شهد عقد الثمانينيات من القرن الماضي بروز وانتشار الحاسبات الشخصية واشتداد تأثيرها علي البشرية, ثم جاء عقد التسعينينات وسجل نفسه كعقد شهد انفتاح الإنترنت وتحولها إلي مرفق عالمي للمعرفة والبحث والتجارة والإنتاج والخدمات, وتلتها سنوات العقد الأول من القرن الجديد لتسجل لنفسها فضل إنجاز وإنضاج الأسس اللازمة لتحقيق التلاحم والاندماج أو التمازج بين كل من شبكات المعلومات بكل أدواتها وأجهزتها وبنيتها التحتية, وشبكات الاتصالات الثابتة والمحمولة بأدواتها وأجهزتها وبنيتها التحتية, والبرمجيات المعقدة القابعة في أقبية المؤسسات والشركات, والإلكترونيات والشرائح الدقيقة المبثوثة في ربوع العالم في صورة أجهزة وآلات وأدوات بالمصانع والمنازل والمباني وأحيانا في رقاب الكلاب والبقر وعلي فروع الشجر, ليتحقق إطار يسمح للجميع بالعمل المشترك الذي يكمل بعضه البعض, وخلال أيام لن يبدأ فقط عام جديد, وإنما عقد جديد هو الثاني في القرن21 الذي حجز لنفسه مكانا في تاريخ البشرية باعتباره عقد الهرولة إلي الذكاء. والذكاء الذي نقصده هنا ليس هو الذكاء كما نعرفه عند البشر والكائنات العاقلة الأخري, ولكن المقصود به أن يمتلك شيء ما عاقل كالإنسان أو غير عاقل كالحيوان والنبات أو جماد كالأجهزة والمعدات والسلع.. ألخ القدرة علي التقاط وتجميع ومعالجة بيانات ومعلومات عن نفسه أو عن غيره, ثم التواصل مع غيره عبر إرسالها أو استقبال بيانات أخري بشأنها, وهنا يكون هذا الشيء قد امتلك نظاما متكاملا يمنحه قدرا من الوعي والإدراك والمعرفة بما يدور حوله بشأن وظائف وأغراض محددة, وما يتعين عليه عمله أو القيام به في أوقات معينة أو تحت ظروف معينة, وهو ما يطلق عليه في هذه الحالة الذكاء. من هنا فإن ذكاء من هذا النوع يمكن تصنيعه وتوليده وإضفائه علي أي شيء, من الحجر إلي الشجر فالحيوانات فالبشر فالكيانات والمؤسسات, عبر مد هذه الأشياء بالأدوات الأساسية التي تكفل بناء نظام لالتقاط البيانات وجمعها, ثم معالجتها ثم القدرة علي التواصل مع أنظمة أخري بغية تحقيق وظيفة أو هدف معين. وتؤكد جميع المؤشرات المتاحة أن كل مفردات تكنولوجيا المعلومات باتت تنجذب وتهرول فرادي وجماعات للسير تحت ظلال مفهوم الذكاء, فالحاسبات والتليفونات المحمولة والبرمجيات وأدوات التطوير ونظم التخزين وشبكات نقل المعلومات وشبكات الاتصالات والكاميرات وغيرها, يتجه جميعه للانتقال من مجرد شيء يفعل إلي شيء يتلقي ثم يعرف ثم يفعل ثم ينقل ليتلقي من جديد, أي ينتقل من مستوي العمل المحدود بكفاءة إلي العمل المتواصل بذكاء, وهذه الهرولة تطور طبيعي لما تحقق خلال العقود الثلاثة الماضية المشار إليها, لأنه لم يكن متاحا الوصول إلي هذه المرحلة بدون أدوات طرفية بدأت بالحاسبات الشخصية المكتبية وانتهت بالتليفونات المحمولة والحاسبات المحمولة الخفيفة واليدوية, وبدون بنية تحتية منفتحة علي بعضها البعض, وبدون بؤرة تلاقي فوق عملاقة يعمل من خلالها الجميع اسمها الإنترنت. ويمكننا القول إن هذا بالضبط المحور الأساسي الذي ستدور في فلكه صناعات الحاسبات والبرمجيات ونظم المعلومات والتليفونات المحمولة والبرمجيات والإلكترونيات وشبكات الاتصالات, وعليه فإن العقد الثاني من القرن21 وفي مقدمته عام2011, سيسعي لأن يضع بين يديك أجهزة ومعدات وبرمجيات وأدوات, جميعها يتصف بقدر من الذكاء الذي يمنحك فرصة أن تحيا حياة أكثر إبداعا عند استخدامها, بدءا من التفكير والعمل الإنتاج وإدارة الموارد, وانتهاء بالترفيه والتسلية والاستمتاع بالوقت. ولو قصرنا الأمر علي عام2011 فقط, سنجد أن ذلك سيتجسد عمليا في بروز وانتشار باقة منتجات في مقدمتها الحاسبات اللوحية والأجهزة ثلاثية الأبعاد والحوسبة السحابية ونظم المعلومات الذكية والتليفونات الذكية, وهي الباقة التي نتوقع لها أن تتصدر واجهة عام2011 وتدفع ما عداها إلي الوراء. لمزيد من التوضيح سنمر سريعا علي بعض اللمحات المتوقعة علي سبيل المثال لا الحصر, ونبدأ بالحاسبات اللوحية الجديدة التي تعد خلطة ذكاء شديدة التركيز, حيث تندمج فيها قدرات الحاسبات المحمولة مع التليفونات المحمولة علي نحو يقدم لمئات الملايين من مستخدمي الجهازين حول العالم أرضية واسعة للعمل والإنتاج والترفيه بروح إبداعية تستمد طاقتها من قوة الحوسبة المتاحة في أداة خفيفة سهلة الاستخدام, وقوة العمل أثناء الحركة اعتمادا علي تواصل لاسلكي عبر شبكات المحمول, وهذه النوعية ستدق أكبر مسمار في نعش الحاسبات المكتبية والحاسبات المحمولة بصورتها التقليدية, وتؤسس لفئة ثالثة هي أجهزة التي يمكنني تسميتها ب تيل موب كومبtellmobcomp أو الحاسب المتلفن المحمول. وإذا نظرنا إلي الحوسبة السحابية التي يرها الكثيرون الجواد الرابح علي الأقل في المدي القصير والمتوسط, سنجد إنها في جوهرها حزمة أفكار وأدوات ونظم مستندة إلي بنية تحتية مهمتها الانتقال بالمؤسسات والشركات والأفراد من تحسين الأعمال إلي العمل بذكاء, ومن الأسباب الرئيسية لهذا التوجه أنه علي الرغم من كثافة استخدام النظم والبرمجيات في شتي المجالات ومختلف الأماكن والمؤسسات وحتي لدي الأفراد, فإن العمليات والإجراءات ودورات العمل لم تشهد القدر نفسه من التطور, والشركات والمؤسسات حول العالم بدأت تدرك حاجتها إلي إعادة ابتكار البنية الأساسية والعمليات لكي تسمح لموظفيها بالتعاون مع بعضهم البعض ومع عملائهم ومع شركائهم, وتعزيز الإبداع وحل المشكلات وتفعيل روح الابتكار وريادة الأعمال, وتحسين خبرات الموظفين وقدرتهم علي الإبداع وتحويل الأفكار إلي مشروعات تستفيد منها بدلا من إعاقتهم, ولا تخرج الحوسبة السحابية عن هذا الإطار, فهي ليست شيئا جديدا تماما, بل تعتمد علي أشياء ونظم ذكية مثل النظم الافتراضية وأدوات التخصيص المميكنة وتوصيل التطبيقات عبر الشبكات العامة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره. ولو وجهنا النظر إلي زاوية أخري من الصورة صوب الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية وفي قلبها التليفزيونات والكاميرات الرقمية وأجهزة الألعاب, سنجد أن القافز منها إلي المستقبل منجذبا تماما إلي العمل بمفهوم الأبعاد الثلاثية, سواء في التقاط وإنتاج المحتوي من صور وأفلام وألعاب أو في عرضه علي الشاشات أمام مشاهديه ومستخدميه أو مستهلكيه, ويري مصنعو هذه الأجهزة جميعا أن مفهوم الأبعاد الثلاثية هو الذي سيمنح أجهزتهم قدرا أعلي من الذكاء في العمل, ويمنح مستخدميها قدرا أكبر من الإبداع في الاستخدام, بما يتناسب والتوجه الرئيسي الذي يتوقع أن يسود في العقد الجديد, فالعمل بالأبعاد الثلاثية في إنتاج المحتوي أو تقديمه يقتضي أن تكون منتجاتهم علي قدر أعلي من الذكاء في العمل, بمعني أنها تستطيع العمل علي مسارين متزامنين بدلا من مسار واحد, أو تتطور لديها قدرات التعامل مع البيانات ليس علي مستوي السعة ولكن علي مستوي طريقة المعالجة واستنباط ملامح جديدة للصورة المعروضة أو الملتقطة, وبالنسبة للمستخدمين, فإن الأمر يتجاوز مجرد المشاهدة العادية إلي ضرورة الإبداع في تطبيق ما باتت هذه الأجهزة تحتويه من ذكاء والتعامل معها. ولتوضيح هذه الفكرة علينا أن ننظر مثلا إلي ما حدث في مجال الكاميرات الرقمية, فقد أضاف إليها مصنعوها العديد من التحسينات, فبناسونيك علي سبيل المثال تزود كاميراتها بعدسات إضافية يمكنها التقاط صور مجسمة تنقل إلي شريحة إلكترونية واحدة, في حين تلجأ شركات أخري مثل شركة فوجي للطريقة التقليدية, حيث تستخدم عدستين وشريحتين من الشرائح الإلكترونية, فيما تلجأ سوني لعدسة واحدة وسرعة عالية في التقاط الصورة, ليتم التقاط صورة يمني وأخري يسري في تزامن دقيق, ليلصقا بعد ذلك واحدة فوق الأخري داخل الكاميرا. ولم يكن تحسين مستوي الذكاء في الكاميرات هو الجهد الوحيد من نوعه في هذا السياق, بل امتد أيضا إلي برمجيات التعامل مع الصور سعيا وراء تطبيق مفهوم الأبعاد الثلاثية, وفي هذا الصدد ظهرت برامج أكثر ذكاء يمكنها أخذ الصور ثنائية الأبعاد التي تم تصويرها وتحويلها إلي صور ثلاثية الأبعاد, ثم العودة مرة أخري للنسخة الأصلية ثنائية الأبعاد إن أراد, وهو ما يوفر علي المستخدم دفع مبالغ إضافية من أجل شراء كاميرات ثلاثية الأبعاد. أما التليفونات الذكية فيتوقع أن تكون نجما ساطعا في2011 وما بعده, بل يري كثيرون أنها ستكون النجم المكافئ لما فعله الحاسب المكتبي في تسعينيات القرن الماضي والحاسب المحمول في العقد الأول من القرن الحالي, لكنها ستتميز عنهما بأنها أحد ملامح عقد الذكاء, بما تحتويه من ذكاء في نظم التشغيل والتطبيقات والخدمات وطرق الاتصال بالإنترنت ومواقع المحتوي, فضلا عن ذكاء في الجمع بين باقة مميزات أخري منها: أشكال نحيفة جذابة ومعالجات سريعة وشاشات تعمل باللمس وملفات موسيقي وصوت حادة وكاميرات ثابتة ومتحركة وخاصية تحديد المواقع والتوافق مع معايير الجيل الرابع للاتصالات المحمولة. يبقي القول إن موجات الهرولة نحو الذكاء التي تشهدها الأجهزة والبرمجيات والنظم والأدوات المختلفة ستدور دورتها ثم تعود إلي منطقة التلاقي أو القلب أو محور الأمر برمته, وهي شبكة الإنترنت لتضفي عليها قدرا إضافيا من النضج, فذكاء الأطراف الذي ذكرنا منه اللمحات السريعة السابقة, سيجعل القلب الإنترنت يتحول خلال العقد الجديد من شبكة واسعة الانتشار إلي شبكة كلية الوجود, تتاح في كل مكان وفي كل وقت, ويمكن الوصول إليها بكل الوسائل, وترتبط بها كل الأشياء العاقلة وغير العاقلة, في منظومة كبري هائلة لا تستثني بشرا ولا حيوانا ولا نباتا ولا حجرا.