في11 مارس2009 أعلنت جوجل رسميا عن طرح خدمة جوجل الصوتية, وفي عددها الصادر في الأول من مايو2009 قدمت مجلة لغة العصر شرحا تفصيليا لهذه الخدمة وتداعياتها, والآن وبعد مرور حوالي عام وأربعة أشهر بدأت سوق الاتصالات المحلية تتنبه إلي هذه الخدمة وتبدي قلقها من تأثيراتها المحتملة علي عائدات شركات الاتصالات الأرضية والمحمولة, مما دفع وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لأن يؤكد في أحد تصريحاته الأخيرة بأن الاتجاه العام هو عدم رفض أي خدمة تقدمها شركات الإنترنت العالمية, ولكن في إطار صيغة تحقق مصالح جميع الأطراف الأخري التي تتأثر بهذه الخدمة, وتقديري أن هذه الخدمة تستحق وقفة جديدة تعيد عرضها وتناولها في ضوء موقعها داخل حركة التطور الجامحة في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, وسبب هذه الوقفة ليس فقط أن السوق المحلية بدأت تهتم بها وتقلق بشأنها, ولكن لأن هذه الخدمة تعد علامة من علامات تحقق الحلم الكبير الذي راود صناعة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات خلال العقدين الآخيرين, وهو حلم بناء وتشغيل شبكة كلية الوجود في ربوع العالم. والتعرف علي موقع خدمة جوجل الصوتية في حركة التطور العامة بصناعتي الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يقتضي أن نتلمس أولا جذور حلم الشبكة كلية الوجود والتعرف عليه, فبدون ذلك لن ندرك جيدا ما تحمله هذه الخدمة من قيمة, بل قد لا نتعرف عليها بصورة سليمة من الأصل. لو نظرنا إلي المعني الاصطلاحي لفكرة الشبكة كلية الوجودUbiquitousNetwork) سنجدها تعني الشبكة التي توجد في كل مكان في كل الأوقات ويستخدمها ويتصل بها كل الناس وكل الأشياء عبر كل الأدوات', ومصطلحUbiquitous أو كلي الوجود يعود إلي كلمة يونانية قديمة هيUbique ومعناها في كل مكان, ويعود استخدام هذا المصطلح في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إلي نهاية ثمانينيات القرن الماضي, وقد حل هذا المصطلح محل مصطلح آخر كان سابقا عليه, فبعدما كان الحديث يدور عن حلم الشبكة التي تصل إلي أيAny مكان ويستخدمها أي شخص في أي وقت, تطور الأمر وراح باحثون آخرون يتجاوزون الحديث عن أيAny مكان وأي شخص إلي كلEvery مكان وكل شخص ووقت, ثم استعاروا مصطلحUbiquitous بما يحمله من معاني الوجود الكلي واستخدموه لتوصيف الحالة التي ستصبح عليها شبكات الاتصالات والمعلومات. كان من أوائل الذين نقلوا الحديث من مرحلة أي مكان إلي كل مكان الدكتور مارك ويزر الباحث بمعامل زيروكس عام1991, الذي صاغ في ذلك الوقت مصطلح الحوسبة كلية الوجودUbiquitousComputing, وكان يقصد به عصر جديد من الحاسبات مختلفة الأنواع والأشكال تدمج داخل كل شيء نستخدمه علي كل الوقت بالبيئة المحيطة بنا وتعمل بشكل غير مرئي, ويكمن فيها الذكاء الذي يجعلها سهلة الاستخدام وموجودة في كل مكان وكل الأوقات'. بعد الدكتور ويزر انتقل المفهوم إلي الشبكات في المطلق وليس شبكات الحاسبات فقط, وتلقف خبراء وعلماء الاتحاد الدولي للاتصالات هذا المصطلح وصاغوه في صورته الأوسع وهو الشبكة كلية الوجودUbiquitousNetwork, وفي البداية اختلف المعني من مكان لآخر حول العالم, ففي أوروبا استخدمت الكلمة بمعني جغرافي لتدل علي الشيء المتاح بكل الأماكن في مختلف أنحاء العالم مهما كان المكان معزولا, وأقرب مثال لهذا الاستخدام هو شبكات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية التي تغطي الكرة الأرضية, حتي وإن كانت غير مناسبة من حيث التكلفة الاقتصادية, وفي اليابان وكوريا استخدمت الكلمة بمعني خدمات الاتصالات المتاحة في كل وقت وكل مكان ويمكن الوصول إليها بكل السبل بواسطة كل الأشخاص. ظلت هذه الأفكار نظرية إلي حد بعيد, ولم يكن علي الساحة درجة من التطور والنضج تسمح بأن يتم تنفيذها عمليا, بيد أنه خلال السنوات الأخيرة تطورت الإنترنت بصورة لم تكن تداعب أحلام من خططوا لها في البداية, وهو ما جعل الكثيرين يعتبرونها المرشح الأكبر وربما الوحيد الذي بإمكانه تجسيد فكرة الشبكة كلية الوجود تجسيدا حقيقيا وفعليا, وانتهي بهم المطاف إلي القول بأن انترنت المستقبل ستكون الحبل السري لنظام اتصالات عالمي كلي الوجود. علي الصعيد العملي لتطبيق الحلم وإنجازه ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة مئات المحاولات والرؤي والخطط لعشرات من الكيانات البحثية والمنظمات الدولية والشركات التجارية حول العالم, كان منها ما يمكن اعتباره محطات رئيسة, نستعرض ثلاثة منها علي سبيل المثال والتبسيط لا الحصر, ونتناول اليوم المحاولة الأولي التي ظهرت في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين وتبناها خبراء عديدون أبرزهم خبراء الاتحاد الدولي للاتصالات, وهي العمل علي تطبيق مفهوم الشبكة الموحدة ذات البنية التحتية المترابطة ونشره. ومبعث هذه المحاولة أنه في وقت مبكر من القرن الماضي انتشرت شبكات التليفونات علي نطاق واسع, وظلت لفترات طويلة تنقل الصوت فقط, وكان أكثر ما يطمح إليه أصحاب تلك الشبكات أن يوفروا مستويات عالية من الجودة في نقل الصوت إرضاء للعملاء. ومع بدايات الحاسب وانتشاره في الخمسة عقود الأخيرة, وتطور تلك الأجهزة وزيادة الإقبال عليها, تزايد اعتماد الأفراد والشركات علي أجهزة الحاسب. ومع ازدياد حجم الأعمال, اكتشفت الشركات الكبيرة علي وجه الخصوص أنها بحاجة إلي ربط أجهزتها سواء في نفس الفرع في نفس المبني أو بالفروع المجاورة علي مسافات قريبةLocalAreaNetworks-LAN أو بين فروعها البعيدة في مختلف المدنWideAreaNetworks-WAN للمشاركة في الملفات, وتحقيق ربط مستمر بين الفروع المختلفة, وعدم تكرار الوظائف التي يؤديها موظفو نفس الشركة في مختلف الفروع. وهكذا بدأ التفكير في كيفية ربط أجهزة الحاسب, وكيفية تمكين تلك الأجهزة من التفاهم والتخاطب والتراسل مع بعضها البعض. وتطورت إلي حيز الوجود شبكات لنقل البيانات أو المعلوماتDataNetworks, وكانت هذه الشبكات منفصلة عن شبكات نقل الصوت. ظهرت بعد ذلك فكرة ربط أجهزة الحاسب ببعضها عن طريق شبكة التليفونات العادية, وبالفعل بدأت أجهزة الحاسب تخاطب بعضها عن طريق أجهزة المودم, وهكذا صار يتم تزويد كل جهاز حاسب بكارت مودم, ومن ثم توصيله بخط التليفون العادي. حيث يقوم المودم في هذه الحالة بدور المترجم للإشارات من النوع الرقميDigital الذي يفهمه جهاز الحاسب إلي إشارات من النوع التماثليAnalogue الذي تتعامل به شبكات التليفونات. وتمر البيانات عبر أسلاك التليفون العادية لتصل إلي المودم المرتبط بالجهاز المستقبل علي الطرف الآخر ليقوم مرة ثانية بتحويل الإشارات إلي أصلها الأول من النوع الرقمي ليتعامل معها جهاز الحاسب الثاني. ومع ظهور الإنترنت وازدياد إقبال الشركات والهيئات علي استخدامها, فكرت هذه الهيئات كالبنوك مثلا في أن يكون لها شبكاتها الخاصة لربط الفروع ببعضها, لكي تخدم عملاءها أينما كانوا في أي فرع, فبدأت في بناء شبكات بيانات خاصة بها, سواء المحلية النطاق, أو الواسعة النطاق. وانتهي الأمر إلي ثلاث غابات كثيفة من الشبكات, الأولي هي الشبكات القديمة التقليدية المتخصصة في نقل الصوت سواء الشبكات الثابتة أو المحمولة اللاسلكية, والثانية شبكات خدمات نقل البيانات, والثالثة شبكات خدمات نقل الصورة المستخدمة بالأساس في البث التليفزيوني الأرضي والفضائي, ولذلك بدا من الضروري توحيد جميع تلك الخدمات في شبكة واحدة, يمكنها أن تنهي عصر تعدد الشبكات, وتربط بينها جميعا لتنشيء شبكة موحدة. بدأت بعض الشركات العاملة في مجال الاتصالات تطرح مفاهيمها وحلولها لما سمي شبكات الجيل الثالث, كشبكة واحدة تنقل الصوت والصورة والبيانات علي نفس البنية التحتية للشبكات القائمة, حيث تضيف الشبكة الموحدة مختلف أنواع الخدمات الذكية للشبكات القائمة حاليا بمجرد إجراء بعض التعديلات والإضافات علي البنية التحتية المتوافرة, وبالتالي تستفيد تلك الشبكة الجديدة من كافة الاستثمارات التي تم إنفاقها علي البنية التحتية القائمة, وسماها البعض شبكات الخدمات الذكية, بينما سماها البعض شبكات الجيل الثالث, وفضل البعض أن يسميها شبكات الجيل القادم, أما البعض الآخر ففضل تسميتها شبكات المستقبل. يقضي مفهوم الشبكة الموحدة بأن تقدم هذه الشبكة مختلف أنواع الخدمات, نقل الصوت ونقل البيانات ونقل الصورة. والقدرة علي التعرف علي عادات مستخدميها, والتعرف علي التطبيقات التي يفضلونها, وأن يتيح لها ذكاؤها الاصطناعي أن تتفهم الاحتياجات الشخصية لعملائها, سواء من حيث الخدمات, أو الوسائط التي يستخدمونها للحصول علي تلك الخدمات. وبالطبع, فإن مثل هذه التطبيقات الذكية ستفيد الشبكة نفسها من حيث أنها ستتيح لها تجميع مواردها عند دخول المستخدم, وتحديد الشكل الأمثل للتعامل معه, من حيث التطبيقات والوسائط وعرض النطاق الذي يمكن أن تتيحه له. وهكذا, يتم تقديم الخدمات المطلوبة أيا كان نوعها بالجودة والسرعة المطلوبتين عبر شبكة موحدة, فمثلا يمكن لمجموعات البنوك الاستفادة من تلك الشبكات في تطبيقات ماكينات الصراف الآلي, أو تفيد مجموعة من الجامعات في تطبيقات مختلفة من بينها التعليم عن بعد. والخلاصة أن من عملوا في هذه المحطة أو المحاولة كان هدفهم توفير الأرض أو البنية التحتية اللازمة لوضع اللبنة الأولي وربما الأساسية والمحورية نحو التحول إلي الشبكة كلية الوجود, وبعد هذه المحاولة ظهرت محاولتين أو محطتين أخريين, علي طريق إنجاز حلم الشبكة كلية الوجود, وهما نظام الترقيم الموحد, ثمالتواصل السلس اللتان سبقتا خدمة جوجل الصوتية, وإلي الأسبوع المقبل.