعة الاف طلبا للعفو، أغلبيتها من سجناء كانوا يعملون فى الأجهزة الأمنية والقمعية الحكومية وكانت لجنة أخرى من اللجان الفرعية التابعة للجنة الحقيقة والمصالحة - وهى لجنة العفو المستقلة ذاتياً، والتى ترأسها قاض فى المحكمة العليا مسئولة عن النظر فى هذه الطلبات والبت فيها. وجرى البت فى العديد منها على أساس الأوراق المقدمة، من دون عقد جلسات لكن فى 1000 حالة على الأقل، تم التوصل إلى قرارات حول الطلبات عقب عقد جلسات علنية أمام لجنة العفو. وحقق عمل اللجنة نجاحا واسعا لأنه أعاد اللحمة للشعب الجنوب أفريقى ويسر له سبل التقدم مما جعل جنوب أفريقيا تتربع على العرش الأقتصادى والسياسى للقارة السمراء وذلك بعكس أول لجنة للحقيقة والمصالحة عرفها العالم والتى تأسست فى أوغندا عام 1974 على يدى الديكتاتور الأوغندى الراحل عيدى أمين بايعاز وضغوط من مجموعات حقوق الإنسان ولكنها فشلت فى تحقيق أى من أهدافها لأن النظام الاوغندى رفض نشر نص التقرير الذى توصلت إليه اللجنة أو تنفيذ أى من توصياته ومنذ ذلك التاريخ حذت عدة بلدان حذو اوغندا فى تكوين لجان للحقيقة والمصالحة كسبيل لتحقيق العدالة الانتقالية فى بلدان مزقتها الحروب والصراعات فكانت التجربة الأرجنتينية (19831985)، وتجربة جمهورية تشيلى (1990 1991)، وغيرها الى أن أصبحت واحدة من الأساليب المعروفة عالميا كسبيل للتعامل مع خروقات سابقة لحقوق الإنسان رغم أن تجربتى الأرجنتين وشيلى فشلا مثلما فشلت تجربة اوغندا ولنفس الأسباب تقريبا. والنجاح الكبير الذى حققت لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب أفريقيا جعلها هى النموذج الذى يحتذى به فى العالم وتكررت بعدها فى أرجاء أخرى من العالم وفى حالة الأخذ بها فى مصر ستكون هذه هى المرة العشرين لتشكيل لجان الحقيقة والمصالحة.