•• الزحام شديد فى محيط قاعة المؤتمرات. إنها ليلة اللقاء مع الموسيقار عمر خيرت، لذلك ترى البهجة على الوجوه على الرغم من أن آلاته الموسيقية لم تعزف بعد ألحانه. يتوافد الناس على القاعة. قبل بدء الحفل بساعة لم يكن هناك مقعد واحد خال. إنه شوق المصريين إلى الصفاء والتحليق بعيدا عن واقع فيه الكثير من المشكلات والدماء. نعم فموسيقى عمر خيرت الناعمة والحالمة تنتزعك من حالة الكآبة أو الغضب. موسيقاه تتحدث، تخاطب الروح والوجدان.. موسيقاه تستدعى الماضى إلى الحاضر، وتجعل من يعيشون حاضرهم يتنسمون عبير ماضيهم وشبابهم وذكرياتهم، ويتوكأون على الشجن الذى يثيره هذا كله، وفى الوقت نفسه تجعل شبابا يعيش حاضره ينظر إلى زمن مضى..؟! •• احتلت أعلام مصر مقاعد القاعة. كان ذلك مؤشرا إلى الحالة الوطنية التى أراد بها صناع الحفل نقلها إلى الحضور. فمصر ليست هذا الإرهاب.. مصر ليست كلها هذا الألم ولا هذا الأنين ولاتلك الشكوى. مصر هى الفن والموسيقى والثقافة والأدب والابتسامة والبهجة والرياضة. مصر هى التنوع وليس الاختلاف. وهذا التنوع جزء من عبقرية هذا البلد وتعبير عن عبقرية شعبها. مصر فعلا فيها الحاجة وعكسها. وفيها ألف حاجة حلوة وليس حاجة واحدة. وعمر خيرت وموسيقاه من الحاجات الحلوة فى مصر.. موسيقى الرومانسية وموسيقى الذكريات وموسيقى الأحلام.. •• عرفت عمر خيرت منذ أيام الشباب.. عرفته عازفا للدرامز فى فريق البتى شاه وزميلا لعزت أبو عوف وصادق قلينى وغيرهم، وفى زمن كانت مصر تنهل من الغرب موسيقاه مع ظهور فريق البيتلز الذى قلب كيان الموسيقى فى ذلك الوقت، وكان جزء من المجتمع المصرى، يعيش مباراة فنية مثيرة بين فريقين هما البتى شاه والبلاك كوتس الذى يقوده إسماعيل الحكيم نجل الكاتب والأديب الكبير توفيق الحكيم. وكنا نندهش ونتساءل كيف يتعامل راهب الفكرمع نجله الذى ينفجر كل ليلة بموسيقى صاخبة.. أظن أن توفيق الحكيم تحدث عن صراع الأجيال بسبب ذلك. •• أهدى عمر خيرت حفله إلى روح الفنانة الراحلة فاتن حمامة، بضمير أبلة حكمت، وبصورة ظهرت فى خلفية المسرح وانتزعت التصفيق من الناس تقديرا لرسالة الموسيقار، وتقديرا لرسالة فاتن حمامة مع الفن. وكلاهما رفع راية الاحترام.. والاحترام هو الذى يبقى ويعيش ويخترق الوجدان. كم هى جميلة موسيقى عمر خير.. كيف تحلق بك فى آفاق السحاب، فتسمعها مائة مرة، ويداعبك الشعور نفسه فى كل مرة؟ •• تفاعل الجمهور مع معزوفات الموسيقار. تارة بالصمت التام إنصاتا واستمتاعا، وتارة بالتصفيق على الإيقاع، والمشاركة فى معزوفة قضية عم أحمد كآلة موسيقية عريضة تضم آلاف الأيدى.. كما تفاعل الجمهور مع أمينة خيرت التى قدمها الموسيقار فى الحفل حيث شدت بأغنيتى « فيها حاجة حلوة، والمصرى » ونالت إعجاب الحضور. فصوتها رائع وصاف وقوى أيضا حتى إنها يجب أن تترك مسافة بين حنجرتها القوية وبين الميكروفون.. •• يبقى فى الحفل شىء من العذاب السابق واللاحق والمستمر.. فيكون الدخول لمركز المؤتمرات من بابين، فتتكدس السيارات، مع أن المركز به العديد من المداخل والمخارج، ولم أفهم بعد تلك الحكمة من ثقب الإبرة الذى يدفع من خلاله المصريين إلى مباريات كرة القدم وإلى حفلات الموسيقى.. لعلها فكرة من تلك الأفكار التى تقول إن المعاناة قبل البهجة والمتعة مثل ألم الحب. تصنع السعادة ؟!