هل نبالغ لو قررنا أن السلطوية المصرية التي دشنتها ثورة يوليو2591, وتجذرت في ثلاثة عصور هي العصر الناصري والعصر الساداتي والعصر المباركي, قد وصلت الي منتهاها وسقطت الي الأبد؟ تماما مثلما انهار الاتحاد السوفيتي وأدي سقوطه الي سقوط الشمولية كنظام سياسي ألغي المجتمع المدني وجعل صوت الحزب الشيوعي الأوحد لايعلو عليه أي صوت, فانه يمكن القول إن الهبة الشبابية المصرية في52 يناير1102 التي فاجأت الشعب المصري والعربي بل والعالم, هي رمز دال علي سقوط السلطوية كنظام سياسي في مصر. والسلطوية ليست صفة أخلاقية نضفيها علي بعض النظم السياسية لنعني بها القمع او الاستبداد, بل هي في- تعريف علم السياسة- نظام سياسي محدد الملامح واضح القسمات. ولو راجعنا تصنيف النظم السياسية في العالم فاننا نجدها- وفق تصنيف عالم الاجتماع السياسي الأمريكي لويس كوزر- تنقسم الي ثلاثة رئيسية: الشمولية والسلطوية والليبرالية. النظام الشمولي يحتكر السلطة احتكارا مطلقا ويمحو مؤسسات المجتمع المدني, ولايترك لأي جماعة او تنظيم مجالا لاتخاذ أي مبادرة. وكان المجتمع السوفيتي في امبراطورية الاتحاد السوفيتي السابق, هو النموذج البارز علي النظام الشمولي. أما النظام السلطوي فهو ذلك الذي يحتكر السياسة الي حد كبير, وان كان يترك مساحات محدودة في المجال العام لبعض المبادرات الخاصة. وقد يقبل- كما حدث في مصر- تأسيس تعددية حزبية مقيدة في ضوء حزب أغلبية- كالحزب الوطني الديمقراطي يحتكر العمل بالسياسة, ويعمد الي تهميش كل القوي والاحزاب السياسية الأخري. والنظام المصري في عهوده المختلفة- ونعني العهد الناصري والساداتي والمباركي- كان ولايزال نظاما سلطويا بامتياز, وان كانت درجة التحكم في أمور المجتمع تفاوتت بشكل ملحوظ عبر الزمن. كان التحكم مطلقا في العصر الناصري, وتحول الي تحكم نسبي في العصر الساداتي الذي شهد تعددية سياسية مقيدة, وتغير في العصر المباركي الي تحكم مرن الي حد ما, لأن الحريات السياسية توسعت دوائرها مما سمح لمنظمات المجمع المدني بأن تتكاثر وتنشط, كما أن حريات التعبير زادت الي حد غير مسبوق, مما أتاح للمعارضين أن يهاجموا النظام السياسي السائد بطريقة مباشرة لم تستثن لا توجهات النظام ولارموزه البارزة, وفي مقدمتها رئيس الجمهورية. ويبقي النظام السياسي الليبرالي حيث لاتتدخل الحكومة في الاقتصاد ويسود مذهب حرية السوق, وكذلك تسود التعددية السياسية والحزبية, وقد يكون النظام الامريكي نموذجا بارزا لهذا النظام الليبرالي. نعود- بعد هذا الاستطراد الضروري- الي حكمنا القاطع الذي صغناه في صدر المقال, بأن الهبة الشبابية في52 يناير أدت- ويا للمفاجأة- الي انهاء السلطوية السياسية المصرية! ولو تأملنا تطورات النظام السياسي المصري منذ ثورة يوليو2591 حتي الآن, لاكتشفنا أنه سادته ثلاث اساطير سياسية رئيسية. وتتمثل الأسطورة الأولي في العصر الناصري, وهي أنه يمكن تطبيق الاشتراكية بغير اشتراكيين! وهو الذي أدي الي فشل ذريع حقا بعد أن وقعت التجربة في براثن البيروقراطية المصرية, التي قضت تماما علي التوجهات الاشتراكية. أما الأسطورة الثانية التي سادت في العصر الساداتي فكانت أنه يمكن تطبيق الرأسمالية- في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي- بغير رأسماليين حقيقيين! وتفسير ذلك أن السماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية والمتاجرين بالعملة, هم الذين سيطروا علي المجال الاقتصادي دون وجود طبقة رأسمالية وطنية حقيقية تطبق بدقة المعايير الرأسمالية في التنظيم الاقتصادي, وترتاد الميادين الجديدة في مجالات الصناعة والتكنولوجيا والزراعة. ونصل من بعد الي الأسطورة الثالثة التي هيمنت علي المناخ السياسي في العصر المباركي والتي مبناها أنه يمكن تطبيق الديمقراطية بغير ديمقراطيين! وتفصيل ذلك أن الممارسة الديمقراطية الشكلية التي سادت البلاد في ظل الهيمنة الكاملة للحزب الوطني الديمقراطي, والذي من خلال انتخابات كان يطعن فيها دائما بالتزوير أصبح حزب الأغلبية, هذه الممارسة السلطوية أدت الي تجفيف منابع الاحزاب والحركات السياسية المعارضة, مما جعل توافر أجيال من الشباب الذين تمرسوا بقيم الديمقراطية, وأهم من ذلك يمارسونها في ظل مشاركة سياسية فعالة, مسألة مستحيلة. انتهت السلطوية اذن بضربة واحدة وجهتها جموع شباب52 يناير, ممن يتقنون التعامل مع أدوات الاتصال الحديثة( المدونات والفيس بوك والتويتر). واضطرت الدولة تحت وقع المظاهرات الحاشدة, وفي ضوء إصرار الجموع الشبابية الي تقديم تنازلات متعددة يوما بعد يوم, سواء في مجال بناء السلطة الأساسي ذاته, حيث عين نائب لرئيس الجمهورية وهو مطلب شعبي قديم, وأقيلت وزارة أحمد نظيف الفاشلة. واختير لمنصب نائب الرئيس ومنصب رئيس الوزراء كل من اللواء عمر سليمان والفريق احمد شفيق, وهما شخصيتان تحظيان بالاحترام الشعبي. وتحت تأثير الموجات الشبابية الغاضبة والمتدفقة, أعلن الرئيس أنه لن يرشح نفسه لفترة تالية لا هو ولا السيد جمال مبارك, وبعد ذلك أعلن عن تغيير جوهري في بنية الحزب الوطني الديمقراطي بإقصاء اعضاء مكتبه السياسي, وازاحة سكرتيره العام, واختيار سكرتير عام جديد هو الدكتور حسام بدراوي, وهو من الرموز الإصلاحية في الحزب. نحن نكتب هذه المقالة ومازالت الأحداث تتوالي, إن الحدث الثوري الكبير الذي صاغته جموع شباب52 يناير مازال يتفاعل وينتج آثاره. نحن- ان صح التعبير- مازلنا في مجال المقدمة والفصل الأول, والحدث اتسم بسرعة الإيقاع وبشمول حركة الاحتجاج وانتشارها في كل المحافظات المصرية تقريبا, وهذه مسألة تحدث لأول مرة, لأن القاهرة كانت غالبا هي فقط موطن الاحتجاجات السياسية وقد تشاركها الاسكندرية أحيانا. هبطت الثورة إذن من الفضاء المعلوماتي- وغزت بدون أي مقدمات- المجتمع الواقعي. غير أنه سرعان ما تبين انها ثورة- إن تجاوزنا قليلا في التعبير- بدون قيادة. وأخطر من ذلك أنها ثورة بلا برنامج محدد. هي تعرف ما لا تريد بدقة وهي السلطوية بكل تجلياتها, والفساد والقهر وإهدار الكرامة والإنسانية, ولكنها لم تحدد ما تريد بدقة ماعدا مطلب الديمقراطية بشكل عام, وتحقيق العدالة الاجتماعية, هكذا كشعارات عامة. ولسنا في حاجة الي تفصيل الأسباب التي أدت الي اختمار هذه الثورة الشبابية. وقد سبق لعديد من الكتاب والباحثين والسياسيين ان عبروا عن اعتراضهم علي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في البلاد. تعددية سياسية مقيدة, وتهميش للأحزاب السياسية المعارضة, وهيمنة مطلقة غير مبررة للحزب الوطني الديمقراطي. ووضع العوائق العديدة امام المشاركة السياسية, ومنع الشباب في المؤسسات التعليمية( المدارس والجامعات) من العمل بالسياسة. وقد انصرف الشباب عن الاهتمام بالسياسة, نظرا لأن الاحزاب السياسية القائمة بضعفها وجمود برامجها وشيخوخة قياداتها وتناحرها لم تكن جاذبة لهم, فتحولوا من الدائرة الخانقة للمجتمع الواقعي, الي الفضاء الرحب للفضاء المعلوماتي. وفي هذا الفضاء مارس الشباب في مدوناتهم وعبر الفيس بوك والتويتر أقصي درجة من درجات حرية التعبير, ووجهوا أقسي الانتقادات للنظام السياسي الراهن. ولو حاولنا أن نشخص الأوضاع التي أدت الي الثورة الشبابية, لقلنا أن أبرزها شيوع الفساد الكبير في المجتمع, والذي أدي إلي استئثار القلة بأغلبية ثمار التنمية نتيجة تواطؤ الدولة مع حلفائها من رجال الأعمال, وكذلك ظهور استقطاب طبقي حاد بين من يملكون كل شيء ومن لايملكون أي شيء, وبين هؤلاء طبقة وسطي ضاعت في خضم تدني الأجور والتضخم, وبروز نمط عمراني جديد قسم المجتمع الي منتجعات تسكنها القلة المترفة, وعشوائيات يعيش فيها ملايين المصريين الذين سحقهم الفقر والحرمان. هذه هي الملامح الأساسية للمشهد الذي أدي الي ثورة الشباب والتي سجلناها من قبل في مقالاتنا وكتبنا والبرامج التليفزيونية التي شاركنا فيها, والتي جمعتها جميعا- للذكري والتاريخ- في كتابي الجديد الذي سيصدر عن دار نهضة مصر بعنوان مصر بين الأزمة والنهضة: دراسات في النقد الاجتماعي. كدت أعد الكتاب لكي يطرح في معرض القاهرة الدولة للكتاب لكي يرسخ قواعد النقد الاجتماعي ويؤكد التزام المثقفين بقضايا الشعب, غير أن الثورة الشبابية باغتتنا جميعا, والتي كانت محصلة تراكمات من النقد الاجتماعي العنيف الذين وجهته مجموعة واسعة من المثقفين النقديين, الذين لم يكتفوا بتحديد السلبيات والإشارة الي الأخطاء, وانما قاموا باعطائها التكييف الصحيح. قامت الثورة إذن وهي في نظرنا بداية للديمقراطية الشعبية المصرية والتي هي علي غرار ديمقراطية أثينا, ولكن ماذا سيحدث في اليوم التالي للثورة؟ سؤال يستحق أن نفكر فيه بعمق في ضوء عديد من الظواهر التي برزت في المجتمع عقب الثورة.