نص محاضرة الدكتور محمود محيي الدين في الاحتفال المئوي لتأسيس الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع الأزمات الاقتصادية حروب عالمية تتصارع فيها كل أطراف الأرض
من داخل أسوارها، وبعد 10 سنوات فقط من تأسيسها، رفع زعيم الأمة سعد زغلول صوته عاليا مناديا بإسقاط الحماية البريطانية علي مصر، وما بين مصر والعالم في 1919، وفي 2009، جرت في النهر أحداث جسيمة، استعرضها الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار، خلال محاضرته في ذكري مئوية الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع.. إلي نص المحاضرة. لعل نشأة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع منذ مائة عام تسوق الدليل علي همة عجيبة ونهضة كبري في عهد كانت مصر فيه ترزح تحت وطأة احتلال مستبد، يضيق علي البلاد سبل العيش والتقدم، ومع ذلك أخذ رواد النهضة والاستقلال في إنشاء جيل يضارع أبناؤه في تعلمهم وأسس تكوينهم أقرانهم في أوروبا.. ذلك لمن أتيحت له فرصة التعليم من المصريين. فليست مصادفة أن يتزامن إنشاء الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي مع تأسيس الجامعة المصرية، والتوسع في إقامة المدارس في ربوع مصر، والشروع في ترجمة أمهات الكتب ومنها ما كان في علم الاقتصاد ما قام بتعريبه حافظ إبراهيم وخليل مطران بتكليف من أحمد حشمت باشا وزير المعارف المصرية ليكون في مقررات المناهج الدراسية في المدارس. إن هذا يرجع إلي جذور غرست في الإقبال علي العلم وبإعادة إحياء واحد من فروض الدين وصلاح الدنيا، علي يد فريق من المتأدبة وأصحاب الدعوة لنهضة الأمة المصرية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بما جعل لمصر الحديثة قدرًا فريدًا مازال ينهل المصريون المحدثون من ريعه وقوة دفعه. لقد فطن هذا الجيل المنشئ لمؤسسات العلم والمعرفة أن سبيل الاستقلال يجب أن يمهد بإعداد جيل قادر علي حمل لواء الحرية والتقدم، فكان رواد النهضة رافعين شعلة الأمل التي قادت الشعب من بعد ذلك للتحرير ونشدان التطور. ولم يكن غريبًا علي جمعية، كانت هذه ظروف نشأتها، أن تشهد بعد 10 سنين فقط من تأسيسها وفي عام شهير في تاريخ الأمة المصرية هو عام 1919، لم يكن غريبًا أن تشهد الجمعية خطبة لسعد باشا زغلول معقبًا فيها علي محاضرة لمستشار أجنبي بمحكمة الاستئناف عن مشروع قانون العقوبات الذي قصد أن يأتي منسجمًا مع الحماية البريطانية وفقًا لمفهوم المحتل، فيرفع سعد باشا صوته ببطلان الحماية أمام جمع غفير من رجال القانون والمثقفين. وكان من خطبة سعد باشا منذ تسعين عامًا مضت ما أكد فيه أن أمتنا المصرية ليست من قبيل الأقوام الهمج.. وإنما بلد كبلدنا تكون له حياة عريقة في القوانين والشرائع، ويحدد سعد باشا مبادئ رصينة في التعديلات التشريعية ووضع النصوص القانونية، منها: أن تكون هذه النصوص الجديدة متقفة مع أخلاق البلاد وعاداتها ومؤلفاتها العلمية، ومنها أيضًا أن تقوم الأدلة علي ضرورة وصفها بالإحصائيات وآراء أهل الفن. ثم انبري سعد باشا ليندد بالحماية المفروضة فرضًا علي البلاد المصرية، ويدحض أسباب وجودها ويؤكد بالبراهين القانونية مخالفتها للاستقلال الذاتي لمصر الذي ضمنته معاهدة لندن في سنة 1840، وأن هذه الحماية باطلة لا وجود لها قانونًا ولم تطلبها مصر أو تقبلها. السيدات والسادة،، لقد شهدت هذه الجمعية العتيدة تبدل أحوال الزمان بالعباد.. عاصرت الملكية ونهايتها وتأسيس الجمهورية وبدايتها.. عاشت الحرب العالمية الأولي ثم الثانية، وحرب فلسطين ونهبها والعدوان الثلاثي، ثم إعلان الوحدة فالانفصال، ورأت حركة التمصير فالتأميم، وشهدت اقتصاد الحرب من عام النكسة في عام 1967 حتي عام النصر المبين في 1973، رأت الانفتاح وشهدت عودة الحركة في القناة بعد إعادة الافتتاح.. رأت أزمة المديونية الخارجية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات قبل السيطرة عليها في بداية التسعينيات. وتعاصر الجمعية في هذا العقد من القرن الحادي والعشرين جهود الإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاعات الإنتاجية وتدعيم البنية الأساسية ودفع معدلات النمو والتنمية ومكافحة الفقر بهمة يقودها السيد الرئيس محمد حسني مبارك. شهدت الجمعية العالم وبريطانيا وفرنسا تتقاسمه، إلا قليلاً، من خلال المستعمرات والاحتلال الاستيطاني، وشهدت العالم تحت هيمنة القطبين المتمثلين في الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي، وعاصرت تفرد الولاياتالمتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بقمة العالم إلي حين، وكان للجمعية في ذلك من خلال أعضائها كتابات تحلل وترصد آثار التحولات وتقترح السياسات والإجراءات. لم يتوقف فضل جمعية الاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع فاستمر عطاؤها وفضلها علي الأجيال المعاصرة من الاقتصاديين وخبراء العلوم السياسية والإحصاء والتشريع، فأنا من جيل فتحت الجمعية أبوابها أمامه ليشهد محاضرات قيمة ويطلع علي أوراق علمية رصينة لأساتذة أجلوا العلم.. فخلد ذكرهم، مع اختلاف مشاربهم الفكرية وتباين مناهجهم التحليلية. أنا من جيل شهد محاورات ومناظرات دارت بين قمم الاقتصاد السياسي وتحليلاته مثل الأستاذ الدكتور سعيد النجار، والأستاذ الدكتور إسماعيل صبري عبدالله، فيما قدرا، علي اختلاف بينهما، بأنه النهج الأجدي بالاتباع في إدارة السياسة الاقتصادية، واستمع من خلال ندوات الجمعية إلي أولي وصايا الدكتور إبراهيم شحاتة لبلاده، ومحاضرات قيمة للأستاذ الدكتور محمد زكي شافعي، وأوراق علمية وندوات ومؤتمرات عن قضايا الاقتصاد المصري واقتراحات بالتصدي لها من جيل الأساتذة من ذوي الفضل في تطور المدرسة الاقتصادية المصرية. لقد حظي جيلي بأن يشهد حوارات ومناظرات كادت جدران الجمعية العتيدة تتصدع لها من قوة الحجة والبراهين التي يسوقها المحاورون والمناظرون ذوو العلم الرصين، هذا مع ما كان ملحوظا من الالتزام بالأدب الجم في الحوار رغم حدة الاختلاف. وقد يصدق في الأفكار والحوارات التي تناولتها أعمال الجمعية ما ذكره جون ماينارد كينز في كتاب النظرية العامة للتشغيل وسعر الفائدة والنقود الصادر عام 6391، من أن أفكار الاقتصاديين وفلاسفة السياسة، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، تظل أكثر عمقا وقوة مما هو مفهوم منها، وما يحكم العالم في النهاية هو القليل من شيء آخر غير هذه الأفكار. تحولات شديدة في تقديري أن الجمعية تشهد في الأوقات الراهنة ما هو أشد وأنكي في التحولات الاقتصادية مما شهدته في تاريخها كله نظرا لتزامن هذه التحولات وتراكمها في فترة وجيزة متلاحقة التطورات، وألخص هذه التحولات في ثلاث نقاط: أولاً: الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة.. وهي الأشد سوءا والأعمق ولا يدانيها في شرها إلا الأزمة المالية الكبري التي اندلعت في عام 9291 التي أدت، مع سوء إدارة لها، إلي الكساد الكبير، ومع أن هذه الأزمة الراهنة التي ما زال يعاني العالم من آثارها ستنتهي كسابقاتها من أزمات بعد حين، لكن سيتحمل تبعاتها ويشترك في دفع تكلفتها البريء منها مع المذنب والفقير مع الغني.. خاصة مع ما نراه من إجراءات للتعامل مع الأزمة قد تكون أكثر منها شراً.. إذ نري تزايدا في الحمائية في سبل حركة التجارة أمام سلع وخدمات منتجة في الدول النامية وتعويق لحركة الاستثمار وتدفق رءوس الأموال بسبب عجز الموازنة للدولة الذي ازداد اتساعا في الاقتصادات المتقدمة بما يسبب مزاحمة للموارد التي يمكن توجيهها للدول النامية. بما يجعلنا بصدد واقع عالمي جديد يتمثل في انخفاض معدلات النمو وتراجع مستوي الناتج وانخفاض حجم التجارة الدولية وارتفاع تكلفة رأس المال وارتفاع معدلات البطالة من جراء ذلك، مع احتمال ارتفاع معدلات التضخم العالمية في المستقبل إذا تم اللجوء لسبل تضخمية في تمويل عجز الموازنة في الدول المتقدمة، ويبرز هنا تطلعنا إلي دور الجمعية في المستقبل في رصد هذه التغيرات وتأثيرها علي الاقتصاد المصري وسياساته واقتراح البدائل بشأنها. ثانياً: إن الأزمة العالمية ليست فقط في أوضاع الاقتصاد ولكنها أزمة في علم الاقتصاد، فمن المشاهد خلال المائة سنة الماضية أن أفكار الاقتصاديين وآراءهم في إدارة الاقتصاد قد تبدلت عدة مرات، وكان ما يدفع إلي هذا التبدل أزمات مالية واقتصادية كبري. ألم تأت الأفكار الكينزية في الثلاثينيات والتي سادت بعد الحرب العالمية الثانية إلا من رحم الكساد الكبير واعتباره دليل فشل الأسواق وعجز السياسة النقدية عن التعامل معه؟ ألم تأت ثورة ملتون فريدمان ومدرسة شيكاغو المضادة في مطلع الستينيات من القرن الماضي إلا من رحم فشل السياسات الكينزية واعتمادها علي إدارة الطلب في التعامل مع أزمة الكساد التضخمي؟ واليوم يواجه علم الاقتصاد تحديا كبيرا بعد حدوث الأزمة المالية التي لم يفلح التحليل الاقتصادي المعتمد علي النماذج الرياضية والقياسية في التنبؤ بها أو الحذر منها. وقد ظهر جلياً بعد نشوب الأزمة المالية والاقتصادية أن علم الاقتصاد قد قل نفعه وتراجع تأثيره لواحد من أمرين: الأمر الأول: عند خضوعه لأيديولوجيات مغلبة للمذاهب والعقائد السياسية وافتراضاتها علي منطق التحليل العلمي. الأمر الثاني: عند إفراط الاقتصاديين في استخدام النماذج الرياضية والقياسية والإغراق في التجريد وافتراضات لرشادة التوقعات ورشد سلوك المستهلك والمنتج والظن باكتمال آليات الأسواق. والمتابع اليوم لما ينشر في المجلات العلمية الاقتصادية المرموقة ومؤتمرات الاقتصاديين يجد أن علم الاقتصاد محل مراجعة، ونظرياته محل شك وفحص وإعادة نظر، ونماذجه عرضة لتساؤلات واستفهام. نتطلع في هذا الصدد إلي دور الجمعية في الإسهام في إعداد جيل نابه من الاقتصاديين القادرين علي التصدي للمعضلات والمشكلات الاقتصادية وتقديم الحلول لها وعدم الاكتفاء بسرد ما يظنون أنه من مسبباتها، خاصة مع التغيرات الراهنة في العلم وأدواته التحليلية. ثالثاً: فعلي النحو الذي شهده العالم بعد أزمات اقتصادية سابقة وكأنها كالحروب الكبري تسفر عن خاسر مهزوم ورابح منتصر، وأطراف هذه الحرب هي أمم الأرض جميعاً الداخلة في سباق.. بعضها يسعي إلي الصدارة وبعضها لا يسعي إلا للبقاء في مضماره. ولا شك أن هذه الأزمة من معجلات نتائج السباق الذي نشهده علي مدار ثلاثين سنة ماضية.. فالمتوقع في العام المقبل 2010، أن تصبح الصين في المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي سابقة اليابان لأول مرة وليصبح الاقتصاد الصيني معادلاً لما يقترب من ٪40 من حجم الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الياباني عند ٪35 فقط من حجمه. وبمعدلات النمو الراهنة في الصين سيحتل اقتصادها المرتبة الأولي علي مستوي العالم مع نهاية العقد الثاني من هذا القرن وربما قبل ذلك.. وسيزداد الاقتصاد الهندي أيضاً قوة وتطوراً فتجد في النهاية تحولاً في ميزان القوة الاقتصادية من الغرب إلي الشرق بما يعود بنا إلي سيرة العالم السابقة علي عام 1820 عندما كانت هناك هيمنة آسيوية قبل الصعود الغربي علي مدار القرنين السابقين. ولعله من المتوقع أن نشهد من هذه الجمعية المرقومة تحليلاً لأسباب هذه التغيرات، والأهم تأثيرها علي الاقتصاد المصري وسياساته التجارية والاستثمارية وما يتطلبه ذلك من تغير في سبل نهل المعارف لفهم التطورات المعاصرة وتأثيراتها علي أحوال الناس. لقد حققت الدول الآسيوية ذات الاقتصادات البازغة تطوراً بفضل الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي الكلي والانفتاح علي العالم الخارجي تصديراً وجذباً للاستثمار والمعارف، وكذلك علي آليات السوق المنظمة والمراقبة بفاعلية، والالتزام الصارم بتحقيق برنامج متكامل للتقدم والتحديث، وتبنيها لأفكار جديدة متطورة رفعت من تنافسياتها بفضل الاستثمار في البشر تعليماً وتدريباً ورعاية لهم، والاستثمار في تطوير البنية الأساسية للتقدم،، فهل لنا من استفادة من هذه الدروس الآخذة بأسباب التحديث والتطوير والنهضة؟ وهل لنا من سبيل لأن ننفض عن العقول أفكاراً سيئة واقتراحات غير ذات جدوي في هذا العالم الجديد؟ فالعبرة في التقدم ليست بمدي قدرة تبني أنصاره لأفكار جديدة ومتطورة مناسبة للعصر فحسب، ولكن بمدي القدرة علي التخلص من الأفكار البالية التي تعوق حركة النهضة والتحديث وملاحقة متطلبات العصر. وأحسب أن جمعية الاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع وهي تحتفل بمائة عام علي تأسيسها تعطي البرهان الساطع علي العراقة والمعاصرة التي جعلتها عنواناً لإصدارها العلمي الرصين، وصار مبدأ لنظامها وانتظامها وأسلوب عملها. وإلي مائة عام قادمة تحمل الخير للأمة المصرية.