- تشغل قضية الدور الذى تقوم به الدولة فى محيطها الإقليمى أحد مواقع الصدارة فى سياستها الخارجية، حيث تحرص الدول عادة على لعب دور فعال فى محيطها الإقليمى بغية المحافظة على مصالحها الحيوية، التى تتمثل بالأساس فى أمنها القومى واستقرارها السياسى ونموها الاقتصادى، وفى هذا الإطار حرصت مصر دوماً على تبوؤ مكانة متميزة ولعب دور مؤثر وفعال فى محيطها الإقليمى، انطلاقاً من قناعتها بأهمية وحيوية هذا الدور اللازم لتحقيق قوتها وأمنها والمحافظة على سيادتها وقدرتها على تأمين حدودها ضد أى خطر أو تهديد خارجى، وقد تمكنت مصر -عبر تاريخها الطويل- من القيام بدور قيادى ومؤثر فى محيطها العربى والأفريقى، هذا الدور الذى ذاع صيته فى الخمسينات والستينات والسبعينات وصار نموذجاً يحتذى به. - إلا أن هذا الدور قد شهد تراجعاً وانحساراً بشكل غير معهود وتحديداً منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضى، ويمكن ملاحظة هذا التراجع فى الدور الإقليمى المصرى بصورة واضحة من خلال التعرض لملفين أساسيين باعتبارهما أحد المؤشرات المهمة على قياس حركة هذا الدور ومساره صعوداً وهبوطاً وهما: ملف الصراع العربى الإسرائيلى، الذى ينظر إليه الكثيرون باعتباره المرآة العاكسة لسطوع الدور المصرى أو خفوته، والثانى هو الملف الأفريقى بشقيه المائى والسياسى. - هذا التراجع نتج عن عدة عوامل منها التغير فى ظروف البيئتين الإقليمية والدولية، فالسياسة الخارجية لا تمارس دورها فى فراغ، ولكن هناك بيئة خارجية محيطة تؤثر فيها وتتأثر بها، هذه البيئة إما أن تكون بيئة مواتية لممارسة دور مؤثر فى الأحداث، أو أن تكون بيئة عدائية صراعية تستدعى تعبئة كل الطاقات وتجنيد كل الأدوات حفاظاً على المصالح الحيوية والاستراتيجية للدولة وتقليص أى دور خارجى لها، وفيما يخص أهم التغيرات الخارجية التى أثّرت على دور مصر الإقليمى فيمكن الإشارة إلى: - أولاً: التغيرات التى حدثت فى البيئة الدولية وتوازنات القوى العالمية، التى تمثل انقلاباً فى مكونات هذه البيئة، وخروجاً عن عناصرها الحاكمة، وتمثل ذلك فى انهيار المنظومة الاشتراكية من جهة، وتغول الدور الأمريكى العالمى بشكل لا سابق له من جهة أخرى، وهو ما يُفترض معه إعادة فك وتركيب الأدوار الإقليمية للدول، بما فيها مصر. - ثانياً: التغيرات التى ألمت بالبيئة الإقليمية التى حدثت إثر اندلاع حرب الخليج الثانية وموجة ثورات الربيع العربى وتأثيرها على دول المنطقة، خاصة سوريا وليبيا والسودان، ما أدى إلى تغير معادلات القوى الإقليمية وانقسام الصف العربى إلى معسكرين متنافرين، وعليه بدا الدور المصرى أقل جاذبية وإقناعاً للدول العربية التى لا تنتمى لمعسكر مصر، خاصة مع التدخل الأمريكى الفج فى المنطقة وارتباطه بعلاقات وثيقة جداً مع دول أخرى غير مصر. - ثالثاً: الصعود المتنامى لأدوار القوى الإقليمية، خاصة تركيا، ودول الخليج، خاصة السعودية وقطر، وإيران، وأيضاً فى أفريقيا قد تغير المشهد تماماً فى ظل بروز قوى جديدة، مثل جنوب أفريقيا، وإثيوبيا ونيجيريا، وكوت ديفوار، وباتت هذه القوى أكثر حضوراً على المستوى القارى والدولى، وكذلك لا يمكن تجاهل إسرائيل، حيث ظلت تحافظ على دورها باعتبارها قوة إقليمية ذات مستويات تسليحية عالية ومرتبطة بعلاقات تحالف استراتيجى مع الولاياتالمتحدة. - ورغم وجاهة هذه العوامل الخارجية وتأثيرها على حدود الدور الإقليمى لمصر فإنه كان من الممكن أن تتكيف الدولة معها وتحافظ على دورها، لكن وجود عوامل أخرى داخلية كان له التأثير الأكبر، ومن هذه العوامل: - أولاً: ضعف الأداء الداخلى للحكومة المصرية، الذى يؤثر بلا شك على فعالية دورها الإقليمى، فالسياسات المتخاذلة والبطيئة للنظام الأسبق فى ظل حكم الفرد وشخصنة القرار السياسى، وتنحية أى دور لمؤسسات صنع قرار السياسة الخارجية، بالإضافة إلى تحويل وزارة الخارجية -أعرق جهاز دبلوماسى فى الشرق الأوسط بل وفى العالم- إلى جهاز بيروقراطى، بالإضافة إلى الاضطرابات الداخلية عقب أحداث ثورة 25 يناير وموجة الإرهاب التى تضرب المنطقة، أدى ذلك كله إلى عدم قدرة الدولة على مواجهة التحديات الخارجية. - ثانياً: الارتباط القوى بين القاهرة وواشنطن خلال حكم النظام الأسبق، الذى أثر بشكل سلبى على حيوية الدور المصرى وفاعليته، وقدرته على الإفلات من الضغوط الأمريكية المستمرة، التى تحدد مسارات حركته داخلياً وخارجياً. - ثالثاً: التحولات التى طرأت على العقل المصرى فى أواخر حكم النظام الأسبق، وصبت فى مجملها فى الاقتناع بضرورة الاهتمام بما يدور فى الداخل قبل الالتفات إلى الخارج العربى وحمل همومه، باعتبار أن هذا الخارج قد استنفد القدرات المصرية ونال منها بشكل كبير فى سنوات الحرب. - هذا وعلى الرغم من انحسار الدور المصرى وخفوته يظل يحمل بريقاً خاصاً تجد صداه فى نفوس الشعوب العربية والأفريقية، ما يجعل عودته ممكنة، إلا أن ذلك يجب أن ينطلق من مصالح مصرية محددة، ويعتمد على آلية لتوظيف القدرات والإمكانيات الوطنية لأقصى درجة ممكنة، مع وجود رؤية واضحة لمصر تجاه قضايا الإقليم تتسم بالإيجابية والجرأة فى التعامل معها وامتلاك روح المبادرة والمبادأة.