في مطلع الشهر الماضي عقدت مجلة العربي الكويتية ندوتها السنوية، ومجلة العربي هي واحدة من أعرق المجلات الثقافية العربية، تجاوز عمرها خمسين عامًا، حافظت خلالها علي مستواها بين المطبوعات الثقافية العربية الجادة، وقد اختارت المجلة موضوعًا مهمًا لندوتها هذا العام وهو «الثقافة العربية والوسائط الحديثة»، وشارك في الندوة مثقفون وباحثون من ثماني دول عربية، قدموا مجموعة من الأوراق المهمة التي تناولت هذا الموضوع المهم من زوايا متعددة، ومثل هؤلاء المشاركون أجيالاً مختلفة من مثقفي العالم العربي ومبدعيه، كما شكلوا أيضا تمثيلاً لمجالات معرفية وإبداعية متنوعة، وقد عالج المشاركون في مداخلاتهم واقع الثقافة العربية في ظل التحولات في مجال وسائط الإنتاج الثقافي والثورة المعرفية والتقنية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وتأتي أهمية الموضوع من التأثير الضخم لهذه التحولات في المجال الثقافي، الأمر الذي يستدعي منا التوقف أمامه لتحسس مواقع أقدامنا في هذه المرحلة الفارقة في التاريخ الإنساني. لقد شهد العقد الأخير من القرن الماضي خاصة في سنواته الأخيرة تطورًا هائلاً في مجال المعرفة ووسائل اكتسابها بفضل إنجازات ثورة المعلومات المستندة إلي ما تحقق من تقدم هائل في الاتصالات، وقد انعكس هذا التطور بدوره علي عمليات الإنتاج الثقافي في أكثر من اتجاه، بصورة تجعل الاحتمالات المستقبلية الواردة فيما يخص الصناعات الثقافية متعددة، فقد تدفع ثورتا الاتصالات والمعلومات بالصناعات الثقافية إلي الأمام بقوة بما تقدمانه من إمكانيات كبيرة في إنتاج الثقافة ونشرها، وقد تؤدي إلي ظهور مفاهيم جديدة للإنتاج الثقافي مغايرة تماما لتلك المفاهيم التي سادت منذ عصر الثورة الصناعية، فمن ناحية ترصد تقارير اليونسكو أن تداخل المنتج الثقافي والمعلوماتي والإعلامي أصبح ظاهرة واضحة في المجتمعات الجديدة التي قطعت شوطا علي طريق بناء أسس حضارة الموجة الثالثة، وإن التطور في تقنيات المعلومات والاتصالات يؤدي كل يوم إلي مزيد من طمس الحدود بين المنتج المعلوماتي والمنتج الثقافي وإلي تداخلهما مع المنتج الترفيهي، فأساليب الإنتاج وهياكله وعمليات التوزيع وظروف استخدام المستهلك للسلعة في الحالات الثلاث تكاد تكون متطابقة الآن، ومن ناحية أخري ترصد هذه التقارير أيضًا سيطرة أشكال الإنتاج عابرة القارات والتي تتخطي حدود الدول والكيانات القومية، وتتجاوز الهويات الثقافية لتفرض أنماطا «عالمية» مدعمة بتقنيات المعلومات والاتصالات، ويرتبط بذلك هيمنة اللغة الإنجليزية علي التعامل في شبكات المعلومات، تلك الشبكات التي أصبحت تحتل يوما بعد يوم المكانة الأولي بين مصادر اكتساب المعرفة، وباتت أهميتها في تداول الإنتاج الثقافي وتسويقه وتتزايد بصورة واضحة، الأمر الذي يسهم في ترسيخ هيمنة ثقافة واحدة عالميا، وهو الأمر الذي تسعي اليونسكو جاهدة إلي الدعوة لتلافيه. وفي اتجاه مقابل تتيح ثورتا المعلومات والاتصالات إمكانيات جديدة في إنتاج الثقافة وتلقيها، ليس فقط علي مستوي الدول والمجتمعات بل حتي علي المستوي الفردي، فكثيرا مما كان يعد صناعات ثقافية أصبح من الممكن إنتاجه بتكلفة محدودة وتوزيعه بشكل واسع النطاق بالاستعانة بالتقنيات الحديثة للحاسبات الآلية في الاتصالات ونقل المعلومات عبر الإنترنت، فقد بات متاحا لنا أن نستخدم التقنيات الرقمية الحديثة في إنتاج الأفلام والكتب والمصنفات الموسيقية والغنائية وصور الأعمال التشكيلية بتكلفة زهيدة نسبيا وبإمكانيات محدودة تختلف من حالة إلي أخري، فقد أصبح من الممكن علي سبيل المثال أن ينتج المؤلف كتابه - اليوم - من الألف إلي الياء دون حاجة إلي ناشر ومطابع وموزعين، حيث يكتبه علي حاسبه الشخصي، ثم يوزعه إلكترونيا دون أن يكلف نفسه عناء طباعته ورقيا والبحث عن ناشر وموزع له، كما يحصل علي العائد مباشرة من خلال بطاقات الائتمان ووسائل الدفع الإلكتروني، وهذا يؤدي في المحصلة النهائية إلي منتج ثقافي أقل سعرا وأكثر انتشارا، فضلاً عن إمكانية التفاعل المباشر بين المؤلف والمتلقي، كذلك تضيف التقنيات الرقمية الكثير من الإمكانيات في مجال التأليف الموسيقي من ناحية وتداول المؤلفات الموسيقية من ناحية أخري، الأمر الذي ينطبق بشكل ما علي صناعة السينما كذلك. إن هذا العصر بقدر ما يطرح احتمالات الهيمنة الثقافية للدول الأقوي وفرض أنماطها الثقافية بصورة كونية، بقدر ما يفتح الباب أمام الدول الأقل تطورا لتلحق بركب العصر الجديد وتعوض ما فاتها، بقدر ما يطرح أيضا إمكانيات تحقيق فردية الإنسان. ومع التقدم السريع في مجال البرمجيات والذي نعيشه كل يوم ويشعر بآثاره في حياتنا اليومية كل مستخدمي الحاسبات الشخصية، ومع تطور شبكات الاتصالات بالاعتماد المتزايد علي الاتصال المباشر بالأقمار الصناعية وباستخدام الألياف البصرية، فسوف تشهد السنوات القليلة القادمة تعاظمًا هائلاً علي صعيد تطوير الإنتاج الثقافي اعتمادا علي القدرات والإمكانيات التي تتيحها ثورتا المعلومات والاتصالات. لذلك فإن تأثير حضارة الموجة الثالثة ودعامتيها ثورة المعلومات وثورة الاتصالات والعولمة كتجسيد لها في الصناعات الثقافية علي المستوي القومي من الممكن أن يكون تأثيرًا إيجابيًا بقدر ما إنه من الممكن أن يكون سلبيا، والأمر يتوقف في جميع الأحوال علي تفاعلنا مع العصر الجديد ومعطياته الفكرية والتقنية علي حد سواء. من هنا فنحن في حاجة إلي التعايش مع العولمة والبحث عن مكان داخلها والسعي إلي العمل علي أنسنتها والتصدي لسلبياتها، أكثر مما نحن في حاجة إلي الانعزال عن التطورات العالمية الجديدة والصدام مع معطيات العصر الجديد، كي لا نفقد موضع قدمنا فيه مثلما فقدناه في عصر الثورة الصناعية عندما عجزنا عن إنجاز عملية التحديث. ففي إطار التطور السريع لتقنيات الاتصال وما صاحبها من ثورة في تقنيات المعلومات، لا بد من تناول أبعاد هذه الثورة وتأثيراتها المختلفة في الثقافة الوطنية بالبحث لإعادة النظر في تنظيم المجتمع وكيفية استغلال موارده المتاحة لنتعايش مع عالم اليوم الذي أصبحت فيه المعرفة وتقنية الاتصال ومدي سرعتها في تداول المعلومات هي العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي بل والسيطرة السياسية علي جميع المستويات، حيث المعرفة هي السلطة والقوة.