محمد صلاح العزب مؤلف مصري شاب, استطاع بعدد محدود من القصص والروايات أن يلفت انتباه القراء بقوة, وأن يحصد عددا من الجوائز تزيد علي أعماله, فتجعلك في حيرة من أمره, لا تعرف علي وجه اليقين هل استحقها بشبكة علاقاته الصحفية المتشعبة. وتحزب رفاقه المتحمسين له, أم أن خميرة إبداعية أصلية ومدهشة, مبثوثة في طوايا كتاباته تجعلها واعدة بمستقبل خارق, يبشر بكاتب متفرد مازال في مطلع مسيرته الخصبة؟ وربما تجيء هذه الرواية المثيرة سيدي براني التي يهديها في صورة شكر إلي روح جده العزب الذي انفصل عن جدته, واختار سيدي براني مكانا لعزلته, لتؤكد قدرته علي تخليق لون مدهش من الخيال الأسطوري المطعم بمذاق شعبي متميز. ولنقرأ هذا التقديم الأولي الطريف في قوله: لا أحد يعلم لجدي أبا ولا أما, وجدوه متمددا علي شاطيء النهر, يمد يده يغترف من الماء ويشرب وهو يبتسم, عمره أربعة أعوام وله شارب ولحية مكتملان كأنه شاب في العشرين. قال بعضهم إنه ليس إنسيا فرد عليه آخرون بأنه طفل مسحور, واعترض العقلاء وقالوا إنه ابن خطيئة, ألقته أمه علي الشاطيء, وقال عراف القرية إنه سيكون سببا في هلاكهم فاقترح بعضهم قتله. لم يتوصلوا إلي قرار في اليوم الأول, وأنهكتهم المناقشة, فأعطوه للخادمة العجوز ليبيت معها.. امتدت يدها إليها وعرته فاكتشفت رجولته الفذة الباكرة, عاشرته ففوجئت بماء الشباب يعود إليها, نبتت لها أسنان كاملة قوية, وعاد شعرها إلي لونه الأسود وطالت قامتها واختفت من وجهها التجاعيد, تكتمل دائرة الأعاجيب عندما تتخاطفه كل نساء القرية حتي يموت فيقيمون فوقه ضريحا يحجون إليه بعد هذه الدورة من حياته. الحيل التقنية يقوم جوهر الرواية علي اكتشاف الحفيد للذة الحكي وأسراره الموازية للحياة. لكن عددا قليلا من الحيل والتقنيات الفنية تجعل حكاياته ترتقي من منطقة السرديات الغرائبية الشعبية في الحواديت إلي مرتبة القص الإبداعي الرفيع. منها تمثل حيوات الجد التي تتكرر ثلاث عشرة مرة سلسلة من تواردات الموت والبعث عليه, بما يضمن للراوية استمرار حضور المروي عنه, مع صفته الملازمة من منظور الحفيد وهي الجد الذي جرت عليه كل هذه الغرائب. فبدون تلك الحيلة اللامعقولة تفقد الحكايات نسقها وحبلها السردي ومنطقها, ويتفتت خطابها شذرا, وهناك أيضا حيلة أخري تتوافق مع إيقاع السرد بطبيعته الشعبية الشفوية, تضفي عليه طابعا فوريا شائقا, وهي أن الراوي الحفيد يوجه خطابه إلي الفتاة المدنية مريم التي فتنته عندما نزلت من سيارتها البيضاء ببنطالها الضيق وفردت لوحتها علي الهضبة بجواره وأخذت ترسم, فجعل يوجه إليها خطابه في معظم الحكايات بصيغة يا مريم ليتسق مع الطابع الشفوي المسيطر علي القص في تحولاته الموضوعية المختلة, وأصبحت هذه الفتاة ذاتها موضوعا لاستطرادات واقعية وطريفة ودالة. لكن التقنية الأبرز في هذه الرواية هي تشكلها من عدد كبير من المشاهد المتجاورة المحفورة في ذاكرة المكان والشخوص بألوان صارخة وجاذبية آسرة, ودلالة مكتملة في ذاتها. حتي لتغدو الرواية وكأنها أشبه بمتحف تنتصب لوحاته المتمايزة, لا يجمع بينهما سوي طابعها الفني ورقعة المكان الذي يستضيفها كلها في فضاء حيوات الجد الأسطورية وما يحيط به من عوالم متفاوتة. لنقرأ مثلا ما حدث له في حياته السابعة في الهند, عندما اتخذ مقرا له إحدي الجزر وأخذ يجلب إليها صغار الفتيات, يعلمهن القراءة والكتابة والحياكة وإعداد الفراش وتنسيق الزهور, والرسم والعزف وطرق إغواء الرجال, فذاعت شهرته, وأخذ يسير متخفيا حتي لا يعرفه أحد, وأثناء سيره في إحدي قري الهند المدقعة في فقرها, أدرك فجأة أنه وقع في الحب, كانت شابة هندية جميلة تجلس تحت شجرة تتعبد, لا تنتبه حتي إلي الطيور التي تحوم حول جسدها وهي تتلو أحد أسفار يوبانشاد بصوت منغم جميل. حقا إنه كان كل شيء, لكنه لم يشعر بالبهجة, لأن واحدا وحده لا يشعر بالسرور. حقا إنه كان كبيرا, أكبر من أن يكون رجلا بمفرده, أو امرأة بمفردها. كان كبيرا كرجل وامرأة متعانقين, فشاء لذاته الواحدة أن تنفصل فكان زوجا وزوجة, وحكم أن من لا زوج له يعيش كقطعة مبتورة فها نحن أمام قصة الخليقة في بلاد الهند, ولكنها تأتي في إطار الدلالة المركزية في الرواية كلها وهي تدور حول أهمية الجنس, بغض النظر عن غير تلك من شواغل الفكر الإنساني, تجتذب الجد هذه الفتاة الهندية, فيشتريها دون أن يتزوجها وتمتنع من معاشرته, فينقلب حاله في سلسلة من المآسي حتي يذوب ويفني جسده في عشقها المستحيل. فإذا ما التفتنا إلي حلقات الرواية التي تبعد عن هذا الإطار الأسطوري وهي المتصلة بعلاقات البدو بغيرهم وقصص عشقهم أيضا, وقصة مريم ذاتها وجدنا هذا الطابع اللا منطقي يكاد يجور عليها أيضا مع أنها ليست غرائبية, فأم مريم, سيدة يونانية كانت تشبه مارلين مونرو وإن كانت غير رشيقة هجرت زوجها المصري الذي تعرفت عليه في الطائرة وأقنعته بأن يذهب معها لليونان, كي تعود إلي حبيبها الذي هجرته من قبل, يبقي زوجها وحيدا مع أختها في المنزل فيتقارب جسدهما دون حب في لعبة لغة الأجساد المهيمنة علي الرواية, ينتهي الأمر بأن تنتحر الأخت, لكن الراوي يستمر في سرد تفاصيل علاقتها بزوج أختها مع أنها ليست مثل الجد الذي تتكرر حيواته, تقع الرواية في فجوة سردية غير منطقية في بناء قصصي محكم, وبطبيعة الحال فإن الجد وضريحه الأخير في سيدي براني سيتحول إلي رمز لكل القوي الغيبية في المجتمع المصري. وتظل الحكاية هي التي تقوم بدور البطولة, حكايات كثيرة يا مريم تنسج هنا وتطرز وترصع بالأحجار الكريمة.. هل لديك في مونيتك حكايات بكل هذا الإتقان والمتانة. كنجمة في سماء شتائية تخبو الحكايات ثم تظهر لتربط الجميع في عقدها فيدورون معها بمثل هذه اللفتات الشعرية التي تسري في نسج لغة السرد تتحول الأعمال من حكايات وحواديت إلي قصص وروايات فنية مضفرة بشكل إبداعي تقوي علي صناعة الرموز وتكوين المشاهد في خطاب مضمخ بعطر الأدبية النفاذ.