يشهد النظام الإقليمى العربى منذ العام 2011 حراكا سياسيا يمكن أن يؤرخ به لما قبله وما بعده، وبالرغم من الاختلاف الكبير حول توصيف هذا الحراك، وأهدافه، وتداعياته فإن هناك شبه إجماع بأن الدولة الوطنية العربية، وبالتبعية النظام الإقليمى العربى باتت تواجه تحديات وتهديدات غير مسبوقة، وأن هناك واقعا إقليميا ودوليا اختلف كثيرا عما قبل، يفتح الباب واسعا أمام متغيرات سياسية وثقافية وأمنية تؤسس لمفاهيم جديدة، وتعيد تشكيل مفاهيم القوة وتوازناتها. وأعتقد أنه لن يختلف معى أحد فى أن منطقة الشرق الأوسط صارت تشهد تحولا غير مسبوق فى ميزان القوى لمصلحة الكيان الصهيوني، ودول الجوار مثل تركيا الأردوغانية، وإيران، وأصبحنا نشهد أجندات إقليمية لهذه الدول لمستقبل المنطقة، ولأردوها فيها، فى ظل غياب إستراتيجية عربية محددة، وقائد إقليمى عربى مؤثر. فى ظل هذا الوضع الإقليمى الملغم بكثير من المخاطر والتحديات؛ تتطلع الشعوب العربية قبل الأنظمة لقيادة عربية، تتصدر المشهد، وتقود النظام العربى نحو استعادة استقلاله، وتحصين مناعته ضد تدخلات الخارج، وحماية الدولة الوطنية العربية من التفكك والصراع الداخلي، وتعيد التوازن المفقود مع القوى الطامعة فى مقدرات الإقليم. وعلى الفور، تتوجه الأنظار جميعها للقائد الطبيعى والتاريخى .. مصر, ورغم كل ما لحق بدورها من تراجع فى التأثير والنفوذ لاعتبارات عديدة، فإنها تظل أكثر الفاعلين قدرة واستعدادا وتأهيلا للقيام بهذا الدور، فى ظل فشل محاولات عدة من أطراف أخرى - مدعومة بقوى كبرى- عبر عقود طويلة القيام بهذا الدور. إلا أنه تظل قدرة مصر على استعادة هذا الدور بفاعلية وتأثير كسابق عهدها مرهونة بقدرتها على الخروج من أزماتها الداخلية، فلا شك أن الدور الخارجى لأى دولة هو فائض قوتها الداخلية؛ بمعنى أن قوة البيئة الداخلية للدور المصرى هو الفاصل فى صعود وتراجع هذا الدور؛ فالبيئة الخارجية (إقليمية/دولية) لا سيطرة للدولة عليها بقدر ما تملكه من قدرة للسيطرة على بيئتها الداخلية. لذا؛ فعدم ملاءمة البيئة الخارجية لممارسة الدور الإقليمى لا يعنى بالضرورة العجز عن القيام بهذا الدور أو التسليم بتراجعه, بقدر ما هو مرتبط بقدرات الدولة الداخلية التى تؤهلها لممارسة هذا الدور، وإرادتها فى استخدام هذه القدرات لتكيف أوضاعها بحيث تتناغم مع بيئتها الخارجية، حتى تتاح لها الفرصة لتغيير هذه البيئة بما يخدم مصالحها ودورها فيها. وفى هذا الإطار، يجب أن أثمن دور القيادة السياسية فى مصر -حاليا- التى تسعى بقوة لأن تنجز على المستوى الداخلى مشروع نهضة حقيقى على جميع المستويات، يجعل من مصر نموذجا جديرا باستحقاقات القيادة، ودائما ما كانت الريادة والنفوذ المصرى فى نظامها الإقليمى والمحيط الدولى مرتبطا بمدى قدرتها على أن تكون دولة نموذج. وهنا، أؤكد أنه ليس قدرا على مشروع بناء الدولة الوطنية المصرية الحديثة الإجهاض من قبل القوى الكبرى على غرار ما حدث لمشروعى محمد على وجمال عبد الناصر، وهو ما نجحت فيه دول مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، ولابد أن يكون المعيار الحاكم لنجاح المشروع المصرى هو قدرته على تقوية البيئة الداخلية اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، والأهم حماية السلم والأمن الاجتماعى من كل محاولات النيل منه، هذا على المستوى الداخلي. أما على المستوى الخارجي، ومن منطلق عدم التناقض بين المصلحة الوطنية المصرية، والمصلحة القومية العربية لابد أن تخضع مصر علاقتها بمحيطها العربى والإقليمى للمصلحة الوطنية المصرية فى استكمال مشروع دولتها الحديثة، مع ضرورة أن تحافظ مصر على تحالفاتها العربية - العربية، لا سيما مع سوريا، فتاريخ مصر يشير إلى أن سوريا ومصر وحدة واحدة لا تقبل القسمة، وعلى مصر أيضا أن تستعيد تحالفاتها التاريخية مع دول مثل روسيا والصين والهند ودول من أمريكا اللاتينية، وعليها أيضا أن تقيم شبكة أمان ومصالح عربية وإقليمية، تمكنها من المناورة، وتتجنب الصدام مع القوى الكبرى, خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، أم تجعل القوى المناهضة لها تعيد حساباتها كثيرا قبل الدخول فى صدام مع مصر، حماية لمصالحها، وتحسبا لضخامة خسائرها المحتملة نتيجة هذا الصدام. لمزيد من مقالات ◀ سامى شرف