هناك اتفاق بين العلماء الاجتماعيين علي أن الإصلاح هو نقيض الثورة, ذلك أنه استراتيجية للتغيير الاجتماعي تقوم علي التدرج ويتسم إيقاعها بالبطء النسبي الذي يعتمد علي التراكم المجتمعي البطئ. في حين أن الثورة تؤمن بالطفرة والانقلاب علي الأوضاع المجتمعية الراهنة للتغيير تغيرا جذريا. دار الصراع طوال القرن العشرين بين نظريات الاصلاح والثورة, فنظريات الاصلاح كان رموزها البارزون علماء اجتماعيين مشهورين أبرزهم إميل دور كايم الفرنسي, وماكس فيبر الألماني وباريثو الإيطالي, أما نظريات الثورة فكان رموزها كارل ماركس وفريدرك انجلنز, غير أن الصراع لم يكن مجرد صراع أكاديمي أو نظري, بل انه نزل الي أرض الواقع حينما قامت الثورة البلشفية عام7191 والتي بناء عليها تأسس الاتحاد السوفيتي, والذي تحول مع الزمن الي امبراطورية شاسعة الأطراف. ولم يفلت العالم العربي من هذا الصراع, فقد سادت لحقبة تاريخية طويلة نظرية الاصلاح والتي تمثلت في قيام نظم ليبرالية تشكل أغلبها في ظل نظم الوصاية أو الانتداب أو الاحتلال المباشر, كما كان الحال في الاحتلال الانجليزي لمصر والذي استمر نحو سبعين عاما. غير أن الممارسة العملية في العراق وسوريا ومصر وليبيا أثبتت فشل استراتيجية الاصلاح, التي لم تساعد المجتمعات العربية علي التقدم لأنها ظلت حبيسة الاقطاع والتفاوت الطبقي الضخم بين الأغنياء والفقراء, بالإضافة الي احتكار السياسة لشرائح ضيقة من السياسيين المحترفين الذين احتكروا الثروة والنفوذ. لذلك قامت ثورات متعددة في العالم العربي لعل أبرزها ثورة يوليو2591 في مصر, وثورة حزب البعث في كل من سوريا والعراق, وثورة الضباط الأحرار في ليبيا. واستمرت الحقبة الثورية في هذه البلاد قرابة عقدين من الزمان, وأثرت تأثيرا بالغا علي النظم السياسية العربية الأخري, التي تبنت استراتيجية الاصلاح, غير أن حقبة الثورة وصلت الي منتهاها, ولعل هزيمة يونيو7691 في مصر تعد مؤشرا رمزيا علي نهاية عصر الثورة المصرية. وسرعان نتيجة تضافر مجموعة معقدة من العوامل أن حدث التحول من استراتيجية الثورة الي استراتيجية الاصلاح, ومما لاشك فيه أنه ساعد علي هذا التحول انهيار الاتحاد السوفيتي والسقوط النهائي للشمولية كنظام سياسي, بالإضافة الي التأثير الغلاب للمؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي علي سياسات عديد من الدول العربية, بالإضافة الي تبعية هذه الدول الإفريقية. وهكذا تبنت عديد من الدول العربية فكرة التحول الديمقراطي, التي هي بحسب التعريف, الانتقال من السلطوية الي الديمقراطية والليبرالية. وكانت مصر في طليعة الدول التي قبلت بروشتة البنك الدولي للاصلاح الاقتصادي بكل مفرداتها, وأهمها استقالة الدولة من أداء وظائفها الانتاجية, وتصفية القطاع العام عن طريق الخصخصة, وجذب الاستثمارات الخارجية وتنمية الاستثمارات الداخلية وتولية القطاع الخاص شئون التنمية الاقتصادية. وهكذا ساد منطق الاصلاح البطيء في تحقيق التحول الديمقراطي, ولكن تبين من الممارسة أن هذا الاصلاح البطئ قد أدي الي جمود سياسي ثقيل, فقد انفرد الحزب الوطني الديمقراطي بالعمل بالسياسة التي هيمن علي مجالها بالكامل لأن الأحزاب السياسية المعارضة قد همشت باستخدام وسائل شتي, بالاضافة الي انتخابات مجلسي الشعب والشوري كانت توجه لها في العادة تهم متعددة بالتزوير المعمم والذي يعني أنها في الواقع مجالس تفتقر الي الشرعية. وقد أدي تشخيصي لهذا الجمود غير الصحي الي أن نبتكر مفهوما هو الحسم الثوري في الاصلاح السياسي, وذلك في مقال لي نشر عام6002 بنفس العنوان, وقلت فيه بالنص: ونقصد بالحسم الثوري القرار الاستراتيجي الذي تتخذه طوعا نخبة سياسية حاكمة للتغيير النوعي في طبيعة النظام السياسي, وبتبني هذا التعريف علي فكرة رئيسية لي سبق أن صغتها في مقال آخر بعنوان نحو إصلاح عربي ثوري, تساءلت فيه هل يمكن التأليف بين الاصلاح والثورة في صيغة واحدة تكون هي المرشد في عملية التغيير الاجتماعي الواسع المدي التي يحتاجها المجتمع العربي المعاصر؟, وكان جوابي عن تساؤلي هو نعم! وقلنا إنه أولا إصلاح شامل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي, وهو ثانيا ليس إصلاح من فوق تنفرد بوضع خطوطه الرئيسية النخب السياسية الحاكمة, ولكنه اصلاح لايمكن انجازه إلا من خلال المشاركة بين السلطة والأحزاب السياسية المعارضة والمثقفين ومؤسسات المجتمع المدني, وهو أيضا اصلاح ينبغي بعد الاتفاق المجتمعي علي مفهومه واتجاهاته وأساليب تنفيذه أن يتم وفق مراحل زمنية متفق عليها سلفا, وفي ضوء آليات للتنفيذ, ووفق قواعد موضوعية تعتمد علي مؤشرات كمية وكيفية لقياس التقدم فيه. بل إنني في استشراف للمستقبل المجهول قلت: ومضي زمان التلكؤ في الاصلاح وآن أوان الحسم الثوري! غير أن الجمود الإداركي للنخب السياسية الحاكمة في كل من تونس ومصر أدي الي قيام الهبة الشعبية في تونس وأخيرا الهبة الشعبية الواسعة في مصر, وقد سبق لي أن ناقشت الهبة التونسية في مقالي الماضي الذي نشر بعنوان أسئلة الثورة المستمرة, ولم أكد أضع القلم حتي قامت الهبة الشعبية الشبابية الواسعة المدي والتي وياللغرابة تتشابه مع الهبة التونسية في كونها هبة شعبية بلا قيادات سياسية, وهي هبة في كلتا الحالتين تجاوزت في الواقع كل الأحزاب السياسية المعارضة في كل من تونس ومصر! وقد سبق لي في مقالتي الحسم الثوري في الاصلاح السياسي والتي نشرت عام6002 أن قلت إن التعديلات الدستورية التي أجراها الرئيس مبارك في مصر عام5002 لن تؤتي ثمارها الحقيقية إلا اذا صيغت منظومة كاملة من التعديلات السياسية والدستورية لإحياء الحياة السياسية المصرية بالكامل. ولعل أول مبادئ هذه المنظومة هي إلغاء العمل بقانون الطوارئ وكل القوانين الاستثنائية, وإعمال مبدأ سيادة القانون بكل دقة. وثاني هذه المبادئ إعادة النظر في قانون الأحزاب السياسية, ورفع القيود أمام حركة الأحزاب تمهيدا لإحياء موات الحياة الحزبية, وتحويلها الي مؤسسات حقيقية قادرة علي اجتذاب الجماهير. وكل ذلك لن يتم إلا اذا فكرنا في الوسائل السياسية والدستورية المناسبة التي تمنع الحزب الوطني الديمقراطي من شغل مجمل الفضاء السياسي المصري, الذي يتم من خلال احتكاره لتقديم الخدمات, وسيطرته علي الحكم المحلي, واستفادته من شرط توافر05% من العمال والفلاحين في المجالس النيابية لصالحه. ولا يمكن لفكرة تعدد المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية أن تنجح إلا في ظل حياة سياسية وحزبية نابضة بالحياة, تسمح بظهور شخصيات سياسية قوية تبرز في العمل العام, وتتألق في النشاط القومي, ويكون لها أنصار في الشارع السياسي. نحن في حاجة الي مرحلة انتقالية محددة, ترفع فيها القيود التي تمنع حرية حركة المواطن المصري, وتتيح من خلال حرية التفكير وحرية التعبير وحرية الإعلام, تعدد الخطابات السياسية الزاخرة بالاجتهادات المبدعة, والرؤي المتكاملة التي تهدف لصياغة رؤية استراتيجية للمجتمع المصري, تضعه علي مشارف التقدم ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين. كتبت هذه المقترحات في مقال نشر عام6002 وكأنني أسطره اليوم بعد الهبة الشعبية الكبري في52 يناير.1102 تري ما الذي يمكن أن أضيفه لهذه الأفكار بعد اندلاع الثورة الشبابية المصرية؟ في ضوء حركة التطورات السريعة المتلاحقة منذ52 يناير حتي الآن وبعد خطاب الرئيس مبارك للأمة, وبعد تعيين السيد عمر سليمان نائبا لرئيس الجمهورية والفريق أحمد شفيق رئيسا للوزراء يمكن لي أن أقدم الاقتراحات التالية. لابد من تنظيم حوار سياسي قومي يدور بين السلطة وجميع أحزاب المعارضة الشرعية, بالاضافة الي ممثلين للحركات السياسية الجديدة والشباب الذين قاموا بالانتفاضة. وهذا الحوار ينبغي أن يدور حول عدد من النقاط الأساسية: أولا: ضرورة إدخال تعديلات دستورية تكفل اتساع دائرة المشاركة السياسية من خلال التعديل الجذري للمادة67 من الدستور والتي تنص علي شروط تعجيزية للمرشحين للرئاسة, وإلغاء المادة77 التي تكفل لرئيس الجمهورية أن يحكم للأبد. ثانيا: الشروع في تكوين هيئة تأسيسية لمراجعة الدستور القائم تمهيدا لإصدار دستور جديد. ثالثا: احترام أحكام القضاء فيما يتعلق ببطلان الانتخابات في بعض دوائر مجلسي الشوري والشعب حتي لو أدي ذلك الي إلغاء انتخابات مجلس الشعب. رابعا: تعديل نظام الانتخاب من الانتخاب الفردي الي الانتخاب بالقائمة. خامسا: إلغاء المواد الخاصة بنسبة05% عمال وفلاحين في المجالس النيابية. سادسا: النظر في تشكيل حكومة ائتلافية تضم بعض رموز المعارضة والمستقلين والشباب لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية. هذه هي المقترحات السياسية الأساسية التي قدمها لكل من السلطة والرأي العام للنقاش حولها في المؤتمر المقترح, وهناك مقترحات أخري تتعلق بأهمية المراجعة النقدية للسياسة الاقتصادية المطبقة بما يكفل مراعاة ذوي الدخل المنخفض, والفصل التام بين الثروة والسلطة, وعدم توزير رجال الأعمال. وأهم من ذلك, إنشاء صندوق قومي للتشغيل مع التركيز علي مواجهة بطالة الشباب تتشكل موارده من الميزانية الحكومية التي تستقطع من عشرات الملايين التي تهدر في مشروعات مظهرية, أو التي تضيع في دروب الفساد الكبير! اللهم هل بلغت اللهم فاشهد!