تثير الهبة الشعبية العارمة التي وقعت في تونس, وأدت إلي هروب الرئيس السابق بن علي علي عجل الي خارج البلاد, أسئلة متعددة تتعدي بكثير وقائعها المثيرة التي لم تنته بسقوط النظام القديم, ولكنها مازالت مستمرة حتي هذه اللحظة التي نخط فيها المقال. ولعل أول سؤال هو كيف استطاعت جماهير الشعب التونسي أن تفاجئ العالم كله بهذه الهبة الجماهيرية التي اقتلعت أحد أشد النظم السياسية السلطوية العربية قمعا من جذوره؟ لقد عاش العالم في العقود الأخيرة في ظل شعار التحول الديمقراطي, وذلك لأنه بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي أكثر النظم السياسية شمولية في التاريخ, استقر في يقين الوعي الكوني العالمي ان الشمولية كنظام سياسي يقوم علي القهر المعمم للجماهير, وانفراد حزب واحد بالسلطة وإلغاء الحريات السياسية ومحو المجتمع المدني, وقمع المبادرات الفردية والاجتماعية أيا كان مصدرها, هذه الشمولية قد سقطت إلي الأبد, وإذا كانت بعض قلاع الشمولية المتحجرة مازالت حتي الان تقف في مجري تيار التاريخ, وأبرزها كوريا الشمالية وكوبا, إلا أن مصير هاتين الدولتين بات محسوما بالمعني التاريخي للكلمة. فلا مجال في عالم اليوم لدول شمولية في عصر شعاراته هي الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الانسان. غير أن هناك في العالم نظما سلطوية قريبة الشبه من الشمولية وإن كانت تفرق عنها في أن بعضها علي الأقل يعطي المجتمع المدني بعض فرص الحرية النسبية التي تسمح لبعض الأصوات ان ترتفع, إلا أنها في التحليل النهائي لا تختلف كثيرا عن النظم السياسية الشمولية, مادامت ترفض بإصرار عنيد تداول السلطة, وتحاول الالتفاف حول متطلبات التحول الديمقراطي. والتحول الديمقراطي بحسب التعريف معناه ببساطة التحول من الشمولية والسلطوية إلي الديمقراطية والليبرالية. أصبح هذا التحول من شعارات العولمة, وأصبحت الدول السلطوية ومن بينها الغالبية العظمي من الدول العربية, مطالبة باسحقاقات هذا التحول, بتأثير مطالب الداخل وضغوط الخارج. أما ضغوط الداخل فتتعلق بالتحولات الاجتماعية التي حدثت في بنية المجتمع العربي المعاصر بحكم زيادة معدلات المتعلمين خصوصا خريجي الجامعات, والارتفاع الملحوظ في وعيهم السياسي, والذي ساعدت العولمة علي انضاجه نظرا للثورة الاتصالية الكبري, وأبرز معالمها البث الفضائي وتعدد القنوات, واختراع شبكة الانترنت, وسرعة تدفق المعلومات والأفكار من بلد الي آخر, بغير حدود ولا قيود. وأخطر من ذلك كله ان الأحداث العالمية باتت تشاهد علي قنوات التليفزيون في الزمن الواقعي لهاReal يme مما ساعد علي تخليق وعي كوني عالمي. وهذا الوعي الكوني العالمي دعمته أنساق قيم حضارية جديدة بازغة سيطرت علي أذهان ووجدان أجيال الشباب علي وجه الخصوص. وهذه الأجيال أصبحت تتواصل علي نطاق العالم بشكل مباشر, عن طريق الانترنت, وتتبادل الاراء من خلال المدونات والفيس بوك والتويتر. وعي كوني يتخلق, وحضارة جديدة تبزغ ووسائل اتصال مستحدثة تسيطر, وإعلام جديد قادر علي أن يتخطي قيود الحكومات, وقمع النظم السلطوية. هذه هي الملامح الأساسية التي أدت الي تزايد ضغوط الداخل علي الأنظمة السياسية السلطوية. وإذا أضفنا إلي ذلك بزوغ مؤسسات متعددة للمجتمع المدني في عديد من البلاد العربية, سواء منها التي شهدت إحياء لها بعد انقطاع طويل, أو تأسيسا جديدا لها, لأدركنا أن مطالبة الداخل العربي بالديمقراطية أصبحت تؤرق قادة النظم السياسية السلطوية. وهكذا أبدي هؤلاء القادة استعدادهم خصوصا تحت ضغوط الخارج لإنجاز التحول الديمقراطي, ولكن بشروطهم هم, وهي بكل بساطة التدريج الشديد الذي يكاد يصل الي البطء المتعمد, واحترام الخصوصيات الثقافية الذي يكاد ينفي معالم الديمقراطية الأساسية وأبرزها تداول السلطة, والانفراد بالحكم الذي يمنع هيكليا المشاركة الحقيقية للجماهير وللنخبة معا في عملية صنع القرار. غير أنه بالاضافة الي مطالب الداخل المتصاعدة التي أخذت شكل الحركات الاحتجاجية الاقتصادية والسياسية هناك ضغوط الخارج, وأبرزها ضغط الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي علي الدول العربية السلطوية, وقد اتخذت الضغوط الأمريكية بحكم الهيمنة المطلقة علي النظام العالمي وجسامة المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط, أشكالا محددة تستحق التأمل. فقد برزت فكرة الشرق الأوسط الكبير الذي كان يراد منه إدماج اسرائيل في المنطقة, علي ان تكون هي ضابطة الايقاع, بحيث تصبح الدول العربية المختلفة اشبه ما تكون بدول من الاتباع تحت القيادة الاسرائيلية, بحكم تفوقها العسكري وتقدمها العلمي والتكنولوجي. وقد فشل هذا المشروع لظروف متعددة وانتقلت الولاياتالمتحدةالأمريكية في مرحلة أخري الي فرض النموذج الديمقراطي من خلال غزو العراق عسكريا, وتحويله الي نظام ديمقراطي تحتذيه باقي الدول العربية! وسقطت هذه الخطة بعدما تبين الفشل الأمريكي الذريع الذي لم ينجح الا في تمزيق نسيج الشعب العراقي, والحكم العسكري الذي لم ينجب إلا حكما سياسيا عميلا يأتمر بأوامر الحكومة الأمريكية من ناحية, ويتيح الفرصة لإيران من ناحية أخري بصورة غير مباشرة إلي أن تتحكم في بعض الأوضاع العراقية. فشل النموذج الديمقراطي الأمريكي المزعوم في العراق, ولم يبق إلا التلويح بتقييد المعونات الاقتصادية والضغوط السياسية علي بلد مثل مصر, والتي رفضت رفضا باتا التدخل في شئونها الداخلية. وبغض النظر عن هذه الملاحظات العامة المتعلقة بالسياق التاريخي الذي حدثت فيه الهبة الشعبية التونسية المجيدة التي اقتلعت جذور نظام بن علي, فإن السؤال المهم هو هل انتقلنا مرة اخري من مناخات الاصلاح السياسي التي سادت في العقود الاخيرة الي مناخ الثورة, الذي هيمن علي العالم في الخمسينيات والستينيات؟ وهل سيشهد العالم العربي ثورات علي غرار الهبة الشعبية التونسية, أم أن المشابهة التاريخية لن تفعل فعلها هذه المرة نظرا لأسباب متعددة؟ قد يلاحظ القارئ أولا انني تحفظت في استخدام لفظ الثورة, واستخدمت بدلا منه مصطلح الهبة الشعبية, وذلك لسبب مؤداة ان الثورة كما تدل علي ذلك الأدبيات العلمية لابد لها حين تنشب ان تكون لها قيادة سياسية, وهذه القيادة لابد لها ان تمتلك رؤية استراتيجية تتعلق بمستقبل النظام السياسي بعد القضاء علي النظام القديم. غير أنه في الحالة التونسية التي عبرت في الواقع عن الحيوية السياسية الفائقة للشعب التونسي المناضل التي ظهرت بوادرها في المقاومة المستمرة غير المباشرة للنظام القمعي التونسي الذي شيده بن علي, تكشف عن أن هذه الهبة الشعبية لم تكن لها قيادة سياسية, وانها تجاوزت بتوقيتها المفاجئ واندفاعها الجسور, وإصرارها العنيد علي اقتلاع اسس النظام القديم, كل الأحزاب السياسية المعارضة, وكل مؤسسات المجتمع المدني, خصوصا المؤسسات الحقوقية من بينها التي ناضلت من أجل حقوق الانسان. وتكشف وقائع هذه الهبة الشعبية الجبارة التي بدأت في17 ديسمبر بحرق الشاب الجامعي محمد البوعزيزي نفسه بعد قيام الشرطة بإهانة كرامته, وتظاهر مجموعات من الشباب في19 ديسمبر في سيدي أبو زيد ضد الغلاء والبطالة وتضامنا مع بوعزيزي, وانتقال احتجاجات البطالة في24 ديسمبر من سيدي بوزيد الي منزل بوزيان ومصرع شخصين برصاص الشرطة, الي4 يناير حيث توفي بوعزيزي في المستشفي, إلي اندلاع اضطرابات عنيفة في8 يناير في مدن القصرين وتاله والرقاب, بالاضافة الي3 شباب تونسيين يحاولون الانتحار, الي9 يناير حيث أعلنت السلطات التونسية سقوط 21 قتيلا مع المظاهرات, في حين ان مصادر نقابية قدرت عدد القتلي بخمسين قتيلا. وفي10 يناير ألقي الرئيس بن علي خطابا تعهد فيه بتوفير300000 ألف فرصة عمل, في الوقت الذي أغلقت فيه السلطات التونسية المؤسسات التعليمية. وفي11 يناير بدأت أولي المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تونس العاصمة. وفي12 يناير يعلن رئيس الوزراء الغنوشي إقالة وزير الداخلية وإطلاق سراح المتظاهرين المعتقلين. ويفاجئ الرئيس بن علي الشعب التونسي بخطاب أخيرا يتعهد فيه بمغادرة السلطة في 2014 ويأمر بوقف اطلاق النار علي المتظاهرين, ويعد بالحرية الكاملة للإعلام, بعد أن صاح في الخطاب وهو مذعور لقد فهمتكم, لقد فهمتكم!. ولكن كان قد فات الأوان! واضطر الرئيس بن علي الي الهروب مقلعا بطائرته الي الخارج, بعد أن رفض الجيش إطلاق النار علي الشعب. لقد تعمدت أن أذكر مسلسل الأحداث البالغة السرعة, التي تجعل الانسان يلهث في تتبعها, والتي تجعل من الهبة الشعبية التونسية أسرع هبة في التاريخ أدت إلي إسقاط نظام قمعي سلطوي. استمر أكثر من عقدين من الزمان. الهبة الشعبية مازالت مستمرة, تضغط علي حكومة الوحدة الوطنية لإقصاء كل رموز النظام القديم وإلغاء الحزب الدستوري. ويبقي السؤال متي تتحول هذه الهبة الشعبية الجبارة الي ثورة يتزعمها قادة شعبيون حقيقيون قادة لديهم من الوعي التاريخي ما يساعدهم علي صياغة رؤية ديمقراطية مستقبلية للشعب التونسي؟