بعد سبعين سنة من خدمة المهنة كان سؤال محطة النهاية الذى طرحه الأستاذ هيكل قبل رحيله: كيف يمكن للصحافة أن تكون آخر ريشة فى آخر جناح يقدر على الطيران فى أجواء مضطربة، علها تكفر عن نصيبها من المسئولية باكتشاف ممر مفتوح إلى المستقبل؟ وكانت الإجابة العملية التى قدمها الأستاذ قبل رحيله هى إنشاء مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية لتعزيز وتنمية خبرات العاملين فى الصحافة وبصفة خاصة الأجيال الجديدة، سواء بالمنح التدريبية فى كبريات الصحف العالمية أو الجوائز التشجيعية وقد تم تأجيل الحفل موعد يحدد فيما بعد. والأستاذ هيكل قيمة صحفية هائلة، وضع مهنة الصحافة والأهرام فى مكانة راقية وأسس مدرسة صحفية، وصاحب منهج متميز فى البحث والتحليل والسرد، وأرخ بسلسلة من الكتب للأحداث التى مرت بمصر والمنطقة في100 سنة مضت، وكان الجيل الجديد محور تجربة هيكل، أما درة التاج التى زين بها الأهرام فهم قادة الفكر والإبداع وأولهم الحاضر دائما توفيق الحكيم، الاثنان وجهان لحقيقة العطاء، هيكل يهتم بالبحث عن الحقائق تحت الدخان ومن صناعها الاصليين، والحكيم يبحث عن الحقيقة كما يراها فى خياله وإبداعه القصصى والمسرحي. وهنا تحضرنى حكايتان بطلهما (ابن هيكل) و(ابن توفيق الحكيم).. الأولى؛ حين كان الكاتب توفيق الحكيم ضيفا على الأستاذ هيكل بمنزله، ودخل عليهما الطفل (عليّ) الابن الأكبر للأستاذ، وأحب الحكيم أن يختبر ذكاء الطفل بفزورة، فسأله: ما الشيء الذى يعدى البحر ولا يبتل بالماء؟ وكانت إجابة الطفل على فوراً: كل من يركب الطائرة! وهز الحكيم رأسه متعجلا: الإجابة خطأ.. بل العجل فى بطن أمه! شرد الحكيم لحظة، ثم تنبه إلى صواب إجابة الطفل، فقبَّل رأسه معتذرا ومهنئا على الجواب العصري، وانسحب من السباق والتفت إلى هيكل قائلا باستسلام: الدنيا تغيرت، ويجب أن تتغير لغة الهزار والفوازير بتغير الأجيال! والحكيم الرائد المسرحى كان بطلا حين انسحب من السباق مع ابن الجورنالجى الذى صار «حكيما» فيما بعد، بينما كان هيكل بطلا فى الموقف الثانى مع الشاب إسماعيل توفيق الحكيم، حين ذهب الى «عمه» هيكل شاكيا رفض والده إعطاءه «سلفة» لتطوير فرقته «بلاك كوتس» الموسيقية، قبل الحفل الذى ستقيمه الفرقة فى حديقة الميريلاند، وعندما سأله هيكل عن السبب قال إسماعيل لأن الوالد لا يؤمن بأن العمل فى الفن والموسيقى العصرية يضمن حياة كريمة لولده مثل العمل فى الهندسة أو الطب، لكن هيكل لم يخرج من جيبه المبلغ احتراما لقدر الحكيم وقيمته بل صعد إليه فى الدور السادس وقال لتوفيق الحكيم: إن حدائق الميرلاند تنظم حفلا لمجموعة من الشباب يعزفون الموسيقى الحديثة، وعادة تلقى هذه الحفلات إقبالا جماهيريا يزيد على ألف شاب وفتاة وهو صميم رسالة التنوير، فما رأيك لو تشاهد الحفل وتكتب للأهرام مقالا عن هذه التجربة مقابل 5 آلاف جنيه مكافأة، وكانت حيلة الأستاذ هيكل أن تكسب الأهرام كتابة توفيق الحكيم التى حتما ستكون متميزة ويكسب إسماعيل مبلغ الخمسة آلاف جنيه التى طلبها لتطوير فرقته، والرابح الأكبر قارئ الأهرام، وذهب الحكيم بصحبة الدكتور يوسف ادريس والفنان صلاح طاهر، وفوجئ بأن مايسترو فرقة ال «بلاك كوتس» الموسيقية هو ابنه إسماعيل، وجلس الحكيم وسمع وأعجب وطرب وكتب التجربة فى مقال مؤثر بعنوان «لقاء الأجيال» وضرورة احترام كل جيل للجيل الذى يليه. الأهم من الخمسة آلاف جنيه التى «نفحها» له الأستاذ هيكل أن الحكيم انقلبت حياته وموقفه من ابنه الذى اعترف بإهمال موهبته الفنية منذ البداية، وأحب الفرقة الموسيقية ومن بين أعضائها جاءت هايدى سلماوى التى أحبت فن إسماعيل وعشقته قبل أن يتزوجا بعد وفاة زوجته الأولى، وكان لدخول هايدى فى حياتهما, هو وابنه, تأثير بالغ على ارتباطه بهما، فكان الحكيم يطرق باب الغرفة لأى سبب لكى يجلس معهما وبعد أن كان يرفض اشتغال ابنه بالموسيقى كان يفخر به ويقول إن إسماعيل أول من أدخل الموسيقى الغربية إلى مصر، وعلى يديه تعلم الشباب عزف الجيتار، وبعد وفاة ابنه تعلق بهايدى جدا وعاشت معه خمسة أشهر، تقضى وقتها لإضحاكه لينسى حزنه وعندما تتركه لينام تدخل حجرتها وتبكى حزنا على مصابه الكبير، إلى أن بارك زواجها الناجح وسفرها لباريس. وقبل أن أنتهى من كتابة هذه اللمحة عن الأستاذ والأجيال الجديدة جاءنى اتصال من الشاعر الكبير مصطفى الضمرانى من فراش المرض وقال لا تنسوا الأستاذ هيكل فى عيد ميلاده فعطاء هذا الرجل يزداد نورًا بمرور الأيام.. أضيئوا قيمة الوفاء للجيل الجديد حتى لاتكون حركتهم الى المستقبل قفزة فى الظلام. لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف