قالوا لي: صاحبك فلان الفلاني أصبح وزيرا. قلت: ياما أكثر أصحابي الوزراء! قالوا: يا راجل عدي عليه.. قل له مبروك! قلت:اتصل بيه بالتليفون أحسن وأقول له مبروك..واللا ابعث له بوكيه ورد! قالوا: ماينفعش ياراجل.. اخطف رجلك لحد عنده.. مايصحش! ولأنني عادة أسمع نصائح الناس..وألهم زوجتي التي قالت لي أكثر من مرة: عدي علي صاحبك بارك له..ده صاحبك الروح بالروح.. خليك ظريف! ولأنه صاحبي وعشنا معنا أيام الجامعة نذاكر سوا ونأكل سوا.. ونصيع سوا لحد نصف الليل.. ونحب سوا.. وكنا تقريبا شبه مقيمين معا في غرفته الكحيانة التي كان يؤجرها من الست أم أحمد الخضرية صاحبة المكان وهو عبارة عن عمارة قديمة أربع أدوار كل دور شقة.. واختارت هي له حجرة بمنافعها.. يعني بعفشة الميه فوق السطوح منه كده لربنا.. ومن حوله عشش الدجاج والأرانب تبع الست أم أحمد.. وكان إيجار الحجرة أربعة جنيهات في الشهر.. وكان أيامها مبلغا كبيرا جدا بالقياس لأن خريج الجامعة كان مرتبه في الحكومة أول تعيين أربع عشرة جتيها بالتمام والكمال! ولأنني تقريبا كنت شبه مقيم معه في حجرته اليتيمة فقد كنت استلفت من أمي كل شهر بطلوع الروح جنيهين لأدفع معه نصف الإيجار! ايقظني من سرحاني البعيد حارس مبني الوزارة وهو يسألني: رايح فين ياحضرة؟ قلت له: رايح للسيد الوزير.. قال: عندك ميعاد؟ قلت بأدب شديد: أيوه.. وسيادته عارف أني جاي له! ودخلت أقدم قدما وأوجر أخري.. وعلي عتبة مكتب السيد الوزير أمسكت بيدي وسط زحام الداخلين والخارجين وكلهم يحملون دوسيهات وأوراق لا أعرف ماذا بها.. وماذا تقول؟ فتاة تخطت العشرين من عمرها تضع نظارة طبية علي عينيها.. وتلم شعرها داخل طرحة خضراء. لم تكن محجبة ولكن محتشمة. وتمسك في يديها دوسيها عريضا. قالت لي: والنبي لو حضرتك تسمح تدخلني معاك.. لحسن كل ما أحاول أخش من باب الوزير يمنعوني ويزقوني علي بره! اخذتها من يدها, وحسبها الحراس ابنتي أو سكرتيرتي. ودخلت إلي مكتب سكرتير السيد الوزير الذي استقبلني بترحاب كبير.. فقد كان يعرفني جيدا عندما كان سكرتيرا برضه له ولكن عندما كان موظفا كبيرا في الوزارة.. قال لي: اتفضل يا أفندم استريح.. لحد أما أدي خبر للباشا.. ده حيفرح قوي! غاب دقائق عند الوزير.. وعاد ورأسه مطأطأ وعيناه تنظران إلي قدميه.. وهي علامة اعرفها جيدا. وتعني أن خبر قدومي السعيد لم يلق ترحيبا عند الباشا! لم اسأله شيئا..ولكنه بعد دقائق رفع رأسه وقال لي في نصف ابتسامة: أصل الباشا مشغول لشوشته.. أنا مستني من سعادته جرس.. هو قاللي أنا هضربلك جرس! مرت الدقائق لتكمل يادوب نصف الساعة.. وناس داخله وناس خارجه. وتليفونات ترن. وباقات ورد داخله في وسطها كروت أصحابها, كان مسعود السكرتير ياه كنت قد نسيت اسمه يجملها إليه في مكتبه ويعود دونها.. قلت لنفسي دون صوت في مونولوج داخلي: الظاهر.. الباشا نسي أنه لسه مديون لي بحق البدلة السوداء والجزمة السوداء والبابيون الأحمر اللي لبسهم يوم فرحه.. ولما حاول أن يعيدهم إلي يوم الصبحية..قلت له: عيب ياراجل دا احنا أصحاب..دي هدية فرحك! واللانسي إني كنت بغششه في امتحان القانون الدستوري بتاع الدكتور السنهوري.. لما ضرب لخمة وقال لي: الحقني ياعم عزت موش فاهم حاجة أبدا؟ ايقظتني الفتاة المسكينة التي تجلس إلي جواري من سرحاني بقولها: يعني حضرتك ما سألتنيش أنا جايه هنا ليه؟ قلت لها: آه صحيح.. أنا آسف ياستي! قالت: لا أبدا.. أنا بقالي سبع سنوات متخرجة في كلية التجارة بتقدير جيد مرتفع.. ومافيش وظيفة وتقدمت لها وقبلوني.. وأبويا تعيش أنت.. مات السنة اللي فاتت محصور علي.. وأمي بتصرف عليا وعلي أخواتي الثلاث وكلهم في المدارس والجامعة من معاش الوالد الله يرحمه.. سألتها: كام كده! قالت في حرج وقد أحمر وجهها: مائتان وثمانون جنيها.. أنا وأمي وثلاث أخوات؟ قلت لها. بس! سكتت ولم ترد.. سألتها: انتي قدمتي في وظايف قبل كدة؟ قالت: كتير ماخلتش.. بياخذوا بس اللي عنده واسطة وظهر يسنده.. باشا بيوصي عليه.. إنما أحنا مالناش إلا المولي الكريم.. قلت لها: وريني كده الدوسية بتاعك؟ فتحت أمامي كل أورقها والأبواب التي طرقتها طوال سبع سنوات بطولها.. دون أن يفتح باب وأحد أو حتي نافذة صغيرة تطل منها علي سوق العمل! ................... .................. انفتح باب الوزير فجأة واطل منه ضاحكا متهللا.. وهو يودع زائرا من علية القوم أو من كبراء البلد.. لمنحي بطرف عينيه فأقبل علي مرحبا: ياراحل أنت هنا...ماحدش قاللي.. ليه مامسعود ماقلتليش.. أنت دايما تعمل الفصول البايخة دي.. تعالي ياراجل.. اليبت بيتك..هو انت غريب! قلت له: ما فيش داعي أنا عارف أنك مشغول لشوشتك.. موش عاوز أعطلك..! قال: تعطلني إيه بس اتفضل.. اتنين قهوة يامسعود.. أنا عارف إنك بتشربها مضبوط موش كده! قلت: دا أنت فاكر كويس أهه! قال: ومين السنيورة اللي معاك دي.. بنتك.. ولا حفيدتك؟ قلت: لاينتي ولاحفيدتي.. دي بنت متخرجة من الجامعة بقالها سبع سنين.. وما بتشتغلش لحد النهاردة! قال: غالي والطلب رخيص.. فين الدوسيه بتاعها..؟ مدت الفتاة يدها كمن يمد يده لطوق النجارة وهو يغرق في بحر بلا قرار! أخذه منها وقال لمسعود: يامسعود حط الدوسيه فوق دوسيهات طلبات التوظيف.. وماتنساش تقولي عند لجنة فحص الطلبات أن ده وصية الغالي! دق جرس التليفون.. رد السكرتير. وانتفض واقفا: سعادة الباشا مكتب رئيس مجلس الوزراء. قال الباشا: حولهولي جوه المكتب بسرعة.. دخل ولم يخرج.. انتظرنا وعيوننا معلقة ببابه.. ولكن لم يخرج! انسحبت أنا والمسكينة طالبة الوظيفة.. قلت لها ونحن ننزل سلالم الوزارة: ماتقلقيش يابنتي.. أنا عارف الوزير كلمته واحدة! قالت: كلهم بيقولوا كده..وبعدين يبنسوا... بينسوا العلابة اللي زينا ولاد البطة السوداء! ...................... ..................... قال لي صديقي العزيز بعد أيام من واقعة التلطع علي بابه.. مع البنت الغلبانة التي تبحث عن لقمة عيش حلال.. وقد جمعنا فرح بنت صديق لنا أصبح عقبالنا يارب من الأكابر.. تشهد بذلك قاعة الفرح في فندق العشرة نجوم التي امتلأت عن آخرها بنحو ألف مدعو من الكبار الثقال مالا ونفوذا وعزوة وأتباعا وجبروتا: تعرف يا صديقي أن منصب الوزير كارثة حقيقية لمن يتقلده.. ومقلب كبير في حياته.. بل إنه إذا أردت الصدق في القول يحول أيامه إلي صداع دائم وليله إلي كابوس لا ينتهي! قلت له ضاحكا: اصحي انت يا عزيزي وفوق.. وكمان بتتبتر علي النعمة.. وانت قاعد في العربية المرسيدس المكيفة اللي طولها عشرة أمتار.. والحراس جنبك.. والموتوسيكل الهارلي اللي عامل زي الكلب البوجي عمال يجعر لزوم فتح الطريق.. وسلام سلاح.. وسع يا جدع سيادة الوزير وصل يا جدعان.. لحظة وصولك من باب الوزارة إلي مكتبك المكيف اللي واخد دور بحاله في الوزارة؟ قال: كل دي مظاهر فارغة وكدابة.. قدام الناس بس.. لكن ما خفي كان أعظم! قلت: والنبي تقوللي كده علي ما خفي ده؟ قال: انت فاكر إن الوزير لما يقعد علي كرسي الوزارة يفتكر نفسه عنتر زمانه.. وانه جاي الوزارة عشان يفتح عكا؟ قلت له: امال إيه.. شرابة خرج يعني؟ قال: أول حاجة حتلاقي مشاكل متلتلة.. لا حد حل ولا ربط.. والوزير اللي قبله سابله تركة مشاكل لا تعد ولا تحصي.. ويجد نفسه فجأة كأنه في دار أيتام موش وزارة.. ومطلوب منه أن يبحث عن أب أو أم لكل يتيم.. يعني كل مشكلة! قلت: موش فيه خطة لكل وزارة.. كل وزير يمشي عليها.. واللي جاي بعده زي حضرتك كده يكمل المشوار! قال: أتحداك انك تلاقي خطة لكل وزارة.. التموين مثلا توفير رغيف العيش والسلع بأسعار معقولة, وتوفير غطاء غذائي يكفي مصر كلها علي الأقل ستة أشهر.. ومعه جيش من مفتشي التموين يراعون الله ولا يقتسمون حق أشولة الدقيق مع أصحاب المخابز.. ولا يحصلون علي معلوم شهري من أصحاب المتاجر. ووزير التعليم يحمل تركة مثقلة بالهموم مطلوب منه توفير مقعد لكل تلميذ أول السنة.. لكن مافيش مدارس.. طيب يعمل إيه.. نحط كل ستين أو سبعين تلميذا في الفصل.. ونهد الحوش والملاعب ونبني فوقهما فصول من طوب وزلط وأسمنت.. وملعون أبو الجري واللعب للعيال.. كفاية عليهم اللعب في الشوارع والحارات وحرق صدرهم بسجاير البانجو! أما وزير الصحة مازال صديقي كالمذياع الذي ضاع زرار أقفاله مندفعا في الكلام فمصيبته سودة.. مافيش أسرة في المستشفيات ولا دواء ولا حتي شاش وميكروكروم عشان الجروح.. لازم المريض يجيبها معاه وهو داخل يتعالج.. ده غير إنفلونزا الطيور والخنازير والغدة النكفية وسرقة الكلي من المرضي الغلابة اللي دخلوا المستشفي عشان يتعالجوا من نزلة برد قلبت بغم! صرخت في وجهه لكي يسمعني وسط ضجيج زفة العروسين: موش فيه خطة لكل وزارة؟ قال: خطة إيه.. كل وزير له خطة.. لكن بمجرد أن يشعر إنه ماشي خلاص.. يقطع ملف الخطة بتاعته بأوراقها ومشاريعها.. لأنها باسمه هو.. ولما ييجي الوزير الجديد اللي زيي كده.. يحط خطة جديدة.. والسلام عليكم ورحمة الله! قلت له: قوم ياراجل.. نتفرج علي العروسة والرقاصة بتزفها لعريسها.. بلا غم! ................. ................. هذه الحكايات العجيبة.. مجرد خيال في خيال من باب الخيال العلمي ليس أكثر ولم تحدث في الواقع.. حتي لا يزعل منا أصدقاؤنا الوزراء.. وتأخذ بهم الظنون كل مأخذ.. وإحنا موش ناقصين.. ولذا لزم التنويه.{! Email:[email protected] المزيد من مقالات عزت السعدنى