يحكى ابن سينا فى سيرته الذاتية أنه أقدم على قراءة كتاب الميتافيزيقا لأرسطو فلم يفهم شيئا! فعاود القراءة ولم تتغير النتيجة.. فترك الكتاب جانبا فترة من الزمن ثم عاد لقراءته مرة بعد أخرى فقرأه أربعين مرة حتى حفظه ومع ذلك لم يفهم شيئا ويئس من تكرار المحاولة وفقد الأمل فى الفهم.. وفى يوم خرج إلى سوق الوراقين ووجد بائع الكتب يقف على منصة ويلوح بكتاب وينادى: بثلاثة دراهم فقط.. وما إن رأى ابن سينا حتى مد يده بالكتاب راجيا منه أن يشتريه، فرفض ابن سينا الشراء متبرما واثقا من عدم جدوى تكرار المحاولة. فقال البائع إنه كتاب قيم يساوى على الأقل عشرة دراهم لكننى أبيعه بثلاثة فقط لأن صاحبه معذور. اشترى ابن سينا الكتاب وكان موضوعه شرح الفارابى لكتاب الميتافيزيقا لأرسطو. وما إن قرأه ابن سينا حتى جاءه فتح من الله وصارت كل أفكار أرسطو فى ذهنه بينة وواضحة. هواة القراءة هم الذين يمكن أن تحدث لهم هذه المفاجآت السارة غير المتوقعة. فالبعض يذهب إلى المكتبات أو إلى معرض الكتاب للبحث عن كتاب بعينه، ولكن الأغلبية تذهب بدافع حب الاستطلاع لتلتقط بحماس كتابا يتعرض لموضوع لم يكن يخطر له على بال أو يتناول موضوعا تشعر بأهميته لكنه غامض بالنسبة لك فيزيد من معارفك عنه. ويكتشف الزائرون حتى من مجرد استعراض الأغلفة أمام العيون ما يشغل البشر وما يفتنهم. ويستدلون من الكتب المترجمة عما تبحث عنه الشعوب لدى الشعوب الأخرى. القراءة نشاط عقلى عظيم الفائدة للإنسان، فهى تساعد فى النمو العقلى والنفسى للأطفال كما تؤدى إلى تنمية الثروة اللغوية وحسن التعبير الشفاهى والكتابي. وتسمح القراءة للإنسان بالدخول إلى عوالم كثيرة ما كان له أن يلج إليها لو اعتمد على انتقاله البدنى. القراءة تتيح للإنسان أن يعيش أكثر من حياة. ولهذا أجاب كاتبنا الكبير عباس محمود العقاد عندما سأله أحد الصحفيين عن عمره فقال: إن عمرى هو مجموع أعمار كل من قرأت لهم. ويشير البعض إلى أن التليفزيون نظرا لجاذبيته يصرف الناس عن القراءة دون أن يعوضهم عن منافعها، ويرى الآخرون الأمر على العكس، فالتليفزيون يقدم للناس كل منافع القراءة مصحوبة بالاستمتاع والراحة. والواقع أن الحق فى صف الفريق الأول. إذ كشفت الأبحاث الفسيولوجية والعصبية المعتمدة على تصوير الدماغ فى أثناء المشاهدة التليفزيونية وكذلك قياس الموجات المخية عن غلبة لموجات ألفا التى تدل على استرخاء ذهنى مشابه لحالة ما بين اليقظة والنوم وهو يجعل المرء قابلا باستسلام للإيحاء والتأثير وهو ما يستفيد منه منتجو الإعلانات. كما كشفت الأبحاث عن تعطيل جزئى للحواس يؤدى إلى نقص الإدراك. أما فى حالة القراءة فهناك استنفار لكل الملكات الذهنية من تجريد وتذكر وخيال واستدلال تعمل بصورة فائقة للعادة. والخلاصة أن التليفزيون يضعف من القدرات الذهنية فى حين أن القراءة تسهم فى تقويتها. بالإضافة إلى هذه الصفات المعرفية التى نكتسبها من القراءة، هناك أيضا سمات شخصية فالقراءة تقتضى المثابرة والتصميم والصبر، وكلنا يعلم الحالة التى نضع أنفسنا فيها حينما نجلس أمام التليفزيون: مستقبلين سلبيين مسلوبى الإرادة. ولكى نقف على طبيعة النشاط الذى يشتعل فى الذهن عند القراءة لنتصور مثلا أننا عند القراءة، صادفتنا كلمة ثوب أو بيت فنحن تلقائيا نبحث عن مفهوم لها فى ذهننا فتتداعى مئات الصور عن البيوت ثم نحاول من خلال سياق القراءة أن نستبعد الصور غير الملائمة لنتصور البيت فى زمنه التاريخى وتراثه المعمارى وبيئته الجغرافية وما يتسم به من فقر أو ثراء. نستطيع من خلال ما سبق أن ندرك الأهمية الكبرى لمعارض الكتاب. فهى بمنزلة العيد الذى يذكرنا بأهمية القراءة. ولكن قد يحتج على ذلك شخص ويذكرنا بأن معرض الكتاب ليس إلا فاعلية تسويقية تستغل حب الاستطلاع عند الجمهور لتحقيق أرباح. لكن هذا أمر محمود لأن الجانبين يستفيدان. أما عن تاريخ بداية إقامة معارض مخصصة للكتاب فالأمر يحتاج بحثا تاريخيا مدققا. ولكننى أتذكر أن صديقنا الفيلسوف الفرنسى مارك سوتيه حكى لنا فى كتابه نيتشة والكوميونة عن معرض الكتاب فى مدينة زيورخ والذى أقيم فى نهاية الستينيات فى القرن التاسع عشر أى منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً وحضر فيه دون أن يتقابلا كل من كارل ماركس لتوقيع كتابه رأس المال، ونيتشة لتوقيع كتابه مولد التراجيديا اليونانية، وكان للكتابين أثر بالغ فيما بعد. وتبين هذه اللفتة حرص المؤلفين على لقاء القراء ، وحرص القراء على الحصول على توقيعات المؤلفين. حينما تصحبون أطفالكم لزيارة معرض الكتاب فإنكم تحققون بذلك خيرا كبيرا لهم ولكم. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث