مع افتتاح أكبر مول فى مصر منذ أيام قليلة؛ انتشرت مجموعة صور على نطاق واسع بين المصريين والعرب فى كل مكان فى العالم، هذه الصور تعكس حقيقةً يتعامى عنها الكثيرون من ولاة الأمور عن قصد أو غير قصد، حقيقة تقول إن الإنسان المصرى يحتاج إعادة تأهيل كاملة، وأن خطاب العظمة مجرد بلاغة لغوية، وشعارات موغلة فى العنصرية، أو على أحسن الأحوال وطنية متعصبة، المصرى العظيم لا يملك من العظمة إلا الانتساب للتاريخ، أما حقيقته فلم تعد كذلك، بل على العكس صار محتاجاً لأن يتعلم مسلمات الحياة التى سبقه فيها بسنوات ضوئية من كانوا يتعلمون من آبائه وأجداده أساسيات الحياة. بداية لابد من الإقرار بأن من ذهب إلى هذا المول الأسطورى ليسوا الفقراء، ولا أبناء الريف الذين تعود القاهريون السخرية منهم، وإنما ذهب إليه أبناء الطبقة الوسطى والعليا القادرين على الإنفاق، والاستمتاع بكل جديد، ورغم أنهم كانوا أول من دخل المكان؛ إلا أن عبقرية المصرى العظيم حولت ساحات المول إلى مقلب زبالة... القمامة والفضلات فى كل مكان، خصوصاً فى أماكن تناول الطعام، الناس يأكلون وسط الزبالة التى صنعوها بأنفسهم، مشهد لابد أن يتم التعامل معه بمنتهى الجدية؛ لأنه يؤشر إلى ماهو قادم، إن كل ما يتم بناؤه، وتشييده من مدن وطرق ومؤسسات، لن يدوم طويلاً؛ لأن الإنسان الذى يستخدمه خربان، فاقد لمنظومة القيم التى تمكنه من العيش فى عالم اليوم، لذلك كان ينبغى أن ندرك أن الإنسان قبل البنيان. أهم من إنشاء الطرق والمدن والمؤسسات والمشروعات هو كيفية المحافظة عليها وضمان استمراريتها واستدامتها، لأنه دون الاستدامة لا قيمة للإنشاء، ودون المحافظة على البنية التحتية يكون إنشاؤها إهداراً للموارد والإمكانات، والمحافظة على البنية الأساسية والخدمات ليست مسألة قانونية، وإجبارية تنظمها عقوبات، ورجال شرطة هم أنفسهم جزء من هذا الشعب العظيم، وقد يكونون أكثر عظمة من الآخرين فى ممارسة السلبيات، وإنما يضمن استمرارها، ويحافظ عليها وجود منظومة قيم وثقافة راسخة فى عقول وقلوب الشعب كل الشعب، وهذا ما كان فى مصر قبل عصر الانفتاح. لذلك مصر تحتاج اليوم إعادة تربية وتثقيف الشعب كل الشعب على قيم النظام والنظافة، واحترام الآخرين، والالتزام بالقانون واللوائح، والمحافظة على المال العام، والتمتع بالجمال، وآداب التعامل فى الأماكن العامة، وحماية المرافق العامة.....إلخ، منظومة طويلة من القيم للأسف لا يوجد منها فى مصر ما يمكن أن يراه الإنسان بالعين المجردة. وهذه القيم لا يمكن ترسيخها بمجرد الخطب والمواعظ، وإنما لها منهج يجب اتباعه والالتزام به. تعليم القيم، وتغيير الثقافة يبدأ بفكرة يتقبلها عقل الإنسان؛ بعد أن يتم تنظيفه من الأفكار السلبية التى هى نقيض الفكرة أو القيمة التى يراد تعليمها، فإقناع الإنسان العادى بالعيش فى بيئة نظيفة، أو الالتزام بالنظام حتى لو كان ضد مصلحته الوقتية؛ عملية تحتاج إلى تغيير مفاهيم وقناعات وأفكار مسبقة؛ لتتحرك هذه القناعة من العقل إلى القلب، أى تتحول من فكرة مجردة إلى قيمة معنوية يسعد الإنسان بإيمانه بها، ويخجل إن خالفها، وبعد ذلك ينبغى أن يتم تحويل هذه القناعة والإيمان إلى سلوك فعلي؛ يمارسه الإنسان فى مجتمعه مع نفسه وجيرانه والمحيطين به، يلتزم به مع من يعرف، ومن لا يعرف، يطبقه فى البيت مع أسرته وخارج البيت مع كل من يتعامل معهم. للوصول إلى هذه الغاية النبيلة؛ وهى تغيير ثقافة المصريين ليكونوا محافظين على النظافة والنظام فى النفس والبيت، وفى الشارع والأماكن العامة لابد من معرفة طرق الوصول إلى عقولهم وقلوبهم، ولابد من تضافر الجهود لإقناعهم بالفكرة، وضمان التزامهم بها، وهذا فى ذاته يحتاج إلى عملية غاية فى الشمول والتعقيد، تحتاج إلى مشروع ثقافى قومى شامل تشارك فيه مؤسسات المجتمع جميعها؛ كل فى مجال تخصصه، ويمكن أن تشتمل على الآتي: أولا: نشر قيم الجمال فى المجتمع، وتعليم الشعب تذوق الجمال، وهذا يحتاج إلى التخلص من الفقه الوافد مع أولئك المرتزقة الذى نشروا القبح فى المجتمع، وسخروا كل طاقاتهم لمحاربة الذوق والجمال، بل صاروا قدوة للشباب فى تحويل القبح إلى دين، ونحن شعب كان يردد دائما... والله جميل يحب الجمال. ثانيا: فرض معايير على صناعة السينما والدراما فى مصر بحيث يتم تنظيفها من قيم وثقافة القبح والفوضى والفهلوة، وكل القيم السلبية التى نشرتها مرحلة سيطرة الجزارين على صناعة السينماوالدراما. ثالثاً: وضع خطة صارمة لجميع الخطب والدروس فى المساجد والكنائس بحيث تركز جميعها على القيم والسلوكيات والأخلاقيات العامة، ولا تقتصر فقط على قيم الخلاص الفردي، والنجاة الفردية فى الدنيا والآخرة، التى خلقت ثقافة أنانية مفرطة فى الفردية، وحولت المجتمع إلى وحوش، يطبقون ما سمعوه عن يوم الحشر فى تعاملهم اليومى (نفسى ...نفسى)، حيث يفر كل منهم من أمه وأبيه وصاحبته وأخيه فى الدنيا، فيقتل أباه من أجل بضع مئات من الجنيهات، أو تقتل زوجها من أجل نزوة...هذه القيم صنعها وعظ الخلاص الفردى الذى جاءنا مع الفقه الوافد من وراء البحر الأحمر. رابعاً: القيام بثورة تعليمية فى مصر، لأن كل ما يتم إلى تاريخ اليوم هو ترقيع فى ثوب متهالك ملىء بالبقع، لا ينتج إلا عقولا مليئة بكل القيم السلبية من الشطارة والفهلوة والغش والانتهازية والأنانية وعدم احترام النظام، والتمتع بمخالفة القانون، الحقيقة أن مصر لا يوجد فيها نظام تعليمي، وإنما فيها بقع وبؤر تعليمية لا ينظمها نظام واحد، ولا تحقق أهدافا واحدة، كل جامعة دولة مستقلة لخدمة طموحات رئيسها فى منصب أعلي، ووزارة التربية سوق كبيرة، لا تملك منها الدولة إلا السور، والوزير حارس بوابة، وما يحدث فى الداخل لا يعلمه إلا الله. هذه بعض الأمثلة وغيرها كثير... ولكن هل هناك من يستطيع؟. بل هل هناك من يريد تغيير ثقافة المصريين حتى لا تنشر صورهم مع الزبالة؟ لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;