لاأظن أن هذا كان ضمن خطط الكاتب الصحفي مجدي العفيفي .. أن يكشف الستار عن جرائم النشر ضد كتابنا وابداعاتهم .. ويجلد هؤلاء الناشرين الذين ارتكبوا هذه الجرائم عبر عناوين صحفية تجيش ضدهم مئات الآلاف من القراء حتي الذين لم يقرءوا قصة أو بيت شعر في حياتهم ..أليس هذا ماتفعله الموضوعات الصحفية المثيرة ؟! ولاأظن أنه كان لدي العفيفي علم بمثل هذه الجرائم ..الا أنه اكتشفها بالصدفة .. عبر أطروحة علمية! وأعلن عنها من فوق منصة جامعة القاهرة.. وليس من خلال الصحف عبر مقال استنفاري أو تحقيق تحريضي! والحكاية تبدأ خيوطها مع عشق قديم تراكم تحت جلده للراحل العظيم يوسف إدريس ..فما كتب إدريس حرفا في مقالة أو قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية ولم يقرأها مجدي العفيفي ..وماكتبت عنه مقالة أو دراسة ولم يؤرشفها العفيفي .. وكثيرا ما كتب عنه في الصحف المصرية والعربية ..الا أن خاطرا واتاه فجأة : ولم لاأعد عن إدريس رسالة ماجستير؟ .. البحث العلمي يمنهج عشقي للرجل .. وربما قد يضاعفه ! ..وهذا ما فعله العفيفي ..وعنوان الرسالة كان " البناء الفني في القصة القصيرة عند يوسف إدريس (1954 - 1971) وكان أحد نتائج البحث الكشف عن أخطاء جسيمة في طبعات أعماله الكاملة المتداولة حاليا.. وبلغ الأمر بالباحث أن طالب بوقف طباعة هذه الأعمال لأنها تشوه جماليات يوسف ادريس تاريخيا وتثير البلبلة حول ابداعه .. اسقاط ثلاثة نصوص وهذا ما كشفه مجدي العفيفي في رسالته: 1 - إن الطبعات الحديثة للأعمال الكاملة الصادرة عن(دار الشروق ونهضة مصر) قد أسقطت ثلاثة نصوص كانت تضمها مجموعة العسكري الأسود الصادرة عام 1962 وهي الرأس، وانتصار الهزيمة، والمارد، واكتفت بنشر رواية العسكري الأسود بمفردها. 2 - إن هذه الطبعات لم تهتم بذكر تواريخ نشر كل مجموعة وطباعتها لأول مرة، كما تجاهلت ذكر عدد الطبعات السابقة، وتواريخ النشر وأماكنه. 3 - أن مجموعة البطل التي نشرت لأول مرة في يناير 1957- يقول الباحث انه يمتلك نسخة من هذه الطبعة - قد ضمت اعلانا ترويجيا عن مجموعة كتب كانت دار الفكر قد نشرتها في نهاية المجموعة تحت عنوان دراسات سوفييتية ولما أعيدت طباعة المجموعة عام 2008 نشر الإعلان علي أنه نص ليوسف إدريس ص81 طبعة نهضة مصر وهو نص بلا هوية، ليس مقالا، كما أنه ليس قصة، ولا يحمل أية إشارة لها دلالة سوي أنه مجرد إعلان تجاري. 4 - إن البطاقة التعريفية بالكاتب منقوصة المعلومات وركيكة الأسلوب، وتختلط فيها الأنواع الأدبية، فالرواية تذكر علي أنها مجموعة قصصية، والمجموعة تذكر علي أنها كتاب مقالات، والأخير يذكر علي أنه مسرحية، وهكذا يحدث الخلط والتخليط الذي يسيء إلي تاريخ الكاتب وآثاره. 5 - إن بطاقة المؤلفات الكاملة غير موثقة بالتواريخ، الأمر الذي يصيب القراء خاصة الأجيال الجديدة، بالحيرة وعدم التثبت، ومن ثم تطلق الأحكام علي المستوي الإبداعي بشكل يتضارب مع الحقيقة الفنية التي تحتاج إلي الحقيقة التاريخية. وهذا أيضا مافعله النقاد ! والأطروحة لم تكشف فقط جرائم النشر التي ارتكبت ضد يوسف إدريس ..بل وكوارث النقد أيضا من اصدار أحكام انطباعية لاتغوص في النص بمسبر علمي أو وضع أعمال ادريس تحت مجهر أيديولوجي يقينا لاينتهي الي رؤية جمالية حقيقية .. ويقول الباحث ان معظم ما كتب عن أدب يوسف إدريس القصصي، علي وجه التحديد، قد غلب عليه التعميم في الأحكام، والانطباعية في التلقي، والمرحلية في النظرة، وجاء في شكل مقالات تخضع لمقتضيات النشر، مما طبعها بالاقتضاب الذي أفقدها الشواهد الدالة، فكانت بمثابة آراء وخواطر متناثرة في الصحف والمجلات، أو مجرد فصول، أو بعض فصول في كتب، ومعظمها يتسم بطابع السرعة والتعميم، وإطلاق الأحكام العامة، مع عدم مراعاة البعد الزمني في زمن النشر. محمود أمين العالم يعترف وتأخذ المشكلة حجما أكبر، حين تتحول هذه المقالات في نظر الكثير من الدارسين الي مرجعية تنبني عليها الأحكام النقدية، وهذا ما حدث، علي سبيل المثال لا الحصر، من الناقد محمود أمين العالم أحد الذين أعادوا النظر في رؤيته لكتابات يوسف ادريس القصصية، حين جمع مقالاته في كتاب، وضمنه ما كتبه من نقد عن قصص يوسف ادريس في عقدي الخمسينات والستينات، معلنا تداركه الشعور تقصيرا في نظرته النقدية التي حملت آراءه آنذاك وصارت، بعد ذلك، مرجعا لدراسات عديدة، إنه يعترف: كنت أحسب نفسي المقصر الوحيد عن أداء واجب الدراسة النقدية الشاملة لكتابات هذا الفنان الكبير، لقد كتبت بضع مقالات عنه لا تتجاوز الخمس بين الخمسينات والستينات، ولا تتجاوز مستوي المقال السريع الذي تنقصه الدراسة التحليلية التفصيلية والرؤية الشاملة لأدب يوسف إدريس، علي أن القضية ليست قضيتي وحدي، بل تكاد تشمل أغلب نقادنا إن لم يكن جميعهم (ينظر محمود أمين العالم، أربعون عاما من النقد التطبيقي، ص87،86 دار المستقبل العربي، القاهرة،1994). وقد ترتب علي هذا الموقف من ناحية أخري لبس جديد لتجربة أكاديمية اعتمدت في رصد الخطاب النقدي حول القصة القصيرة عند يوسف إدريس علي كثير من الآراء الواردة في المقالات المنشورة في الصحف السيارة والمجلات الشهرية(د.أحمد فؤاد، الخطاب النقدي حول فن القصة القصيرة عند يوسف إدريس، رسالة دكتوراه، كلية التربية جامعة عين شمس، 2008). و كثير من الدراسات قد وقعت في لبس آخر حين خلط أصحابها بين القصة القصيرة والرواية، واعتبروا النوعين الأدبيين نوعا واحدا، مما أفقد هذه الدراسات كثيرا من الموضوعية حتي أنها شطرت إبداع يوسف ادريس القصصي، شطر متأثر بتشيكوف وشطر متأثر بكافكا بل جعلت يوسف إدريس كأنه نسخة من موبسان( دراسة يوسف ادريس والفن القصصي د.عبد الحميد القط دار المعارف، 1982 ودراسة الإبداع القصصي عند يوسف ادريس القصيرة ب.م.كربر شويك، ترجمة رفعت سلام، دار سعاد الصباح، ط،1 الكويت، ،1993 ودراسة أثر جي دي موبسان في القصة المصرية القصيرة - د. سعد أبو الرضا مكتبة الرضا، القاهرة1990) -هذا إلي جانب عدة أحكام مطلقة تصف لغة قصص يوسف إدريس من قبيل الاسفاف في اللغة والتدهور في الأسلوب والانحطاط الفني وما دون ذلك، وصنيع أحدهم في ذلك صنيع ما فعله أحد الدارسين الأجانب، حين أسقط علي قصص يوسف إدريس كل كراهيته الذاتية والعنصرية للفترة السياسية والاجتماعية التي تكونت فيها نصوص أديبنا الكبير، بل أسقط الكثير من أفكاره السياسية علي قصص يوسف إدريس، إلي جانب انطباعاته التي تتسم بالشطط، وتعبيراته غير اللائقة علميا، حتي أنها لا ترتقي إلي مستوي الأدب والنقد، والأمثلة الدالة علي هذا المستوي متعددة. ( شويك، ، ود. الرشيد بوشعير دراسات في القصة العربية القصيرة،ط ،1 دار الأهالي، دمشق 1995). إدريس الأيديولوجي وهناك شريحة أخري من النقاد تعاملت نقديا حسب ايديولوجيتها فاتخذت من أعمال يوسف ادريس ما يؤيد اتجاهاتها ويؤازر قناعاتها، فاتجه أغلبها الي الحديث عن «شخص يوسف ادريس» أكثر من اتجاهها الي التحليل الفني لأدبه القصصي، وقد انتشرت كتاباتهم عبر عقدي الخمسينات والستينات، رغم أن يوسف إدريس قدم من الابداعات، ليس القصصية فحسب بل المسرحية والروائية، ما عصف بكثير من هذه الكتابات التي ذهبت أدراج الرياح، وبقيت أعماله تصفو لمن يدرك كيف يستقطرها فنيا ونقديا وشموليا. (د.سيد حامد النساج: اتجاهات القصة القصيرة، ط2 دار غريب ،1988 وتطور فن القصة القصيرة في مصر، دار غريب ،1990 وفاروق عبد القادر: البحث عن اليقين المراوغ قراءة في قصص يوسف إدريس، ط،1 دار الهلال، العدد 572 القاهرة، 1998 ود.ناجي نجيب: الحلم والحياة في صحبة يوسف ادريس، دار الهلال، القاهرة 1985 وغالي شكري: يوسف ادريس، فرفور خارج السور، ص،17 ط،2 دار ومطابع المستقبل بالفجالة والاسكندرية، 1994 وأزمة الجنس في القصة العربية دار الشروق، القاهرة، ط4 القاهرة 1991). وهناك طائفة من الرؤي مزج أصحابها - تلفيقا - بين يوسف إدريس وشخصيات قصصه، وتعاملوا معها من هذا المنطلق، فلم يفرقوا بين المؤلف الحقيقي والسارد أو المؤلف الضمني وهو ما لم يفطن إليه أصحاب تلك الدراسات فوقعوا في مغالطات نقدية بنيت عليها نتائج غير موضوعية خاصة بشخص يوسف إدريس وخصوصيته( عبد الحميد القط، وكربر شويك، مرجعان مذكوران، وكذلك محمد فتحي: يوسف إدريس، دراسة في تكوين المبدع وإبداع الأصالة وأصول النبوغ، ط،1 دار الأمين، القاهرة 2003)*وهناك دراسات أخري اتسمت بالجدية في الطرح والرؤية، وإن حاول بعض أصحابها تمزيق نصوص يوسف إدريس قسريا، وإزهاق أعماله تحت وطأة التصنيف المذهبي، والتقسيم المرحلي، حتي أن بعضهم فكك ما يسمي بالمرحلة الواقعية عند يوسف إدريس إلي خمسة أنواع من الواقعية( د. السعيد الورقي، مفهوم الواقعية في القصة القصيرة عند يوسف إدريس،ط،1 دار المعرفة الجامعية،الإسكندرية، 1990). قصة مصرية جدا فهل يقدم الباحث رؤية مغايرة لتلك الرؤي التي تناولها بالنقد فيما يندرج ضمن نقد النقد؟ لقد انتهي الباحث الي عدة نتائج يمكن أن تفيد الي حد كبير في الاجابة عن هذا السؤال ..من هذه النتائج أن أعمال يوسف ادريس القصصية تشكل مساحة واسعة ومتمايزة في عالم الابداع الفني، بما تطرحه من رؤي عميقة ومتطورة للانسان والعالم والكون، وبما تحمله من معطيات فكرية ذات مرجعيات معرفية وأخلاقية وجمالية، وبما تصوره من أبنية وأنساق فنية يفضي بعضها الي بعض في منظومة متناسجة في تجلياتها السردية، فعلي امتداد حوالي أربعين عاما، وباتساع أفق عشر مجموعات قصصية، وسبع مسرحيات، وست روايات، وثلاثة عشر كتابا من المقالات ، تجلت أعماله وحدة إبداعية واحدة علي تباين أشكالها وتعدد مستوياتها. كما كشفت الدراسة أن أبعاد الرؤية الفنية تتناسج في أعمال يوسف إدريس، لتنتظم مجموعة من القضايا المتعددة، تنضوي كلها تحت (الإنسان) الذي يأتي في نصوصه علي رأس كل قضية، فإنسانية الانسان هي جوهر رؤيته، حيث يبحث عن خصائص هذه الانسانية، بتسليط الضوء الكاشف عليها لتصوير التناقضات الصارخة التي يعيش فيها، واختزال المسافة بين مثالية التفكير وواقعية الفعل من أجل البقاء الذي يحول دون اليأس، ولأن واقعية يوسف إدريس تسعي في نصوصه إلي كشف التناقضات الانسانية بتعمقها فيما وراء الأشياء، واكتشاف القوانين التي تحكم حركة الواقع، فإن نصوصه لم تكن في حاجة إلي التخفي وراء الرمزية المذهبية في عملية البحث الدائم فيما وراء الدوافع لدي شخصياته القصصية بأحداثها وزمانها ومكانها ولغاتها، فيبدو رمزه موضوعيا، بتعدد مستوياته وتعقد علاقاته، وثراء عناصره الحمالة الأوجه للمعني والمولدة للدلالة، الأمر الذي يمنح هذه النصوص آفاقا أكثر اتساعا ورحابة، حيث يترك نصوصه القصصية مفتوحة علي إيحاءات متعددة ودلالات خصبة، أو في مفترق طرق جمالي. ومن النتائج التي انتهي اليها الباحث أيضا أن إدريس اتخذ من فن القصة القصيرة شكلا أدبيا مناسبا لتحقيق رسالته، يتجلي ذلك في مقدرته علي اقتناص لحظة اكتشاف خارقة وخاطفة، والتعبير عنها في كلمات، فالقصة عنده وسيلة من وسائل إيصال الحقائق،كما أنه في قصصه القصيرة علي الواقعية بمعناها الإنساني العظيم كمنهج للتشكيل الفني المناسب لرؤاه بنزوعها إلي تصوير المشكلات الرئيسية للوجود الإنساني، لكنه يتمايز بأنه صنع لفنه واقعية خاصة به، وأن المغايرة لديه تقع في طرائق التعبير، ومن ثم فإن أعماله قادرة علي أن تحتفظ بقيمتها خارج اللحظة التاريخية والاجتماعية المتعينة. وأثبتت الدراسة أيضا أن إدريس استطاع، من خلال فنه القصصي، أن يكسر القشور الصلدة لكثير من المحرمات والممنوعات والمحظورات في النفس والمجتمع والضمير، باستنطاق المسكوت عنه، واقتحام اللامفكّر فيه، في الدين والسياسة والأخلاق والمجتمع، وانتزاع الأقنعة وتجريد العقل من الأوهام، وتمييز الخيوط الدقيقة بين المعقول واللامعقول، ومواجهة المشكلات النوعية بالتعمق فيها وطرحها للجدل، واختراق الأفق المسدود بفتح الطريق للحوار حول كل شيء، وهو في كل ذلك يبحث عن شكل قصصي مائز، يلتحم فيه العنصر البنائي بالبعد الوظيفي، وصولا إلي قصة مصرية جدا، وذلك هدف كبير جاهد طويلا في سبيل تحقيقه وقد تحقق بمهارة وجدارة.