تعليم النواب: السنة التمهيدية تحقق حلم الطلاب.. وآليات قانونية تحكمها    خبير اقتصادي: صفقة رأس الحكمة غيرت مسار الاقتصاد المصري    سعر الدينار الكويتي اليوم الأحد في تعاملات البنوك وشركات الصرافة    8 مصادر لتمويل الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وفقًا للقانون (تعرف عليهم)    انخفاض أسعار الفائدة في البنوك من %27 إلى 23%.. ما حقيقة الأمر؟    زعيمة حزب العمال الجزائري لويزة حنون تعلن ترشحها للانتخابات الرئاسية    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    الأونروا: نصف سكان رفح باتوا في الشوارع الآن    موعد مباراة ليفربول ضد وولفرهامبتون اليوم الأحد 19-5-2024 في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    يوم صعب على الصعيد، الأرصاد تحذر من تداعيات موجة حر قياسية اليوم الأحد    إصابة 10 أشخاص في انقلاب ميكروباص بطريق "قنا- سفاجا"    حملات لإلغاء متابعة مشاهير صمتوا عن حرب غزة، أبرزهم تايلور سويفت وبيونسيه وعائلة كارداشيان    رامي جمال يتصدر تريند "يوتيوب" لهذا السبب    غضب عارم داخل حكومة تل أبيب وتهديدات بالانسحاب.. ماذا يحدث في إسرائيل؟    الخارجية الروسية: مستقبل العالم بأسرة تحدده زيارة بوتين للصين    واشنطن تدين إطلاق كوريا الشمالية لصواريخ باليستية    الاحتلال الإسرائيلي يخوض اشتباكات في حي البرازيل برفح الفلسطينية    حظك اليوم برج العقرب الأحد 18-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سامح يسري يحتفل بزفاف ابنته.. ومصطفى قمر يغني في الفرح (صور)    عاجل.. موجة كورونا صيفية تثير الذعر في العالم.. هل تصمد اللقاحات أمامها؟    القومي للبحوث يوجه 9 نصائح للحماية من الموجة الحارة.. تجنب التدخين    نصائح لمواجهة الرهبة والخوف من الامتحانات في نهاية العام الدراسي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    خاص- تفاصيل إصابة علي معلول في مباراة الأهلي والترجي    "التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    ظهر بعكازين، الخطيب يطمئن على سلامة معلول بعد إصابته ( فيديو)    الداخلية تكشف حقيقة فيديو الاستعراض في زفاف "صحراوي الإسماعيلية"    مع استمرار موجة الحر.. الصحة تنبه من مخاطر الإجهاد الحراري وتحذر هذه الفئات    عيار 21 الآن بالسودان وسعر الذهب اليوم الاحد 19 مايو 2024    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    صاحب متحف مقتنيات الزعيم: بعت سيارتي لجمع أرشيف عادل إمام    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    عماد النحاس: كولر أدار المباراة بشكل متميز.. وغربال كان متوترًا    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    رامي ربيعة: البطولة لم تحسم بعد.. ولدينا طموح مختلف للتتويج بدوري الأبطال    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    جريمة في شارع ربيع الجيزي.. شاب بين الحياة والموت ومتهمين هاربين.. ما القصة؟    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية..
تطوير الثقافة المصرية
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 08 - 2018

يتحدث الجميع فى هذه الأيام عن «إعادة بناء الإنسان المصرى» و»تنمية الإنسان المصرى». والحق أننا لو تأملنا المقصود بمعنى الشعارينِ وجدنا أن هذا المعنى يتجه فى النهاية إلى تغيير ثقافة الإنسان المصرى، وتحويلها من ثقافة تعمل على الانحدار بهذا الإنسان إلى ثقافة تدفع بهذا الإنسان إلى الأمام وتجعله جديرًا بكل تقدم، ومن ثم تحويله من كائن سلبى إلى فاعل إيجابى فى الإسهام فى معركة تقدم وطنه وتنميته على كل المستويات العلمية والصناعية والاقتصادية والسياسية. وقد تعددت الكتب التى تربط ربطًا وثيقًا بين الثقافة والتنمية، خصوصًا بعد أن أصبحت قضايا التنمية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإنسان الذى هو فاعل التنمية والمحرك لها والمستفيد منها فى الوقت نفسه.
........................
ولقد كان عبد الناصر الذى احتفلنا قريبًا بذكراه يعى العلاقة الوثيقة بين تنمية المجتمع اقتصاديًّا وصناعيًّا وتنميته ثقافيًّا، فكان ينشئ إلى جانب المصنع الجديد المدرسة الواعدة وقصر الثقافة الذى يشع استنارة ووعيًا مُحدثًا لا ينفصل عن تحديث المجتمع وتغيير قاعدته الاقتصادية وبنيته الاجتماعية، وذلك فى عملية تغيير جذرى، تجعل من الحداثة الوجه الآخر من التحديث، وعدالة إعادة توزيع الدخل الوطنى الوجه الملازم لعدالة توزيع الثقافة الوطنية. ولذلك كان «عيد العلم» احتفاء وطنيًّا عامًّا بأبرز الأعلام الوطنية فى الفكر والآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والطبيعية على السواء. ولستُ فى حاجة إلى أن أُعدد معانى الثقافة، وإنما أقتصر على معناها المعروف الذى يربطها بأسلوب الحياة، فيجعل من الثقافة أسلوب جماعات بشرية بعينها فى الحياة على نحو نابع من ميراثها المادى والمعنوى، ومن القيم التى تحكم حياتها وتربط تراث الماضى بإنجازات الحاضر تأثرًا وتأثيرًا على نحو متبادل بما فى ذلك العادات المتوارثة بسلبها وإيجابها، أو التقاليد أو القيم والمبادئ الأخلاقية التى تسهم فى تشكيل رؤية الناس إلى عالمهم والكيفية التى يواجهون بها التحديات التى يطرحها عليهم هذا العالم.
هذا المعنى العام للثقافة هو معنى أنثروبولوى يتسم بالحياد، ولكن إذا فككنا هذا المعنى العام، وجدناه ينطوى على معانٍ وصفات تمايز بين نوعين من الثقافة. الثقافة الأولى، هى ثقافة تَقدُّم كتلك الموجودة فى الدول المتقدمة التى تتحكم فى اقتصادات العالم وصناعاته، والتى كان يتيح لبعضها هذا التقدم نتيجة نقص فى بعض القيم الإنسانية - أن تستغل غيرها من سكان العالم، إما عن طريق الاستعمار الاستيطانى، أو عن طريق الاستعمار الاقتصادى المرتبط بالعولمة ولوازمها الناتجة عنها. وأبرز ما يميز ثقافة التقدم عن ثقافة التخلف هى أن الأولى ثقافة مستقبلية تتطلع دائمًا إلى الأمام، وترتبط بالأهداف العليا التى تريد تحقيقها فى المستقبل لمصلحة أبنائها على وجه الخصوص، أو لمصلحة أبناء الإنسانية كلها على وجه العموم. والاهتمام بالمستقبل يعنى أن نقيس على تحدياته، وأن نُوْجِد دائمًا الحلول لمشكلاته، وأن ننظر دائمًا إلى توقعاته واحتمالاته. أما ثقافة التخلف، فهى تلك التى تستغرق دائمًا فى الماضى مُسلِّطة عليه أعينها فى كل الأحوال. فهى ثقافة تبدو كأنما تسير وعيناها فى قفاها، فلا تبصر سوى ما وراءها ولا تفكر إلا فيما مضى. وتستند هذه الثقافة دائمًا إلى أصول دينية وقيمية، منها الاحترام المطلق للسَّلف بما يجعل الخَلَف دائمًا فى حالة تبعية للسلف، وبما يشيع السلفية فى المجتمع كله. ويتأكد ذلك عادة بتأويل دينى سلبى للحديث الشريف الذى يقول: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». والتأويل السلبى يُعمِّم معنى الحديث ويَنقله من المعنى الأخلاقى المشار إليه فى ظاهر الحديث إلى المعانى المطلقة التى تجعل دائمًا من عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - عصرًا ذهبيًّا كلما ابتعدنا عنه انحدرنا فى الزمن، وانحدرنا نحن مع الزمن، وذلك بما يحيل التاريخ إلى حركة هابطة فى الزمان، ينحدر معها الوجود الإنسانى دائمًا إلى هوة الأفول أو السقوط. وعلى العكس من النظرة السلفية النظرة المناقضة التى ترى أن الزمن دائمًا يتطور ويصعد إلى الأمام، وأن كل صعود فيه يؤدى إلى اكتساب وتراكم خبرات ومعارف جديدة على كل المستويات. قد ينحدر هذا الزمن أحيانًا أو نتيجة عِلَّة طارئة، ولكنه سرعان ما يواصل صعوده، فالتطور هو سُنَّة الحياة، والتقدم هو قانونها الذى يجعل من حاضر الغد أفضل من حاضر اليوم. وربما كان هذا هو المعنى الإيجابى للحديث الشريف الذى يقول: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وذلك بالمعنى الذى يقرن التجديد بمعنى التطور، فيجعل من أعلام القرن السابع الهجرى مثلا أكثر وعيا ومعرفة من أعلام القرن الأول، كما يجعل من علماء القرن الخامس عشر الهجرى أكثر علمًا ودراية بشئون الحياة والدين من أهل القرن السابع أو السادس، فالحياة دائمًا فى تجدد واستمرار حى وتواصل خلاق، وعلى نحو يؤدى إلى التراكم الكمى والكيفى للمعرفة بوجه عام، وفى سياق صاعد من الانقطاعات المعرفية التى تتأسس بها أبنية الثورات العلمية التى لا تتوقف فى كل مجال، ولذلك بقدر ما تدفعنا ثقافة التقدم إلى الأمام، وإلى التفكير فى تحديات المستقبل، تدفعنا ثقافة التخلف إلى الماضى، فتصبح ثقافة ماضوية سلفية، صفاتها التقليد والاتباع، والسير على هدى نموذج جاهز من قبل.والمستقبل من منظور هذه الثقافة هو تكرار للماضى الذى كان موجودًا من قبل، ولا جديد تحت الشمس من منظور هذه الثقافة، وما نقول إلا مُعادًا من قولنا مكرورًا، وهذا ما قصد إليه الحنابلة المتأخرون الذين كتبوا عن فضل السلف على الخلف، وفرضوا ضرورة الاتباع لا الابتداع، ونفوا معنى التطور الخلاق الذى هو أصل من أصول الكون. والحق أن ثقافة التخلف بهذا المعنى، هى ثقافة إذعانية لا حرية فيها للفرد أو الأمة، فكلاهما ليس له إلا الإذعان لما سبق أن قيل أو صُنِع. والمستقبل المأمول هو تَكْرار لشكل من أشكال الماضى، والتاريخ لا يتقدم أو يتطور، إنما يُكرر نفسه. والحق أن شيوع ثقافة التخلف على هذا النحو يقضى على روح التمرد فى الأمة، ويؤدى بها إلى الخنوع والاستسلام والتقليد لكل ما سبق، فردًا أو جماعة، زمنًا أو مكانًا، كيفيًّا أو كميًّا. وهو فهم يؤدى إلى إيقاف الحياة نفسها، وتدمير إمكان أن يغامر الإنسان فى ابتداع شيء جديد أو عالم جديد، فيظل بدل ذلك- أسير هذا الماضى الذى يشده إليه، والذى لا يرى سواه. واذهب إلى معارض الكتب العربية، فستجد أن أغلب ما فيها يتعلق بالتراث أو الماضى، ولا يتعلق بالمستقبل أو احتمالاته، وحتى ما يسمى «المستقبليات» أو علوم المستقبل، لا محل لها من الإعراب أو الوجود الفاعل فى ثقافتنا. (وكم كتابا - على سبيل المثال أنجزه العقل العربى عن مستقبل العالم العربى فى القرن القادم مثلًا؟!) ولذلك نبدو كما لو كُنّا خرجنا من سباق الحضارات واكتفينا بالبقاء محلك سِر نتأمل الصاعدين إلى الفضاء، والباحثين فى كيفية الحصول على ما لا نهاية له من أشكال المعارف الجديدة بينما نحن قانعون خانعون لكل ما يقضى على حرية الفرد أو الجماعة فى الابتكار أو الابتداع، أو حتى الخروج على المألوف، أو الثورة على الظلم والاستبداد، فثقافة التخلف هى ثقافة إذعان، ونوع سلبى من الجبرية القدرية التى لا مكان فيها لحرية الفرد أو الجماعة. والتجريب الخلاق كالمغامرة الإبداعية، موصفان بالسلب فى هذه الثقافة التى يبدو إلى الآن- أنها لا تفنى ولا تتبدد. ولا سبيل إلى القضاء عليها إلا بإشاعة نقيضها، وهو ثقافة التقدم التى تستبدل النظر إلى المستقبل بالنظر إلى الماضى، والبحث فى تحديات المستقبل وليس التَّهوس بعبادة الأسلاف القدامى. فالتطور كالتجديد فى هذه الثقافة التى تستند إلى تأويل دينى اتباعى، غير عقلانى، بطريركى، ينفى حتى الاجتهاد المغاير فى تأويل محدث لمعنى الحديث « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا». وربما كان معنى الإلحاح على «رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ» تأكيد ضرورة التجديد فى كل قرن، وعدم الركون فى أى قرن إلى ما أصبح متعارفا عليه أو مستقرا فى الأذهان. فلا استقرار فى الأذهان ولا ثبات لأى معرفة، فالمعارف كلها تتجدد بتجدد علاقتنا بالحياة وعلاقتنا بالكون الذى نكتشف عامًا بعد عام ما يظل منه فى حاجة إلى الكشف، ولولا ذلك ما تسابقت الأمم المتقدمة فى الاهتمام بثقافة المستقبل والبحث فى وعوده وشروطه وتحدياته على السواء. فلابد أن يكون المستقبل دائمًا أفضل من الماضى. والدور الذى تقوم به ثقافة التقدم فى تأسيس وتأصيل معنى التنمية دور بالغ الأهمية، فهى تُضفى طابعًا إنسانيًّا على هذه التنمية التى لا يمكن أن يغيب عنها عنصر الإنسان الذى هو فاعل التنمية ومفعولها فى آن، ولذلك فلابد من دعم ثقافة التقدم؛ كى نواجه ثقافة التخلف المنتشرة فى عالمنا العربى من أقصاه إلى أقصاه. ومن المؤكد أن ذلك سوف ينتج صراعًا ثقافيًّا هائلًا، لكن ماذا نفعل وهذا قدرنا؟!، فضلًا عن أن هذا الصراع حادث بالفعل، وذلك منذ أن تحالف الرئيس الأسبق أنور السادات مع الجماعات الإسلامية فى السبعينيات، فأدخلت أفكارًا وأشاعت تصورات مُعادية للتقدم، بل حتى مُعادية لقيم الوطنية المصرية. ألم تلغِ هذه الجماعات معنى الوطنية، ورأت نموذجها فى الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى قال إنه سجد لله شكرًا فى هزيمة وطنه سنة 1967؟ أو لم تَسْعَ هذه الجماعات إلى محو كلمة وطن، وحاولت أن تنفى معناه من الوجود، ناسفة شعار ثورة 1919 «الدين لله والوطن للجميع»، وذلك بعد أن سجل الشعب المصرى بدماء شهدائه هذا الشعار على باب كل كنيسة ومسجد فى أرجاء مصر، فلم نعد نسمع:
مصر التى فى خاطرى وفى فمى أحبها من كل روحى ودمي
فقد تبنت هذه الجماعات شعار إحياء دولة «الخلافة» التى لم تكن سوى تاريخ ممتد من الاستبداد وسفك الدماء والظلم والشر منذ عهد معاوية بن أبى سفيان إلى سقوط آخر خليفة (عثماني) سنة 1923؟! ومع ذلك لم تترك هذه الجماعات هذا الحلم الكابوسى بل عاودت الدعوة إليه منذ تأسسها عام 1928، وتركته فى سنوات عبد الناصر التى انتهت بتحالفها مع السادات، حيث سمعنا عن أسلمة القوانين التى لا تفارق معانيها الأساسية روح الشرائع الدينية، وأضافت إلى ذلك كابوس إحياء الدولة الدينية، واستعادة الخلافة التى كانت كابوس تخلف للمسلمين، عاشوا فيها قرونا متطاولة. وللأسف كان للولايات المتحدة (المعروفة دائمًا بازدواج معاييرها) دور كبير فى تشجيع المتطرفين من جماعات الإسلام السياسى، فكانت وراء إنشاء القاعدة، وبعدها داعش، ولا تزال تلعب بالدين لتمزيق العالم العربى والحفاظ على منابع البترول خالصة لها، تاركة العرب المساكين يعانون من جرائم الإرهاب الدينى على أيدى الجماعات الإسلامية الإرهابية التى أصبحت منتشرة من المحيط إلى الخليج، ناشرة الدمار حيثما وُجِدت، ومُشِيْعة مع هذا الدمار ثقافة التخلف التى هى تقليد متصلب متسلط لفقه التخلف والاستبداد والتعصب الذى وصل إلى ذروته فى كتابات ابن تيمية ما بين القرنين السابع والثامن للهجرة. وها نحن نعيش -حاليًّا بسبب خطأ السادات القاتل أَسْرى ثقافة جماعات الإسلام السياسى التى هى ثقافة تخلف بامتياز، تظهر تجلياتها فى الكتب التى يصدرها أقطاب السلفية فى مصر، ناشرين أفكارها بين البسطاء من الناس إلى أن أصبحت هذه الأفكار ذائعة وسائدة، كما لو كانت هى مبادئ الدين الشعبى الذى غزا عقول الناس فى مصر، خصوصًا بعد انحدار التعليم وانتشار الفساد والاستبداد، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتدهور الصناعات المصرية.
الطريف أن الكثيرين يرون أن تغيير الوعى الثقافى للناس، ومن ثم تنمية الإنسان المصرى، تتولى مهمته وزارة الثقافة، وهذا تصور خاطئ بكل معنى الكلمة، فالوعى الثقافى تسهم فى صُنْعه أكثر من وزارتا، من بينها وزارتا الثقافة، فهناك وزارة التربية والتعليم والتعليم العالى وكلتاهما تكمل خط الدفاع الأول عن ثقافة التقدم أو التنمية وتضيف إليه، خصوصًا أن الجامعات لم يكن القصد منها - فى جيل طه حسين- تعليم مختصين محترفين لصناعات بعينها، وإنما تخريج مثقفين يجمعون إلى جانب تخصصاتهم- الوعى الثقافى العام الذى يجعل منهم مصابيح للتنوير والاستنارة فى مجتمعاتهم، فيسهمون فى تغيير الوعى الثقافى العام فى المجتمع بما اكتسبوه من علوم ومعارف وفنون، كى يرتقوا بهذا المجتمع من وِهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، مستبدلين فى ذلك ثقافة التقدم بثقافة التخلف. لكن للأسف انحدرت الجامعات المصرية انحدارًا رهيبًا بدأ منذ السبعينيات ولم ينتهِ إلى اليوم، وكان ذلك بسبب التقلص التدريجى لحرية البحث العلمى والتفكير، فضلًا عن تحول الجامعات المصرية إلى مخازن للأعداد الهائلة من الخريجين الذين لم يعد لهم معنى ولا حضور خلاق فى الحياة المصرية أو العربية. وفقدت الجامعات المصرية ما كانت تمتلك من رموز كثيرة تبدأ من أمثال لطفى السيد وطه حسين والسنهورى ولا تنتهى عند أمثال على مصطفى مشرفة وسميرة موسى فى السلسلة التى تنتهى بأحمد زويل وفاروق الباز وأحمد مستجير.
وأضِف إلى التعليم المصرى ودوره فى صُنْع الإنسان المصرى وتنمية وعيه الثقافى، وزارات الإعلام (سابقًا) والشباب والشؤون الاجتماعية وغيرها من الوزارات ذات الصلة ببناء الوعى وتنميته لدى المواطن المصرى. ولا يقتصر الأمر على هذه الوزارات التى تشترك معها وزارة الثقافة فى رعاية وتنمية الوعى الثقافى المصرى، فهناك دور مؤسسات المجتمع المدنى التى لا تقل أهمية عن مؤسسات الدولة، خصوصًا إذا أتيح لها أن تعمل بكامل قوتها وكفاءتها وأُطلِق لها العنان لكى تسهم إسهامًا إيجابيًّا فى بناء وعى المواطن المصرى ثقافيًّا. والحق أن الحديث عن الثقافة المصرية ينبغى أن يكون فى إطار الحديث عن منظومة ثقافية تشمل وزارات الدولة المعنية من ناحية، ومؤسسات المجتمع المدنى من ناحية ثانية. ولا فائدة من الحديث عن تنمية وعى الإنسان المصرى ثقافيًّا ما لم يحدث تنسيق وتعاون وتآزُر بين وزارات الدولة من ناحية ومؤسسات المجتمع المدنى من ناحية ثانية. وأُولى علامات جدية البداية هى إضافة مجموعة وزارية جديدة إلى المجموعة الاقتصادية على مستوى الحكومة، وأن تكون مهمة المجموعة الوزارية الجديدة هى صنع ومتابعة تأسيس وتأصيل منظومة ثقافية جديدة تسهم فى الانتقال بالإنسان المصرى مما آل إليه حاله إلى ما ينبغى أن يرتقى إليه هذا الحال، لكى يسهم هذا الإنسان فى إبداع ثقافة المستقبل والتقدم على كل المستويات وفى كل الطبقات والقطاعات.
والحق إننا عند هذه النقطة لابد أن نتوقف لنعرف مدى التخريب الذى تم فى وعى هذا الإنسان، ولن يكون ذلك إلا بدراسات ميدانية يتولاها المختصون فى علوم الاجتماع والنفس وأمثالهما، لكى نعرف على وجه التحديد حجم التخريب الذى حدث لوعى الإنسان المصرى الذى انحدر منذ السبعينيات إلى أن وصل إلى ما وصل إليه، الأمر الذى أدى إلى غياب الإتقان فى العمل والحرفية المهنية وأدى إلى رفض الاختلاف والتسامح وعدم الوعى بحرية التفكير والإبداع، فضلًا عن غياب المبادئ التى تؤدى إلى ممارسة حق الاختلاف بكل ما يؤكد معانى المواطنة الموصولة بقيم الحرية والعدالة والمساواة بين كل المصريين طبقيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. لقد بدأنا هذا النوع من البحث على مستوى المدارس الحكومية، وبدأنا نتطلع إلى الإفادة من تجارب الأمم المتقدمة فى التعليم مثل: فنلندا والسويد، وآن الآوان أن نقوم بهذه الدراسات التى أشير إليها على مستوى الوعى الثقافى لنعرف اتجاهات هذا الوعى لدى الشباب المصرى من ناحية وهم عماد المستقبل- ونراجع سياستنا الإعلامية والثقافية، وذلك بما يمنح وزارة الثقافة - على سبيل المثال- الدعم المالى الكافى، ويحيل وزارة الشباب إلى وزارة فعالة تؤمن بأن العقل السليم فى الجسم السليم، والعكس صحيح بالقدر نفسه. وأخيرًا الإعلام الذى هو فى أَمسِّ الحاجة إلى المزيد والمزيد من الحرية وحق التفكير والإبداع والاختلاف حتى مع الدولة، فلا أحد معصوم من الخطأ، والديمقراطية لن يصلحها سوى المزيد من الديمقراطية، فيما كان يقول طه حسين.
لقد قرأتُ فى «الأهرام» (عدد 4/8/2018) مقالًا مهمًّا للأستاذ عبد الغفار شكر بعنوان «الشباب المصرى والثقافة السياسية» وأوافقه كل الموافقة على أن الديمقراطية هى المَخرج الأساسى للشعوب العربية من مأزقها الحالى، ومما تعانيه من مشكلات وأزمات، فلا يمكن دون الديمقراطية الحديث عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو التطلع إلى تحديث حقيقى فى المجتمع. والحق فيما يقول الأستاذ عبد الغفار شكر- إنه لا يليق أن تدخل مصر العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين وبها ملايين من الأميين. إن هذه الملايين هى نقاط الضعف الحقيقية فى جسد الوعى المصرى بوجه عام. ولكونها كذلك فهى منفذ سهل لجراثيم التعصب الدينى ومن ثم الإرهاب الدينى. والأمية فى هذه الحالة - هى الأرض الممهدة أصلًا - لاقتحام الجهالة الدينية المقرونة بالتطرف والتشدد والتسلف فى آن. والقضاء عليها ليس بالأمر المستحيل أو حتى الصعب، فقد استطاعت «كوبا» أن تقضى على الأمية فى عام واحد. ومن المؤكد أن مصر تستطيع أن تفعل ذلك بواسطة منظومة تحددها المجموعة الوزارية التى لا أزال أطالب بها، فى موازاة المجموعة الاقتصادية. وإذا كان المجتمع المصرى يضم أكثر من أربعين مليون شاب حقًّا، فإن هذا الرقم لا يحسب فى جانب الإيجاب من تكوين المجتمع، فالكثير من هذا الشباب لا يزال يعانى بطالة ما بعد التخرج الجامعى، فضلًا عن حلم الهجرة حتى لو بطريقة غير شرعية، قد تنتهى بالفشل أو بالموت فى البحر الأبيض المتوسط، ولا توجد إحصاءات دقيقة معلنة عن أطفال الشوارع الذين يمكن أن يتحولوا إلى فرائس سهلة لجماعات الإرهاب الدينى ومنظماته، فضلًا عن العصابات الخارجة على القانون بوجه عام فى كل مجال من المجالات التى يشيع فيها الفساد والإفساد. وتظل الملايين التى تعانى الأمية هى الأخطر والقنبلة الموقوتة التى يمكن تفجيرها من خارج المجموعة الوطنية وضدها فى آن.
تبقى نقطة أخيرة خاصة بالخطاب الدينى الذى لا أظن أن الأزهر قادر على تجديده، وبما يؤكد أن مهمة هذا التجديد تقع على عاتق مفكرى المجتمع المدنى بالدرجة الأولى، أو على الأقل أصحاب الاتجاه العقلانى من رجال الأزهر، ابتداء من الدكتور محمود زقزوق - شفاه الله وأعاده سالمًا إلى أزهره - وليس انتهاء بالدكتور سعد الدين الهلالى. وأذكر أن أهم كتابات تجديد الفكر الإسلامى، كتبها أمثال: طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل وأمين الخولى فى دراساتهم الإسلامية، وذلك بالقدر الذى نجده عند الثوريين المعاصرين من أتباع ابن رشد، أو المعتزلة فى الأزهر الشريف. أما وأن الأزهر الشريف لم يعد متقبلًا لفكرة التجديد عمليًّا، ويجد سنده ودعمه المعنوى والمادى فى الإسلام السلفى الوهابى، فمن الضرورى أن ينهض مثقفو المجتمع المدني- خصوصًا من أساتذة الجامعات المصرية وأمثالهم فى الحياة الثقافية خارج الجامعة - بعبء تجديد هذا الخطاب الدينى، وإشاعة خطاب جديد تبثه أجهزة الإعلام المصرية الخاصة والعامة. وأعتقد أن هذه هى البداية فى تطوير وعى الإنسان المصرى وتنميته وتأكيد وعيه بهويته الثقافية التى هى الوجه الآخر من هويته الوطنية.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.