مشهد أول: في عام 1995، قررت طالبة جامعية انتقلت لتّوها للدراسة والعيش في القاهرة، البحث عن الأعمال الأحدث لعدد من الكتّاب الذين كانت تتابع قصصهم في الأعداد القديمة من مجلة إبداع (فترة عبد القادر القط)، وقرأت لبعضهم الأعمال الكاملة التي أصدرتها هيئة الكتاب في فترات سابقة. ظنّت الطالبة أن المهمة بسيطة، كونها الآن في القاهرة لا في قريتها النائية، غير أنه مع الانعدام شبه الكامل للمكتبات وقتها كان الأمر في غاية الصعوبة. كانت تبحث تحديداً عن "رامة والتنين" لإدوار الخراّط، والأعمال الكاملة لبهاء طاهر، ونصوص أخري متفرقة لإبراهيم أصلان وسليمان فياض وآخرين. نحن الآن في منتصف التسعينيات. دار شرقيات في بداياتها ومعها كتّاب جيل التسعينيات، ودار ميريت علي بعد ثلاث سنوات من التأسيس. وطالبتنا لا تزال في مرحلة اكتشاف المدينة، لم تعرف بعد الطريق إلي شرقيات حيث حسني سليمان بدماثته وترشيحاته للقراءة، ولا إلي مقاهي المثقفين وأماكنهم. مكتبة مدبولي هي المصدر الأهم للحصول علي العناوين الجديدة، وما لا نجده فيها من الصعب العثور عليه في أماكن أخري. لذا حين لم تجد معظم ما تريده هناك لم تفلح في العثور عليه، رغم بحثها الشاق، إلا عبر الاستعارة من أصدقائها. أعمال بهاء طاهر كانت أفضل حظاً، هي وكل الروايات المنشورة حينئذ في سلسلة روايات الهلال، إذ تكفي زيارة إلي مكتبة دار الهلال في المبتديان للحصول عليها. مشهد ثانٍ: ثمة قارئة أخري تبحث عام 2010عن أعمال كتّابها المفضلين. كلمة تبحث قد لا تكون مناسبة هنا، فالكتب موجودة في الغالب، وكل ما عليها أن تذهب إلي المكتبة الأقرب إليها لاختيار ما ترغب في شرائه وفقاً لميزانيتها، إذا كانت في الزمالك مثلاً، فما عليها إلا التوجه إلي مكتبة ديوان في شارع 26 يوليو لتجد الكثير من العناوين الحديثة بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وإذا حدث ولم تجد ما تريده هناك، فما عليها إلا عبور الشارع والسير لعدة خطوات للوصول إلي مكتبة الشروق العامرة بمؤلفات دار الشروق وكثير من العناوين العربية والأجنبية الحديثة للكبار والصغار، ثمة خيار آخر في الحي نفسه هو مكتبة ألف. في الهرم ستجد مكتبة بدرخان، وفي المعادي كتب خان، في مصر الجديدة ستجد فرعاً لألف وآخر لديوان وثالث للشروق. يمكنها أيضاً أن تحضر حفلات توقيع لكتابها المفضلين في كل المكتبات المذكورة. كما تستطيع التواصل معهم عبر الفيس بوك بأن تضيفهم إلي قائمة أصدقائها، أو تنضم كمعجبة لصفحاتهم. أظن، وليس كل الظن إثم، أننا قبل عشر سنوات فقط، كنا نكتب ونُقرأ ونقرأ في سياق مختلف تماماً، كان نجاح عمل ما يقاس بعدد الدراسات التي تناولته وبرأي النخبة الضيقة من المثقفين فيه، الآن أصبح للنجاح والانتشار والتواجد والتأثير دلائل أخري، يأتي علي رأسها عدد الطبعات المباعة من عمل ما ودرجة اقبال القراّء عليه. نعم! أصبح لدينا الآن من يمكن تسميتهم، ولو علي استحياء، بالقراّء!! ممن باتوا عنصراً فاعلاً في معادلة القراءة والتلقي، بل أيضاً، في عملية النشر، وأحياناً الكتابة، كون كثير من الكتّاب الآن، وباعترافهم، يفكرون ملياً فيما إذا كان القراّء سيقبلون علي عملهم أم لا؟ لكنّ الناشر هو الأكثر اهتماماً ببوصلة ذائقة القارئ المفترض، كثير من الناشرين الآن يقبلون فقط علي نشر الرواية باعتبارها الجنس الأدبي الأعلي حظوظاً في المقروئية والجوائز، هناك كتّاب جيدون قٌوبِلوا بعدم تحمس الناشرين لنشر مجموعاتهم القصصية بحجة أنها لا تلقي رواجاً كافياً، وطبعاً يقع الشعر، في معظم الحالات، خارج أولويات الناشرين. لكن قبل الاسترسال يهمني التوقف للتساؤل: ما العوامل والأسباب التي تضافرت لصنع لحظة مواتية للانتعاش الجزئي للقراءة؟ أي بكلمات أخري: ما الأسباب وراء تغير ثقافة القراءة في مصر؟! قبل محاولة الإجابة عن التساؤل السابق، أرغب فقط في التأكيد علي أنني أحاول فيما يلي، رصد بعض الظواهر المحيطة بعملية الكتابة والتلقي في السنوات العشر الأخيرة دون التطرق لفنيات الكتابة نفسها، أي أنني سأحاول تنحية أحكام القيمة قدر الإمكان. بالعودة إلي التساؤل حول أسباب الانتعاش الجزئي للقراءة مقارنة بالعقود السابقة، نقول إن ثمة عوامل كثيرة ومصادفات موضوعية تضافرت لصنع لحظة مناسبة لرفع نسبة مبيعات الكتب عما سبق أهمها نشوء جيل جديد من القراّء ترافق مع موجة انتشار المكتبات الصالونية علي النمط الغربي التي بدأت بافتتاح مكتبة ديوان بالزمالك عام 2002، لكن ما العوامل التي أدت إلي نشوء و"تربية" هذا الجيل الجديد من القراّء؟ لا يفوتنا أن معظم القراّء بل وحتي الكتّاب ممن ولدوا بدايةً من منتصف السبعينيات قد شبّوا علي قراءة سلاسل "روايات مصرية للجيب" التي بدأت في الصدور في السنوات الأولي من الثمانينيات وحظيت بمقروئية عالية جداً سواءً في مصر أو في العالم العربي خاصة سلاسل: "رجل المستحيل"، "ملف المستقبل"، و"ما وراء الطبيعة"، وهي السلاسل التي خلقت جيلاً جديداً من القراّء أكثر انفتاحاً علي أنواع أدبية هٌمِشت طويلاً مثل الرواية البوليسية وروايات الرعب والخيال العلمي، كما كانت بمثابة عتبة أولي انطلق منها هؤلاء القراّء فيما بعد للتعرف علي قراءات أكثر رصانة.بعد بدء سلاسل "روايات مصرية للجيب" بسنوات قليلة، انطلق في أوائل التسعينيات مشروع "مكتبة الأسرة" الذي، ورغم أي اعتراضات عليه، نجح في توفير الكثير من العناوين الأدبية والعلمية وأحيانا الموسوعات بأسعار منخفضة، وساهم في إعادة طبع العديد من الأعمال القديمة التي كانت طبعاتها قد نفدت وتقديمها للقراّء من الأجيال الأحدث. ترافق مع ازدهار مشروع "مكتبة الأسرة" في سنواته الأولي ظهور الكتّاب الذين تم الاصطلاح علي تسميتهم بكتاب التسعينيات ممن قدمت دار شرقيات عدداً منهم مثل مصطفي ذكري، ميرال الطحاوي، مي التلمساني، نورا أمين، الخ، فيما تم تقديم عدد آخر منهم عبر سلاسل النشر الحكومية أو النشر علي نفقة المؤلف مثل: حمدي أبو جليل، منال السيد، نجلاء علاّم، هويدا صالح، رانيا خلاّف، ياسر إبراهيم وآخرين. ثم تأسست دار ميريت عام 1998 لتحدث ما يشبه "الثورة" في سوق النشر المصري عبر تبنيها الكامل للجيل الأحدث من الكتّاب، علي غير عادة دور النشر المعروفة وقتها.. فعلي رغم نشره لعدد من كتّاب الأجيال الأسبق، أعلن محمد هاشم منذ البداية انحيازه التام ل"الكتابة الجديدة" ونجح في تقديم عدد من الأسماء التي قوبلت أعمالها بنجاح لافت مثل أحمد العايدي وروايته "أن تكون عباس العبد" في 2003، وقبلها بعام أصدرت ميريت الطبعة الأولي من رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" التي حظيت علي مستوي المبيعات بنجاح كبير في طبعاتها التالية عن مكتبة مدبولي، وهو النجاح الذي لفت نظر دار نشر كبري مثل دار الشروق إلي أن الأدب وتحديداً الرواية يمكنها أن تلقي رواجاً كبيراً. وسواءً أكان نجاح "عمارة يعقوبيان" ودار ميريت ككل هو ما حفّز الشروق للاتجاه لنشر الإبداع أم لا، فإن هذا التحول في سياسة النشر لدي هذه الدار ذات رأس المال الكبير قد نجح في إحداث طفرة في سوق النشر المصري خاصة مع انشائها أكثر من فرع جديد في سلسلة مكتبات الشروق، التي ساهمت مع غيرها من المكتبات الأخري كديوان والكتب خان، ثم ألف وبدرخان والبلد لاحقاً في توفير الكتب بسهولة أكبر للقراّء سواءً أكانوا من جيل أكبر، أو من الأجيال الأحدث من القراّء ممن تربوا علي قراءة "روايات مصرية للجيب" واصدارات مكتبة الأسرة. أي أنه في الوقت الذي كانت سوق الكتاب والنشر تتغير تدريجياً، كان هناك جيل جديد من القراّء يتكون، ليتحول إلي قوة شرائية لا يستهان بها مع مطلع الألفية الجديدة. وجاء عام 2002 ليشهد بزوغ عدد من المتغيرات في هذا الصدد، إذ يحلو لهواة التقسيمات الزمنية الحادة والحدود الواضحة أن ينظروا لهذا العام كنقطة تحول أساسية في سوق الكتاب المصري مدللين علي هذا بأنه العام الذي شهد تأسيس مكتبة ديوان فرع الزمالك، تلك المكتبة التي أعلنت عن نفسها بعبارة اعتبرها البعض وقتها من قبيل المبالغات الدعائية المحضة. إذ رأي المسؤولون عن ديوان أن مكتبتهم ستغير ثقافة القراءة في مصر، وهو ما كان إلي درجة كبيرة. إذ غيّرت "ديوان" بالفعل من فكرة المكتبة نفسها، تلك التي لطالما تعاملنا معها باعتبارها مكاناً نذهب إليه لشراء كتاب ما والمغادرة فوراً، وتعامل أصحابها معها في الغالب، كمخازن تُرَص فيها العناوين كيفما اتفق دون أي اعتبار لعامل الجاذبية أو السياق النفسي المصاحب. مع ديوان بفروعها العديدة، وبعدها كتب خان وبدرخان وألف وبعض فروع مكتبات الشروق، أصبحت المكتبة مكاناً جذاباً. مكان ملحق به Cafe وأماكن للقراءة. أصبحت أيضاً أقرب لمراكز ثقافية مصغرة لها أنشطتها الثقافية الخاصة من ورش كتابة، وندوات وحفلات توقيع، الخ. يستطيع القارئ أن يذهب لأي من هذه المكتبات لتناول قهوته وهو يقرأ كتابه، يمكنه أن يشتري كتاباً ويجلس لقراءة آخر، بل يمكنه حتي أن يتجول بين أرفف الكتب المرتبة جيداً ويسحب أحدها للقراءة في المقهي الملحق دون أن يضطر لشرائه ودون أن يجد من يلاحقه لدفعه للشراء. مثّلت هذه المكتبات علي تنوعها واحات للقراءة في صحراء كاملة من عدم الاهتمام بهذا الفعل بل وحتي السخرية منه. كما أشعرت روادها علي اختلافهم بأنهم جزء من عائلة أوسع، مجتمع خاص ومعولم يتشابه أفراده، يرشحون الأعمال لبعضهم البعض دونما سابق معرفة، ويقفون في حفلات التوقيع للحصول علي توقيع كتّابهم المفضلين. شيئاً فشيئاً، أصبحت المكتبات الحديثة لاعباً رئيسياً في سوق الكتاب في مصر. لاعب مؤثر يمكنه أن يرفع مبيعات كتاب بعينه، ويعتم علي آخر. اختيار كتاب ضمن ترشيحات «ديوان» للقراءة كفيل برفع مبيعاته بدرجة كبيرة، كذلك اختياره ككتاب للشهر في مكتبة الكتب خان. طريقة وضع العناوين في المكتبة تدرجاً من الواجهة إلي الأرفف البارزة نزولاً إلي أرفف الأركان المنسية تلعب، هي الأخري، دوراً مهماً في حظوظ البيع من عدمه. سلاسل مكتبات ديوان تختار العناوين التي تعرضها وفق معايير صارمة، وهي التي تطلب ما ترغب في عرضه من الناشرين. مكتبات الشروق تولي الأهمية الأكبر، بطبيعة الحال، للكتب الصادرة عن دار الشروق للنشر، وعناوين البيست سيللر والكتّاب الأكثر شهرة. في «كتب خان» تحرص كرم يوسف صاحبة المكتبة علي نوع من التوازن بين الكتب ذات القيمة الأدبية الجيدة والأخري مضمونة البيع، وعبر السنوات الماضية نجحت، عبر شغفها بالكتب، في خلق درجة من الثقة بينها وبين المترددين علي مكتبتها، تجعلهم يقبلون فوراً علي العناوين التي ترشحها لهم، الأمر الذي ساهم في ترويج عناوين جيدة غالباً ما كانت لا تحظي بالرواج اللائق وسط طوفان الكتابات الخفيفة المكتسح. دور المكتبات في رفع حظوظ بيع كتاب ما، يقودنا إلي نقطة أخري، هي طرق صناعة ال"بيست سيللر"، وهل ثمة ما يسمي "بيست سيللر" فعلاً؟ قبل عشر سنوات فقط كان مصطلح ال"بيست سيللر" أو الأعلي مبيعاً يخص الآخرين أكثر مما يخصنا ككتاب وقراّء عرب. كنا نسمع به مرفقاً باسم رواية عالمية أو كاتب أجنبي فنفكر كم أننا بعيدون عن فكرة التعامل مع صناعة الكتاب والنشر كسوق بالمعني التجاري، وكم أن القراءة كعادة راسخة في مجتمعاتنا تكاد تكون المستحيل الرابع. الآن بات مصطلح ال"بيست سيللر" المصطلح الأكثر تردداً علي الألسنة سواءً بالسلب أو الإيجاب، بالاثبات أو النفي. يٌستخدم لوصف كتاب باع 4000 نسخة وآخر باع مئة ألف نسخة. البعض يشكك في وجود "بيست سيللر" عربي، والبعض الآخر يستخدم المبيعات الكبري لكتاب ما كسلطة ضد الكتابات الأقل توزيعاً دون التطرق إلي المستوي الفني علي الإطلاق. ثمة عناوين تحظي بالفعل بنسبة مبيعات مرتفعة لدرجة قد لا يتوقعها ناشروها أو مؤلفوها، وعناوين أخري يتم تقديمها ك"بيست سيللر" مصنوع بطرق لا تخفي علي كثيرين، منها أن يقوم الناشر أو المؤلف بشراء النسخ من المكتبات، فيتصدر الكتاب قائمة الأعلي مبيعاً في المكتبات، وبالتالي يلفت نظر القراّء والمتابعين، فيسعون لشرائه وقراءته فترتفع مبيعاته بالفعل. وأحياناً قد يطرح بعض الناشرين الطبعتين الأولي والثانية معاً في عدد محدود من النسخ ويعلن أن الطبعة الأولي نفدت في أيام معدودة، ويتم امداد المكتبات علي الفور بنسخ أخري مطبوع عليها أنها الطبعة الثانية. وما يزيد من فوضي المشهد أن الأرقام والاحصاءات دائماً مغيبة، إذ لا توجد جهة موثوقة لاحصاء عدد النسخ التي تُطبع وتُوزع من كتاب ما. لكن رغم التشكيك والجدل المثار دائماً حول مصطلح الأعلي مبيعاً، فإن ما لا يمكن إنكاره هو هذا الانتعاش فيما يخص القراءة مقارنةً بالعقود السابقة، وإلاّ كيف نفسر قدرة العدد الكبير من المكتبات الموجودة حالياً علي التواجد والاستمرار وتحقيق النجاح، وهذا العدد الكبير من القراّء الذين نراهم في حفلات توقيع عدد كبير من الكتاب، معظمهم من خارج الوسط الثقافي الضيق، بعد أن كانت حفلات التوقيع قد بدأت كصرعة برجوازية يحضرها الكتّاب لمجاملة زملائهم. الآن أصبحت حفلات التوقيع تقليداً مألوفاً بدأ يسحب البساط من تحت أقدام الندوات التقليدية. لكن هل يعني ما سبق أن الوضع الآن أفضل بالضرورة علي مستوي الظواهر المحيطة بالعملية الإبداعية؟ أعتقد أنه من الصعب الإجابة عن تساؤل مماثل، خاصة في ظل فوضي النشر الحادثة حالياً، إذ باستثناء عدد محدود من دور النشر المعروفة، أصبح "النشر" في مصر محكوماً بالفوضي، والتخبط. كما أن احتكام الكثيرين للقارئ كمعيار وحيد للنجاح ليس في مصلحة الإبداع بالتأكيد. منصورة عز الدين