الإنسان كائن تحركه أفكار وتصورات وقيم ومعايير اكتسبها عبر رحلته فى الحياة منذ أن كان جنينا فى بطن أمه، وليس آلة أو روبوتا يمكن برمجته، وإعادة هذه البرمجة وتصحيحها فى أى لحظة. لذلك من السهل جدا إنشاء الأشياء بصورة سريعة تسابق الزمن، ولكن من العسير جداً تغيير الإنسان الذى يستفيد من هذه الأشياء، ويستخدمها، لذلك قد يهدرها، أو يدمرها، أو يدمر المجتمع بها. إنشاء المدن والطرق والمصانع والمزارع عملية مبرمجة مخططة تحتاج إدارة حازمة، ومراقبة صارمة. أما تكوين وتأهيل الإنسان فعملية معقدة تحتاج الى زمن، ومناهج تغيير، ووسائل توصيل، وشمولية فى التنفيذ، بحيث لا يكون هناك من يبنى، وهناك من يهدم ما قد بناه. لم تنهض أمة من الأمم إلا بعد أن أحدثت فى شعبها تغييرا ثقافيا حقيقيا، وما الأديان الكبرى فى العالم الا عمليات تغيير فكرى وثقافى جذرى وشامل، لأن نقل المجتمعات من حال الى حال آخر يستلزم تحرير العقول والنفوس من منظومات الأفكار والقيم والتصورات التى كانت السبب فى الحالة المرفوضة التى كان عليها المجتمع، لذلك لا يمكن الانتقال الى حال أفضل بقيم وثقافة الحال الأسوأ. للمصريين ثقافة معقدة جدا لها خصائص جيولوجية لا توجد فى مجتمع آخر على ظهر الأرض، فكل الأمم والشعوب والثقافات التى جاءت لمصر تركت ترسيبات فى ثقافة المصريين، بحيث تحولت الثقافة المصرية الى مجموعة من الطبقات المتراكبة بعضها فوق بعض، فيها كل شيء ونقيضه، ونقيض نقيضه، ونقيض نقيض نقيضه...وهكذا الى آخر الزمان. بعض المصريين يجمع المتناقضات، ويزيل التعارض بين المتعارضات، ويصالح بين الشيطان والملاك، ويحتويهما داخله، ويعيش بهما، ويجعلهما يتعايشان، فهو الساحر الأسطورى الذى يجتمع فى يديه الثلج والنار، لا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار.... ولكن هذا كله كارثة على الدولة والمجتمع، يجعل من المستحيل التحرك خطوة واحدة للأمام... المجتمع المصرى فى نصف القرن الأخير أصبحت ثقافته تحكمها مجموعة من القيم أهمها: الكروتة، وتعنى عدم الإتقان، والتعجل فى إنجاز الأشياء، وعدم مراعاة العواقب، وعدم الاهتمام بنتائج الأفعال، فقط المهم هو إنهاء المهمة أو العمل، أو تقفيل المنتح بصورة سريعة يدل ظاهرها على اكتماله على الرغم من أنه فى الحقيقة لم يكتمل، ولم يتقن، وقد يكون كارثة، أو يكون فيه هلاك كبير... الكروتة كانت هى لغة الإنجاز فى الإنشاءات، وفى الطرق، وفى الصناعات، والبناء...الخ. أما القيمة الثقافية الثانية فهى الطلسقة، وقد قدم أفضل تعبير عنها والد زميلنا جابر حين كنا نسكن فى استراحة المعيدين فى جامعة القاهرة فى الثمانينيات من القرن الماضى، حين قال: يا جابر يا بنى حط أى حاجة على أى حاجة على النار تبقى طبيخ. الطلسقة هى وضع أى شيء ليقوم مقام أى شيء، يتم إصلاح أعطال السيارات بعود من الكبريت مكان المسمار مثلا، ويتم استخدام زجاجة بلاستيك فارغة مكان قطع غيار مهمة جدا فى أى ماكينة.... الخ، كل ذلك طلسقة تمشى الحال يوما أو يومين، ويا عالم بكره هيحصل إيه... حالة من الإهمال والفساد الذى يعرض حياة الناس للخطر، ويتسبب فى قتل النفس يغلفها إيمان بالقضاء والقدر، وتسليم للخالق الذى يملك وحده تحديد كل ما يحدث فى قادم الأيام...هنا يتجلى عناق الشيطان للملاك. أما السفلقة فهى القيمة العليا، والهدف الأمثل للكثير، البعض يتمنى أن يعيش سفلقة يعنى يعيش على حساب الآخرين دون جهد، ولا تعب، ولا عمل، ولا عناء، يأخذ دون أن يعطى، ويستمتع دون أن يتعب، ويستحوذ على ما لا يملك، ولا يستحق، حياة السفلقة هى شعار الكثير فى نصف القرن الأخير، لذلك لا إتقان، ولا جهد، ولا عمل أصلا، الدخل الشهرى حق مكتسب، والعمل نوع من التبرع أو التطوع من الموظف أو العامل لا علاقة له بالراتب أو الدخل...سفلقة. للخروج من هذه الحالة لابد من إعادة تربية وتثقيف على منظومة قيم جديدة عكس المنظومة الحالية، منظومة قيم جديدة علينا، ولكنها هى من مسلمات الحياة فى المجتمعات الأخرى. هذه القيم الجديدة علينا لا يمكن ترسيخها بمجرد الخطب والمواعظ، وإنما لها منهج يجب إتباعه والالتزام به تعليم القيم، وتغيير الثقافة يبدأ بفكرة يتقبلها عقل الإنسان؛ بعد أن يتم تنظيفه من الأفكار السلبية التى هى نقيض الفكرة، أو القيمة التى يراد تعليمها. التغيير الثقافى يحتاج إلى غرس مفاهيم وقناعات وأفكار فى عقل الإنسان، ثم تنتقل هذه القناعات من العقل إلى القلب، أى تتحول من فكرة مجردة إلى قيمة معنوية يسعد الإنسان بإيمانه بها، ويخجل إن خالفها، وبعد ذلك تتحول هذه القناعة إلى سلوك فعلي؛ يمارسه الإنسان فى مجتمعه مع نفسه وجيرانه والمحيطين به، يلتزم به مع من يعرف، ومن لا يعرف، يطبقه فى البيت مع أسرته، وخارج البيت مع كل من يتعامل معهم. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف